تحقيقات أسبوعية

مع الحدث | ماذا يعني فوز أردوغان بالانتخابات التركية ؟

الحسابات الجيو-استراتيجية تفرض نفسها

هذا كثير.. كثير جدا.. شهران بعد الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية.. عشرون يوما بعد عودة سوريا إلى الجامعة العربية برعاية سعودية.. وأسبوعا بعد السقوط التاريخي لمدينة باخموت في قبضة الجيش الروسي بعد 224 يوما من القتال.. ها هو أردوغان يحقق أهم نصر في حياته السياسية من خلال فوزه بالانتخابات الرئاسية التركية.. سلسلة من الأحداث قد تبدو متباعدة، ولكن الحقيقة أنها تشترك في عدة أشياء: أولها المجال الجغرافي الذي تقع فيه، وثانيها كونها تحدث ضد إرادة القوى الغربية المهيمنة، وثالثها وليس آخرها، تأثيرها الهائل على التوازنات الدولية والترتيبات الجيو-استراتيجية الجارية حاليا، وتلك التي ستجري مستقبلا، نعم مستقبلا، لأنه لا يبدو أن هذه الأحداث ستتوقف عند هذه النقطة.. فقد أصبح واضحا أن بينها خيطا ناظما، بل إنها تتوالى على شكل تفاعل تسلسلي يلد بعضها بعضا، وبناء عليه، من المنتظر أن تكون لنتائج الانتخابات الرئاسية التركية الكثير من الارتدادات في داخل وخارج تركيا.

بقلم: المصطفى كرين

    إن نسبة التصويت في الانتخابات الرئاسية التركية والتي وصلت 85 %، بل وصلت إلى 91 % في الخارج (للمقارنة فقط، فإن نسبة التصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية والفرنسية على أهميتهما البالغة، لم تتجاوزا 66 في المائة) والنسبة المرتفعة لأصوات الشباب والنساء، والعبارات التصعيدية المليئة بالتحدي والثقة، التي صدرت عن الرئيس رجب طيب أردوغان في خطاب النصر، والتي تحتوي على معانى عميقة جدا من قبيل أن: “المسيرة المقدسة لن تتوقف”، و”نشكر الشعب التركي النبيل الذي منحنا احتفالا كبيرا بين عيدين (يعني عيدي الفطر والأضحى)، و”لا ندعم المثلية، والعائلة والمرأة قضيتان مقدستان، وسنكسر كل يد تمتد إليهما”… هذه العبارات التي تلتقي بشكل شبه حرفي مع خطابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تدل على طبيعة المعركة الحالية بين الأقطاب والتي يمكن التأكيد بأننا أمام حرب قيم وحرب على القيم، مثلما تعتبر عنوانا واضحا جدا للاتجاهات المستقبلية للمجتمع التركي، والسياسة التركية داخليا وخارجيا.

إن الاصطفافات السياسية والحملات الإعلامية والدعم المادي المهول لمجموعة من الدول والهيئات ضد أردوغان، ونزولها بكل إمكانياتها خلال الانتخابات الرئاسية التركية، مكنت أردوغان من تحديد معسكره بشكل واضح، ويمكن القول أن حجم التحشيد ضده جعل منه “مقاوما” بشكل ما، وجعل من فوزه انتصارا للمقاومة، انتصارا لمشروع “تركيا العظمى”، ولفكرة “الإمبراطورية” التي عبر عنها بعبارة “قرن تركيا” على حساب ما أطلق عليه “الاستسلام للإملاءات والضغوط الخارجية”، وما ظل ينعته بمشروع تركيا التابعة والمبنية على فكرة “الدولة القومية” أو “القومية” التي حمل لواءها كليجدار أوغلو، في نظره.  

أما بالنسبة لنتائج هذا الانتصار الذي حققه أردوغان، فإنه سيذهب حتما في كل الاتجاهات، لأننا لم نكن أمام انتخابات محلية محضة، بل انتخابات محلية بتداعيات إقليمية ودولية هائلة، لأن انتصار أردوغان اليوم هو جزء من مشروع جيو-استراتيجي ضخم تنخرط فيه كل من الصين وروسيا وإيران والسعودية والبرازيل ومصر والجزائر وغيرها، وهو استمرار للنهج الذي أفرز المصالحة بين السعودية وإيران، والذي يكرس مرة أخرى فشل أمريكا، بل أكاد أقول عزلتها، ونورد هنا بعض ارتدادات فوز رجب طيب أردوغان على سبيل الذكر لا الحصر:

1) تعزيز موقف بوتين: منذ سنوات سابقة على الغزو الروسي لأوكرانيا، كانت روسيا ظهرا يستند عليه أردوغان أمام الغطرسة الأمريكية، من خلال اقتناء نظام الصواريخ “إس 400” ردا على إقصائها من البرنامج المتعلق بطائرات “إف 35″، ومنذ بداية الحرب الأوكرانية، كان الموقف التركي متفردا جدا رغم أن تركيا تعتبر عضوا هاما في حلف شمال الأطلسي، الذي يخوض الحرب ضد موسكو بقناع أوكراني، واستطاع أردوغان تحقيق مكاسب جيو-سياسية واقتصادية هامة عززت موقع تركيا على الخريطة الدولية، وأعطت لأردوغان مساحة هامة في التأثير على الجوانب السياسية والإنسانية المتعلقة بالحرب الأوكرانية، خصوصا فيما يتعلق ببرنامج تصدير الحبوب وترشيح تركيا لتصبح سوقا دولية لتخزين وتسويق الغاز الروسي، ولكن الأهم هو أن بوتين وقف إلى جانب أردوغان في الانتخابات الرئاسية وقدم له مساعدات اقتصادية ومالية كبيرة لتسهيل حصوله على تفويض رئاسي جديد في الوقت الذي خاضت ضده أوروبا وأمريكا حربا شرسة ومتعددة الأوجه، وإذا ما أضفنا إلى هذه المعطيات التقارب الكبير بين الرجلين على مستوى القيم الاجتماعية، وخصوصا ما تعلق منها بالأسرة، والمثلية، ووضعية المرأة، فإن مستقبل التعاون بين الرجلين يبدو قويا وطويل الأمد، كما أن العلاقات التركية الروسية ستشهد نقلة جديدة، بل إن منطقة البحر الأسود بمجملها ستعرف وضعا مختلفا.

2) تقوية عود التحالف الصيني-الروسي: إن تقوية العلاقات التركية الروسية تعني بالضرورة تقوية للتحالف الصيني الروسي، ولا أستبعد في هذا الصدد سعي تركيا إلى الانضمام لمنظمات “بريكس” و”شنغهاي” على الخصوص، وما يمكن أن يترتب عن ذلك من انضمام لبنك “بريكس” والعملة المشتركة لدول البريكس، بعد فشل جهودها من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا المعطى سيعني بشكل دراماتيكي اجتياحا لأوروبا من طرف مجموعة “البريكس” بقيادة كل من الصين وروسيا والبرازيل، وبالتالي سنشهد تدهورا لعلاقات أنقرة مع أوروبا التي خاضت حملة شرسة ضد أردوغان، سواء إعلاميا أو اقتصاديا أو سياسيا كما سبق.

3) تعزيز نفوذ تركيا في الخليج: إذا كانت قطر تحتضن أصلا وجودا عسكريا كبيرا لتركيا بما جعل الأمير تميم يخاطب أردوغان في تهنئته له بعبارة “أخي” كدليل على التقارب الإيديولوجي بينهما، فإن السعودية دعمت أردوغان ماليا بقوة عبر وضع وديعة تصل قيمتها إلى خمسة ملايير دولار من أجل الحفاظ على استقرار الليرة، ويعتبر فوز أردوغان في المقابل تكريسا لتصاعد قوة السعودية على الساحة الدولية.

4) تقوية نفوذ تركيا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: لا يخفى ما لتركيا من تأثير على الوضع الليبي.. فقد شاركت تركيا عسكريا في إنقاذ الحكومة الليبية بقيادة فايز السراج من السقوط أمام زحف قوات خليفة حفتر، كما لا يخفى التقارب التركي الجزائري، والتركي التونسي، وحتى التركي المصري، والتركي السوداني، وجل هذه المناطق لا زال أردوغان يعتبرها جزء من المجال التاريخي للإمبراطورية العثمانية، بينما يعتبر المغرب خارج حسابات تركيا بهذا الخصوص.

5) في منطقة الشرق الأوسط سيتكلل الوضع، بحكم الدعم السعودي لأردوغان، وفقدان الولايات المتحدة الأمريكية للمبادرة، بتطبيع للعلاقات الثنائية بين تركيا وسوريا، وحل مشكلة اللاجئين السوريين في تركيا، وهو أمر سيحرج الأمريكيين كثيرا، وحتى الإسرائيليين، على اعتبار أن تل أبيب تعتبر من أهم الخاسرين في هذا الاستحقاق، لعدة أسباب: أولها دعمها لكليجدار أوغلو، وثانيها لأن فوز أردوغان هو فوز لحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين، وكذلك لأن علاقات إسرائيل مع روسيا تشهد أزمة عميقة وإن كانت نصف صامتة، وأخيرا، لأن مصلحة إسرائيل توجد دائما حيث توجد مصلحة أمريكا والعكس .

6) ويبقى الأهم في انتصار أردوغان، هو أنه يعني عودة الإسلام السياسي بقوة، وانتعاش حركات الإسلام السياسي في العالم العربي بشكل عام وفي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل خاص، بما في ذلك المغرب، وخصوصا إذا ما استطاع أردوغان الفوز بالانتخابات المحلية في السنة المقبلة، مما سيؤدي إلى تسارع وتيرة ذهاب تركيا نحو العالم الإسلامي لتأمين مستقبل الدولة التركية كنواة لإمبراطورية عثمانية جديدة مأمولة في ظل كلام أردوغان عن “القرن التركي”.

7) بالمقابل، فإن الحرب المقبلة على تركيا ستكون أشد، وستبتدع أساليب جديدة وستحرق العديد من الخطوط الحمراء في العلاقات الدولية والأعراف الدبلوماسية من طرف الولايات المتحدة وأوروبا، وسنشهد أزمات جديدة في محيط البحر الأسود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى