المنبر الحر

عندما وضع الحسن الثاني طائرة خاصة للدكتور الرشيدي الغزواني

شخصيات مغربية عرفتها. بقلم. رمزي صوفيا

      يعتبر الدكتور الراشدي الغزواني من أهم الشخصيات المغربية التي فضلت العمل في صمت لا لسبب سوى الحب الكبير الذي حمله هذا الرجل لبلده منذ مطلع حياته.

ففي ستينيات القرن الماضي، دخل عالم النضال باحثا عن خدمة الآخرين على حساب مصالحه الشخصية. وكان لا يتجاوز العشرين سنة من عمره عندما تولى الأمانة العامة لفرع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالعاصمة المعدنية للمغرب وهي مدينة خريبكة التي ينحدر منها هذا المناضل. كما انخرط في تلك السن المبكرة في سلك المعارضة الطلابية في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب الذي كان خلال تلك السنوات خلية فاعلة في مجال الوعي بحقوق الإنسان والعمل الجماعي لخدمة مصالح الوطن والمواطنين بعيدا عن المتاهات الشخصية والأغراض الذاتية. وكان في تلك الفترة مرشحا لرئاسة الاتحاد في مؤتمره 13 بإجماع مسيريه داخليا وخارجيا، ولكنه عدل عن فكرة الترشيح لأن الدكتور الغزواني وإلى جانب روحه النضالية يتمتع باحترام كبير لنفسه وحرص على كرامته، فكان سبب عدوله عن الترشيح هو موقفه المضاد للاتفاق الذي حصل في غيابه مع يساريي مدينة فاس (حركة إلى الأمام في ما بعد). وهكذا سافر إلى باريس بعيدا عن الاتحاد حيث أكمل دراساته العليا خلال أربع سنوات وذلك بجامعة سربون التي تعتبر عبر التاريخ من أعرق الجامعات في العالم.

وبعد عودته، دخل معترك الحياة العملية لخدمة وطنه بنفس المبادئ التي جُبل عليها عندما كان مرشحا لرئاسة الاتحاد، بما في ذلك الروح النضالية والبعد عن حب الذات والترفع عن المصالح الشخصية مؤمنا بأن هذه الأهداف هي التي كان المغرب في حاجة إليها لدى شبابه، والتي كانت مطابقة للتوجيهات العظيمة للمغفور له الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه.

فكيف مر الدكتور الرشيدي الغزواني من مرحلة المعارض إلى وضعية المؤيد لسياسات الحسن الثاني؟ عندما طرحت عليه هذا السؤال الذي طالما حيرني كصحفي قال لي بالحرف: “اسمع يا رمزي، لا يوجد في الوطني الغيور على مصالح بلده وادي عميق بين المعارضة القوية والمساندة الداعمة لسياسات بلده، لأنه عندما يكون الهدف واحدا وموحدا وهو التفاني في خدمة الوطن فإن العبور من المعارضة نحو المساندة لا غبار عليه. وهذا ما حدث بالنسبة لي، فقد كانت الأخطار التي عبرها المغرب سنة 1971 و1972 سببا كافيا لاندماج كل الفئات المحبة للمغرب والمخلصة للعرش العلوي الشريف في صف واحد يقوده ملك البلاد نحو بر الأمان والازدهار.

ولدى استقباله للمرة الأولى من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، خاطبه هذا الأخير بما يفيد أنه لا يريد أن يسمع أي أخبار عن تحصنه في مكتبه في الرباط، قال الحسن الثاني موجها كلامه إلى كاتب الدولة الرشيدي الغزواني بأنه سيضع طائرة رهن إشارته للتجوال في كل المناطق، من أقرب قرية إلى أقصاها، خصوصا أطراف العالم القروي، من أجل استخلاص تصورات ميدانية حول النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
كانت فكرة التخطيط تغري الحسن الثاني أكثر، بالرغم من أنه كان يعتبر ذلك جزءا من طروحات لا يشاركها نفس التوجه، لكنه اهتم دائما بأن يكون التخطيط بمثابة بوصلة طريق لوضع الأسبقيات وتحديد برامج العمل واستكشاف قدرات مختلف القطاعات لضمان ما كان يطمح إليه على صعيد تكريس الأمن الغذائي ومحو الفوارق بين الفئات، والجهات، وإيجاد موارد بديلة تسعف في دعم اقتصاديات البلاد. كان يعرف أن المعطيات، التي توضع فوق مكتبه، ليست مطابقة للواقع، وأنه كثيرا ما يتم غض الطرف عن الجوانب السلبية فيها، لذلك فقد وجه، من خلال دعوته الوزير الراشدي الغزواني لأن يتنقل في كل ربوع المملكة، رسالة واضحة، بهدف تعرية الواقع. لعله من خلال اختياره لرجل تمرس كثيرا في العمل السياسي والنقابي، بعد تخرجه من مدرسة «الاتحاد الوطني لطلبة المغرب»، وإلمامه بكثير من التجارب الدولية، خصوصا لدى إقامته بعض الوقت في الجزائر، وكذلك انكبابه على الدراسة والتحصيل في ميادين علمية تطال التخطيط والاقتصاد والقانون، كان يراهن على الرجل الملائم. ولم يكن الحسن الثاني يريد لشخص واحد أن يستأثر بكل النفوذ في وزارة الداخلية، فقد تعمد دائما أن يضع إلى جانب الوزير مساعدين برتب عالية، ليكونوا بمثابة رادع لأي نوع من الهيمنة والاستئثار بالقرار.
فقد عرفت الداخلية دائما وجود رؤوس متعددة، خصوصا في مناصب كتاب الدولة أو الكتابة العامة، لولا أن الأمر لم يكن يسير وفق هذا التوجه، فليس يكفي أن يكون هناك أكثر من وزير بدرجات متفاوتة للاطمئنان على أن الأمور تسير على أحسن ما يرام.
من أول منصب إلى آخر وزارة شغلها  الرشيدي الغزواني، كان نموذجا للتقنوقراطي ذي المرجعية السياسية، ومع أنه على امتداد عمله الحكومي لم يحسب على أي تيار أو حزب سياسي، فقد كان أقرب إلى الجمع بين خصائص التقنوقراط والتزامات السياسة، فالحزب الوحيد، الذي ظل وفيا له، يمكن أن نطلق عليه مجازا بأنه «حزب الدولة»، لكن دون أن يعني ذلك أنه لم تكن لديه ميول سياسية تجذبه إلى هذا الفريق أو ذاك.
وصارت طريق الرشيدي الغزواني سالكة للتعبير عن وفائه للعمل الوطني منذ تعيينه في مطلع ثمانينيات القرن الماضي نائب كاتب دولة مكلفا بالإنعاش الوطني، الذي كانت تشرف عليه وزارة الداخلية، فهذا القطاع، الذي ظل موزعا بين إدارات عدة، مثل الصناعة التقليدية والتخطيط، كان ينظر إليه بمثابة وعاء لاستيعاب منافذ الشغل غير الدائم، والحال أن الغزواني سعى إلى تحويله إلى قطاع منتج يتجاوز المفاهيم التقليدية للإنعاش الوطني.
صادف مرة أن المستشار أحمد رضا اكديرة حين كان وزيرا للداخلية والفلاحة اهتم بغرس المزيد من الغابات عند هوامش المدن المغربية، وكان يعتمد في ذلك على قطاع الإنعاش الوطني، وفي ما حوله الوزير الأسبق في الصناعة التقليدية إلى ما يشبه أعمال الإحسان، التي انصبت على الحرف التقليدية، كان الرشيدي الغزواني في طريقه لأن يجعل منه قطاعا أكثر إنتاجة. ومنه انتقل في أبريل 1985، على عهد حكومة الوزير الأول محمد كريم العمراني، ليصبح وزيرا منتدبا مكلفا بالتخطيط، الذي كان يرسو سابقا على الوزير الطيب بن الشيخ ابن مكناس.
من المفارقات أن الرشيدي الغزواني سيكون في مقدمة المدافعين عن امتدادات تلك الحكومة، التي أسندت رئاستها لاحقا إلى الوزير الأول عز الدين العراقي، فقد اضطر إلى ذلك لأن الحكومة واجهت ملتمسا بسحب الثقة وضعته أحزاب المعارضة في مرحلة دقيقة. فقد كان الرشيدي الغزواني من بين وزراء اختيروا للترافع عن حكومة العراقي، إلى جانب إدريس البصري وسعيد أمسكان وامحند العنصر وآخرين. واتسمت المواجهة بين فتح الله، ولعلو، والرشيدي الغزواني بالحدة، لأنها كانت تغرف من عالم الأرقام، ولم يدر في خلد كثيرين، آنذاك، أن ذلك الملتمس سيكون مقدمة الطريق أمام تولي المعارضة مقاليد الحكومة بعد أقل من ثماني سنوات، تغيرت فيها المواقع والوجوه والمرافعات.
في صيف 1992، سيعود كريم العمراني إلى الواجهة، وسينتقل الرشيدي الغزواني إلى مسؤولية وزارة النقل، بعد أن اختفى التخطيط من هيكلة الحكومة الجديدة، التي شغل فيها الدكتور عبد اللطيف الفيلالي وزارة الخارجية، ومحمد القباج وزارة الأشغال العمومية والتكوين المهني وتكوين الأطر، وظهرت مناصب جديدة من قبيل الوزارة المكلفة بالجالية المغربية في الخارج، التي أسندت إلى رفيق الحداوي، ونائب كاتب الدولة لدى وزير الداخلية المكلف بالمحافظة على البيئة، والتي تولاها شوقي السرغيني، فيما شغل عبد السلام أحيزون وزارة البريد والاتصالات السلكية واللاسلكية. غير أن تعديلا سيتم إدخاله على حكومة العمراني في نونبر 1993، يتزامن مع بدء سلسلة المشاورات التي ستمهد لاحقا لحكومة التناوب لعام 1998.
وعلى مدى عقود من الزمن، ظلت غالبية الأحزاب، يمينها ويسارها ووسطها، تعبر في الخفاء عن تمنياتها أن يكون الرشيدي الغزواني من بين أعضائها، فقد حدث مرة أن صارح الوزير الأول الأسبق المعطي بوعبيد الملك الراحل الحسن الثاني بتمنياته بهذا الصدد، إلا أن الجواب جاءه قاطعا بأن الغزواني تنتظره مهام أخرى لفائدة خدمة الوطن. ولم يتحدث الحسن الثاني عن تلك المهام في حينها، فقد كان بصدد ترتيب علاقات إقليمية ودولية تدفع في اتجاه أن يتولى ذلك المسؤول المغربي مهمة مساعد للأمين العام للأمم المتحدة في الشؤون الإفريقية أو المسائل المرتبطة بالتنمية والتخطيط، لإسماع صوت العالم الثالث. وبالرغم من أن المنافسة كانت على أشدها بين مرشحين لشغل هذا المنصب، من بين دول عربية وإفريقية وأجنبية، فإن حظوظ الرشيدي الغزواني كانت أكبر، لولا أن رئيس دولة شقيقة تدخل ليطلب من الملك الحسن الثاني دعم مرشح بلاده. كانت الفترة تحتم قيام وفاق بين البلدين، لذلك فقد فضل الحسن الثاني إرجاء النظر في ترشيح الرشيدي الغزواني إلى ذلك المنصب الدولي الرفيع، وكان في نيته أن يعرض اسمه لمنصب آخر، لولا أن الظروف الدولية لم تسعفه من أجل تحقيق ذلك التطلع.
وقتذاك طرح على المغرب سؤال جوهري: لماذا لا يبدو أكثر حماسا في ترشيح أبنائه لمثل هذه المناصب في المنظمات الإقليمية والدولية، علما أن حظوظهم لم يكن الشك يرقى إليها. وربما جاز الاعتقاد بوجود تقصير كبير على الصعيد الدبلوماسي. وقد غضب الحسن الثاني، يوما، حين تناهى إلى علمه أن مسؤولين دوليين ينتمون إلى بلد مجاور يسخرون المنظمات الدولية لأهداف تخدم مصالح بلادهم.
وميزة الرشيدي الغزواني أنه لم يقطع علاقته بعوالم الانفتاح. قد يكون أخطأ الطريق في عدم الانتساب صراحة إلى حزب سياسي، وقد يكون اطمأن إلى أن مساره يشفع له، لكنه ظل على يقين بأنه بإمكان الكفاءات المغربية أن تعوض البلاد بعض ما خسرته على طريق شق مجاهل التنمية التي تجمع بين العلم والتخطيط واستيعاب كل الموارد.

وحتى يومنا هذا فلا زال الدكتور الرشيدي الغزواني يناضل ويبذل قصارى جهوده لخدمة وطنه وملكه، لأنه معروف بالغيرة على المغرب وتقديم الصالح العام على حساب مصالحه الذاتية.

هذه شهادة أدلي بها لأنني عرفت الدكتور الرشيدي الغزواني وعرفت كيف سعى دائما لفائدة وطنه وخدمة العرش العلوي الشريف قبل كل شيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى