بقلم: نزار القريشي
ونحن نتابع تطور العقل العربي، الذي بات يتخبط بين الإفلاس والنهضة، على مراحل تاريخية بدءً وبزوغ مفهوم القومية العربية، التي انتشرت مع ظهور حركة القوميين العرب، والتي أيضا تأسست في أعقاب نكبة فلسطين 1948، حيث نشأت أساسا في لبنان بين أوساط طلبة الجامعات مثل الجامعة الأمريكية في بيروت، وضمت في صفوفها أردنيين وفلسطينيين وكويتيين وعراقيين، وهي فكرة في أصلها مكتسبة تعبر عن الانتماء البشري في مفهومه المعاصر، إذ العروبة هي الإيمان بأن الشعب العربي شعب واحد تجمعه اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، وأن دولة عربية واحدة ستقوم لتجمع العرب ضمن حدودها من المحيط إلى الخليج، حيث عرفت القومية العربية قَوْمَة كبرى في منتصف الخمسينات والستينات، ولعبت دورا كبيرا في استقلال معظم الدول في بداية القرن العشرين، لكن سرعان ما تراجعت الأفكار القومية وحلت مكانها الأحزاب الدينية والعلمانية، غير أن طموح القوميين العرب تطور مع قيام حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو حزب سياسي تأسس في سوريا على يد ميشال عفلق وصلاح البيطار وزكي الأرسوزي، تبنى مفهوم البعثية، وتعني “النهضة” أو “الصحوة”، وهو مزيج إيديولوجي من القومية العربية والوحدة العربية والاشتراكية العربية ومعاداة الإمبريالية، إذ دعت الحركة البعثية إلى توحيد الوطن العربي في دولة واحدة شعارها “وحدة وحرية واشتراكية”، وهو ما يرمز إلى الوحدة العربية والتحرر من السيطرة والتدخل الأجنبي غير العربي، إذ سرعان ما أنشأ فروعا في الدول العربية، لكن ثمة تطور حدث عندما نشأ صراع على السلطة بين الفصيل المدني بقيادة عفلق والبيطار ومنيف الرزاز، واللجنة العسكرية بقيادة صلاح جديد وحافظ الأسد، فمع تدهور العلاقة بين الفصيلين نظمت اللجنة العسكرية انقلاب 1966، الذي أطاح بالقيادة الوطنية بقيادة الرزاز وعفلق وأنصارهم، حيث قسم الانقلاب حزب البعث إلى “فصيل عراقي” و”فصيل سوري”، غير أن مواجهة حزب البعث العراقي لأمريكا بعد كشفه عن مشروع الاستخبارات الأمريكية الوطنية والذي عرف بمشروع “الإنسان الكوني”، والذي اشتغلت على إنتاجه ورعايته الاستخبارات الأمريكية، والذي عرف لدى أعدائها بـ”الملف البرتقالي”، حيث تسرب خبره للمخابرات العامة العراقية عن طريق الاتحاد السوفياتي، والذي بدوره علم بذلك من خلال اختراق الاستخبارات السوفياتية لألمانيا الغربية عبر ألمانيا الشرقية، مما جعل أمريكا تستهدف العراق في وقت مبكر قبل ما شهدناه في حرب الخليج الأولى، مرورا للغزو الذي تم ضد بغداد، إذ تخللت ذلك الضربة الجوية الإسرائيلية لمفاعل “أوزيراك” في 7 يوليوز 1981، غير أن مشروع “الإنسان الكوني” الأمريكي كان قد نجح في وقت لاحق في تفكيك الاتحاد السوفياتي وإسقاط جدار برلين. بالموازاة مع ذلك، فإن تراجع حزب البعث السوري عن تفاهماته السابقة مع إسرائيل بخصوص الجولان، وانقلابه على الاتفاق الذي تم بينهما عبر وساطة “تجمع البنائين الأحرار” بفرنسا، وبعد تبني سوريا لخطاب الممانعة، وبعد دعمها للعراق إبان الغزو الأمريكي عبر فتح الممرات المؤدية للعراق في وجه المقاتلين العرب، بعد الاتفاق الذي تم بين الجيشين السوري والعراقي المتعلق بانخراطهما المشترك ضد أمريكا في حال أي غزو محتمل، كل هذا أدى لاحقا لإطلاق برنامج “الفوضى الخلاقة” بسوريا، في محاولة لهدم النظام السوري وإعادة بنائه وفق ما تقتضيه أولويات مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي خططت له إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بعد وصول تقرير من “سي. آي. إي” للبيت الأبيض، حيث أفاد التقرير أن ضابطين من المخابرات العامة العراقية التقيا بـ”محمد عطا” منفذ هجمات أحد البرجين بحديقة عمومية بالعاصمة التشيكية براغ، وهو ما جعل استخبارات البنتاغون “دي. آي. إي” تكون على علم بتفاصيل عملية 11 شتنبر قبل سنة وشهرين من وقوعها، وأكد ذلك نقلها لتأمين البرجين من شركة تأمينات أمريكية إلى شركة تأمينات يابانية، بعد علم الاستخبارات الأمريكية أن جسد “محمد عطا” أدمج برقاقة إلكترونية، وأن مصدرها كان من آسيا، وذلك رغم تعمد عدة استخبارات إعطاء الولايات المتحدة معلومات ناقصة وغير مفصلة عن العملية، وهو ما سيتبلور معه لدى أمريكا كيف انتقل العقل العربي من القومية العربية والبعث العربي إلى فكرة قتالها عبر وكلاء إسلاميين، مما أكد أيضا أن تنظيم “القاعدة” كان مخترقا من أجهزة أمريكية وأجهزة العديد من الدول، وهو ما اشتغلت على استغلاله الولايات المتحدة بعد تمريرها لحادث 11 شتنبر، لتجد مبررا وذريعة للدخول إلى أفغانستان والعراق وشن الحرب ضد الإسلام، بعد تزايد مستويات “الإسلاموفوبيا”، والخطابات التي كانت تصدر من أسامة بن لادن، حيث كان العرب والمسلمون والغربيون يستمعون إليها عبر شاشة “الجزيرة” بانتباه ملحوظ.
إلى ذلك، إن إفلاس العقل العربي الذي بدأ بظهور “القاعدة”، وتطور بإنتاجه لـ”داعش”، والتي أكدت تقارير سربت من داخل العراق، أن جل عناصر القيادة الأولى المؤسسة لـ”داعش” كانت تنتمي للحرس الجمهوري العراقي الخاضع مباشرة لأوامر صدام حسين، وقد كان ذلك من الأسباب التي أدت إلى تثبيت برامج الفوضى الخلاقة في بعض البلدان العربية بداية سنة 2011، أي ما عرف بـ”الربيع العربي”، إذ كانت في الواقع عقابا أمريكيا لبعض الأنظمة العربية، بعد ما وصل إليه العقل العربي في مواجهته للغرب عبر تنظيم “القاعدة” ومن ثم “داعش”.
غير أن التطورات المذكورة، والظروف الدولية المحيطة بالمنطقة العربية، دفعت العقل العربي لتجديد خطابه بعد مراجعات كانت ضرورة من ضرورات المرحلة لخدمة المراحل القادمة، في خطوة عربية للتوجه نحو المستقبل، وهو ما تسعى المبادرات العربية المشتركة الصادرة من أبوظبي والرياض لتجاوزه، إذ يرى الموقف العربي الحالي ضرورة إحداث قطيعة مع الأفكار السابقة التي أنتجها العقل العربي، وهو ما ستضمن معه المنطقة السلم الدائم والتنمية المستدامة، عبر الانفتاح على حضارات وثقافات متقدمة، وهذا شرط من شروط إسعاف العقل العربي بعد أن أعلن إفلاسه.