تحقيقات أسبوعية

للنقاش | التطبيع بين الشريعة والقانون الدولي

التطبيع مع إسرائيل هو ممارسة سياسات على مستوى الحكومات أو أفعال على مستوى الأفراد والجماعات والتعامل مع هذا الكيان على أنه جزء طبيعي من الوطن العربي، ومنذ نكبة 1948 لم تتفق الدول العربية مجتمعة على رأي واحد في مواجهة العدوان الإسرائيلي وتبخرت كل شعارات جامعة الدول العربية، وفي مؤتمر الخرطوم عام 1967، تم الإعلان عن مبدأ “لا صلح لا اعتراف لا تفاوض” مع إسرائيل، وكانت هي الكلمات القوية التي لا تعبر فعلا عن إرادة عربية جماعية، بل كانت تستعمل من أجل الاستهلاك السياسي لتخدير الشعوب العربية وخداعها إلى أن وصلنا إلى مؤتمر القمة المنعقد في الرباط سنة 1971، والذي كان نقطة تحول جذرية خطيرة في مسار القضية الفلسطينية يمكن اعتبارها بداية النكبة السياسية التي وصلت بها إلى منحدر التنازلات عن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، وتراجعا سياسيا خطيرا باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بدلا من اعتبار القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعا، وكان ذلك يهدف إلى تجريدها من جذورها وأبعادها العربية واعتبارها قضية الفلسطينيين على وجه التخصيص ليتحول الصراع من صراع عربي – إسرائيلي إلى صراع ثنائي بين إسرائيل والشعب الفلسطيني وكأن العرب لا شأن لهم بهذه القضية.

 

بقلم: حسوني قدور بن موسى       

محامي بهيأة وجدة

 

    قالت غولدا مائير سنة 1967: “عندما أحرقت القدس لم أنم طوال الليل، كنت أعتقد أن العرب سينزحون إلى إسرائيل من المحيط إلى الخليج لرمينا في البحر، وفي الصباح لم يقع أي شيء، فتأكدت أن العرب نائمون لا يستطيعون فعل شيء”.. فمن الخوف من رمي إسرائيل في البحر إلى الاستسلام والتطبيع معها دون مقابل، في حين ظلت إسرائيل ثابتة على مواقفها منذ عهد تيودور هرتزل، مهندس المشروع الصهيوني الاستيطاني لتحقيق إقامة دولة إسرائيل في قلب الوطن العربي، وجاء رد شارون، مجرم مجزرة صبرا وشاتيلا على مبادرة السلام العربية المعلنة في قمة بيروت، بمذبحة جنين ومحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وقال مخاطبا العرب: “أنا شارون الذي تعرفونه جيدا، لست هازلا عندما أقول على لسان الشعب الإسرائيلي أن الأرض الواقعة بين نهر الأردن و البحر الأبيض المتوسط هي أرض إسرائيلية، فاعترفوا بنا مجانا وبلا مقابل وافتحوا أبوابكم وأسواقكم لنا أنتم كرماء”، وأضاف: “نحن أخذنا الأرض بالقوة وأنتم العرب تقولون في كل مناسبة: ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، فانزلوا إلى الميدان إذا شئتم وجربوا مرة أخرى عضلاتكم إذا لم تكونوا قد شبعتم من الضرب والإذلال”.. فجاء الرد العربي هو الهرولة إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني خفية وعلانية دون مقابل(..).

إن التطبيع يهدف إلى إنشاء علاقات مع إسرائيل في جميع المجالات، وهذا الوضع أدى إلى التنازل عن القدس وعن القضية الفلسطينية، فبعض الدول المطبعة علانية تقيم علاقات مع إسرائيل تحت غطاء أهداف استراتيجية استنادا إلى حجج مخالفة للشريعة الإسلامية، فالتطبيع مع إسرائيل ينقسم إلى نوعين: صريح وخفي، والحكام العرب المطبعون علانية ينادون بضرورة إنشاء علاقات مع إسرائيل من أجل أهداف استراتيجية، أما المطبعين خفية، فرغم زعمهم مساندة ودعم القضية الفلسطينية، إلا أنهم يرون أن زيارة إسرائيل والتعامل معها اقتصاديا وثقافيا وسياسيا لا يعتبر عملا تطبيعيا، وتعتقد الدول المطبعة علانية أن التطبيع مع إسرائيل يقوم على “مخاوف استراتيجية مشتركة بين الدول العربية وإسرائيل”، تستخدم كذريعة لتبرير التطبيع، أن تدخل إيران في عدة دول عربية مثل سوريا والعراق واليمن وكذلك العداء التاريخي بين ملكيات الخليج العربي وإيران، يفرض وجود وحدة في المصالح بين الدول العربية وإسرائيل لمواجهة ما يسمى بـ”الخطر الإيراني”، فهذه الحجة التي يستند عليها المطبعون العرب علانية هي حجة واهية ومخالفة تماما للشريعة الإسلامية وللقانون الدولي على اعتبار أن إيران دولة إسلامية من المستحيل أن تشكل الخطر الأكبر على الدول العربية حتى  ينبغي التطبيع مع إسرائيل، وحتى في حالة تدخل إيران في شؤون بعض الدول العربية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن إيران أخطر من إسرائيل، لأن المبدأ العام في الإسلام هو أن “الأمة الإسلامية أمة واحدة” وإيران هي جزء لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، ولهذا لا ينبغي القول أن إيران هي الخطر الأكبر الذي ينبغي أن يقرب الدول العربية من إسرائيل، فهذا المفهوم خاطئ وخطير سيؤدي إلى احتلال الدول العربية من طرف إسرائيل.

ومن الناحية الدينية، فالقرآن الكريم يعتبر الدول الإسلامية أمة واحدة مصداقا لقول الله تعالى: ((إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون)) (الأنبياء: 92)، وقال: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)) (المائدة: 51)، وفي نظر الشريعة الإسلامية، فإن الفلسطينيين هم المظلومين طردتهم إسرائيل من أراضيهم بغير وجه حق وهدمت بيوتهم بقوة السلاح، وهي المعتدية والقرآن الكريم أذن للمسلمين كافة بالقتال دفاعا عن وطنهم ودينهم وعن المقدسات الإسلامية، ففي الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين بالمدينة المنورة وتوحي بأن قريش لا يمتنعون عن تمردهم، أنزل الله الآية التي تأذن بالقتال ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير)) (الحج: 39)، وكان المسلمون في أول الأمر ممنوعين من قتال الكفار مأمورين بالصبر على أذاهم، فلما بلغ أذى الطائفة المشركة مداه وخرج الرسول (ص) من مكة مهاجرا إلى المدينة وأصبحت للإسلام قوة، أذن الله للمسلمين كافة بالقتال بسبب ما وقع عليهم من ظلم وعدوان، ورغم المعاهدات المبرمة مع اليهود، فإنهم حرضوا على إيذاء الرسول وحاولوا قتله في عدة محاولات منها محاولة بني النضير بعد غزوة “بدر”، وأرسلوا إليه أن يخرج إليهم في ثلاثين رجلا من أصحابه ووعدوا بأن يخرجوا بمثلهم من أحبارهم، فلما اقتربوا اقترح اليهود أن يجتمع الرسول ومعه ثلاثة من أصحابه بثلاثة من أحبارهم وقد حمل اليهود خناجرهم لولا أن امرأة منهم أفشت السر لأخ لها مسلم فأخبر الرسول، فرجع ولم يقابلهم، وغيرها من محاولات قتله غدرا.

وعليه، لا يمكن لأي مسلم، سواء كان في فلسطين أو في أي دولة إسلامية أخرى، أن يفاجأ بوسائل الغدر والمكائد والدسائس التي تنطوي عليها السياسة الإسرائيلية وعلاقتها بالآخرين، وكل هذا جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية، فعندما هاجر الرسول إلى المدينة كان اليهود من أقوى سكانها، وذلك لأنهم كانوا يسيطرون على التجارة ويثيرون الخلافات بين القبائل قبل مجيء الرسول، لكي يظلوا هم الأقوى، وكانوا يعتقدون أن النبوة فيهم وليس في أي سلالة عربية وقد جاء ذلك في القرآن الكريم: ((ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل مستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين)) (البقرة الآية: 89).

ينبغي للمطبعين الرجوع إلى هذه الحقائق القرآنية والسيرة النبوية لمعرفة حقيقة نوايا ودسائس إسرائيل، ويتذكروا المعاهدات التي أبرمها المسلمون مع اليهود ولم يوفوا بها وانتهت بغدرهم للمسلمين فلم يلتزم اليهود بالمعاهدة التي أبرمها الرسول معهم، بل سرعان ما نقضوها ولم يكتفوا بعدم الوفاء بالتزاماتهم التي حددتها، بل وقفوا مواقف عدائية أيضا، فكان ذلك سبب إجلائهم عن المدينة المنورة بعد غزوة بدر، وتشير كتب السيرة إلى أن يهود بني قينقاع أظهروا الغضب والحسد عندما انتصر المسلمون في معركة “بدر”، وقد بلغ بهم الأمر إلى حد المجاهرة بالعداء، فقام الرسول بجمعهم في سوق بني قينقاع وقال لهم: ((يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا، فقالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا في قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا))، ولا يخفى ما في ردهم من تحد وتهديد مع أنهم كانوا قد انضموا تحت لواء رئاسة الرسول بموجب المعاهدة وهذه الرواية وردت عن طريق ابن إسحاق، ولهذا يمكن القول أن اليهود بدأوا بالعدوان فحق للمسلمين أن يقاتلوهم ويصادروا أموالهم، وعندما هاجر الرسول والمسلمون إلى المدينة، رفض اليهود جميعا الإسلام، وتقريبا لذلك، قرر الرسول أن يقوم بمعاهدة بين المسلمين واليهود وإن كانوا يبطنون العداوة للمسلمين، فعقد معهم الرسول معاهدة ترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد أو المصادرة والخصام، فكان الرسول يعرف متى يبرم المعاهدة مع اليهود ومتى يحارب ومتى يقبل من اليهود بعض البنود ومتى لم يقبل منهم أن يمكثوا في المدينة المنورة يوما واحدا.

قد يكون في قرارة نفس كل مسلم غيظ كبير على اليهود لأنهم ظلموا الفلسطينيين وأخرجوهم من ديارهم، ومع ذلك، فإن الدين الإسلامي لا يظلم الناس شيئا، فليس معنى قيام دولة إسرائيلية أن تهضم حقوق الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين فالعلاقة بين المسلمين وأهل الكتاب واضحة في سورة الممتحنة: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)).

أما من وجهة نظر القانون الدولي، فإن مبدأ “المعاملة بالمثل” يعطي للدول العربية الحق في الرد على العدوان الإسرائيلي بالمثل، فهذا المبدأ له مكانة مهمة في العلاقات الدولية التي تقوم على فكرة المساواة القانونية بين أشخاص القانون الدولي رغم الاختلاف الكبير بين أعضاء الجماعة الدولية، إذ ينعم بعض من أعضائها بالتقدم العسكري والاقتصادي والتكنولوجي والهيمنة السياسية، في حين  يرزح البعض الآخر تحت وطأة التخلف والتبعية والضعف كما هو الحال عند العرب الذين عجزوا عن إثبات وجودهم أمام طغيان وجبروت إسرائيل، ويعتبر مبدأ “المعاملة بالمثل” وسيلة للمحافظة على التوازن بين الدول، عن طريق تصرف الدولة حسب ما تلقاه من معاملة في أعقاب أعمال عدوانية مخالفة للقانون الدولي ترتكبها دولة أخرى إضرارا بالدولة المعتدى عليها، حيث يهدف هذا المبدأ إلى إجبار الدولة المعتدية على احترام القانون.

إن المطبعين الذين يزعمون أن إيران هي الخطر الأكبر الذي ينبغي أن يقرب الدول العربية من إسرائيل، لا يريدون الاعتراف بأن إسرائيل مولعة بالصراع مع الدول العربية وشن اعتداءات مسلحة على كثير من دول المنطقة، نذكر منها العدوان على مصر والعراق والأردن ولبنان والسودان وسوريا وليبيا وتونس واحتلال الجولان بالقوة، حيث أصبح الشرق الأوسط مهددا بأسلحة نووية مدمرة  تملكها إسرائيل وهي واحدة من أربع دول مسلحة نوويا تمكنت من إنتاج كميات كبيرة من الرؤوس النووية وأنتجت 400 سلاح نووي وأسلحة نووية حرارية في مدى المليون طن (تي. إن. تي)، وقنابل نيوترونية وقنابل حقيبة السفر النووية، وتقوم بتصنيع أسلحتها النووية في مركز صحراء النقب للأبحاث النووية، وهذا يشكل تهديدا خطيرا حقيقيا ليس ضد الفلسطينيين وحدهم، بل ضد العرب جميعا.

ومنذ عام 1948، لا زال الشعب الفلسطيني يعيش النكبات والمآسي والاضطهاد والقمع والقتل وضم الأراضي بقوة السلاح أمام أنظار العالم والعرب والمسلمين والجامعة العربية القابعة في حفرة الضعف والفشل منذ نشأتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى