المنبر الحر

المنبر الحر | الفرق بين الواقع ومعطيات بنك المغرب (1)

خطاب الأزمة

بقلم: د. رضوان زهرو

 

    لا بد من الإشارة بداية إلى أن بنك المغرب هو “هيئة مستقلة للمراقبة ولتقديم الاستشارة اللازمة”، فهو يقدم المعطيات والمؤشرات والملاحظات حول الوضع الاقتصادي والنقدي والمالي في بلادنا، كما أنه يقدم رؤيته للسياسة النقدية وللميزانية العامة والنظام البنكي، أما الحكومة فهي التي تتخذ القرارات وترسم السياسات العمومية المناسبة، وهو ما يحتاج إلى الشجاعة اللازمة وإلى الموضوعية بعيدا عن السياسوية والمجاملة ولغة الخشب وكثرة الكلام، كما يحتاج إلى استحضار مصلحة الوطن قبل كل شيء ووضعها فوق كل اعتبار.

توقعات بنك المغرب تختلف حسب السياقات، ورغم الأزمة، فهذه التوقعات تأتي اليوم – على العموم – مطمئنة وغير مقلقة، وأقل ما يقال عنها أنها بعيدة شيئا ما عن الواقع، وذلك بالنظر إلى الظرفية الاقتصادية والوطنية والدولية الخاصة جدا، وتتقارب هذه التوقعات، بل وتتماهى إلى حد كبير مع توقعات الحكومة والمندوبية السامية للتخطيط، لكن الاختلافات تبقى طفيفة جدا وقد ترجع ربما إلى طريقة احتساب كل من هذه المؤسسات للمؤشرات والمعدلات، مع العلم أنه يجب أن تحكم هذه التوقعات، المنهجية العلمية والعلمية فقط، لأن تقديم المعطيات الصحيحة وذات المصداقية لا شك ستنتج عنها سياسات عمومية مناسبة وناجعة خدمة للاقتصاد الوطني وتحقيقا للنمو والتنمية، والحكومة يجب أن تعتمد السيناريو الأسوأ عند تقديمها للمؤشرات وعند تحديدها للأهداف وتسطيرها للبرامج والمشاريع والسياسات، حتى لا تضطر لتعديل قوانينها المالية وتغيير سياساتها وحتى تبقى ميزانيتها أقرب إلى الواقع ولا تصل في مرحلة من مراحل تنفيذها إلى وضعية الأزمة، التي قد تجبرها على الاقتراض في منتصف الطريق.

كيف تكون المؤشرات إيجابية ؟

    المؤشرات الإيجابية هي التي يظهر من خلالها التحكم في توازن الميزانية (من حيث الموارد والنفقات العمومية) والتحكم كذلك في التوازنات الاقتصادية الكبرى (معدل النمو، نسبة عجز الميزانية، نسبة التضخم، الاحتياطي من العملة الصعبة، حالة الميزان التجاري والحساب الجاري لميزان المدفوعات)، لنطرح التساؤل: بأي تكلفة يتم التحكم في التوازنات؟ وعلى حساب من؟ وعلى حساب ماذا؟ لأن التحكم في عجز الميزانية مثلا والتحكم في معدل التضخم، غالبا ما يكون بإجراءات وقرارات تقشفية وغير شعبية، مثل تجميد الأجور والترقيات، تخفيض الاستثمارات والنفقات الاجتماعية، فرض تكاليف جديدة، الإضرار بالطبقة الوسطى وبالمقاولات الصغرى والمتوسطة، المس بالقدرة الشرائية… إلخ.

فالحفاظ على التوازنات الاقتصادية يجب ألا يتم على حساب التوازنات الاجتماعية والسلم الاجتماعي.

إن النموذج الاقتصادي لطالما اعتمد وبشكل أساسي، على قطاعات وأنشطة وعلى مداخيل يصعب التحكم فيها، خاصة الناتج الفلاحي، وتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، ومداخيل السياحة، ومداخيل الصادرات وغيرها، وأي تعثر لهذه الأنشطة أو انخفاض في هذه المداخيل، سيؤثر سلبا على معدل النمو الاقتصادي.

ما هو الحل ؟

    الحل هو ما قامت به بلادنا عندما اعتمدت نموذجا اقتصاديا آخر مختلفا عن النموذج الحالي، فنحن ننتظر السماء حتى تمطر، وأحيانا ننتظر الظرفية الاقتصادية العالمية أن تتحسن، وخاصة عند شركائنا الأساسيين (الاتحاد الأوروبي تحديدا)، اليوم نحتاج إلى تغيير الاستراتيجية التنموية إذا كانت هناك بالفعل استراتيجية، ولو أني أرى أن هناك فقط كوكتيلا من الإجراءات والتدابير والقرارات التي في مجملها تبقى متناثرة غير منسجمة ولا مترابطة ولا متناسقة. قبل سنوات، كانت الأمور أكثر وضوحا، وكان بإمكاننا أن نميز بين الاستراتيجيات والسياسات، فنختار مثلا بين الليبرالية وتدخل الدولة بين القطاع العام والقطاع الخاص، بين استراتيجية إحلال الواردات واستراتيجية تشجيع الصادرات واستراتيجية الصناعات المصنعة.

لكن، ما طبيعة الاستراتيجية التنموية التي تعمل بها بلادنا؟ نعم الفلاحة، وهي قطاع تنموي واستراتيجي مرتبط بقضية الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، وبالسيادة الوطنية وباستقلالية القرار السياسي، بينما الاقتصاديات اليوم في العالم تتجه نحو الصناعة التي تخلق القيمة المضافة العالية والصناعة ذات الكثافة التقنية والتكنولوجية العالية والأقوى تنافسية في الأسواق العالمية، كصناعة الدفاع وصناعة الطائرات والصناعة الصيدلانية وغيرها، حيث يتجه العالم نحو الاقتصاد الجديد والاقتصاد الرمزي والاقتصاد الرقمي، ونحو اقتصاد الخدمات، وهنا تكمن التنافسية ويكمن مستقبل الدول.

إن النمو الاقتصادي بالمغرب خلال السنوات الأخيرة، لم يتجاوز في أحسن الظروف معدل 3 %، وهو معدل يبقى جيدا على العموم بالنظر إلى التراجع الذي يسجله الناتج الفلاحي، وبالرغم من تحسن بعض الأنشطة غير الفلاحية (البناء والصناعات المعدنية والأنشطة التجارية).

صحيح أن هناك اليوم تقدير للمغرب من طرف المؤسسات الدولية مقارنة مع عدة دول، رغم الظرفية الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يمر منها، وهي ظرفية يمكن تجاوزها بنجاح وبأقل تكلفة بفضل حكمة جلالة الملك، ونجاعة السياسة العامة ونضج الشعب المغربي، لكن تحقيق التوازنات الكبرى (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) مهمة ليست سهلة، فالحكومة تجتهد، تصيب أحيانا وتخطئ أحيانا كثيرة في غياب نموذج اقتصادي وتنموي مغربي، ومشروع مجتمعي واضح المعالم، إلا أنها مطالبة بتحديد الأولويات والاختيارات، وكذا المشاريع والبرامج، وخاصة تلك التي يكون لها تأثير مباشر على النمو وعلى التشغيل وعلى البيئة (البيئة التي لا زالت لم تأخذ حقها كما يجب في السياسات العمومية)، ونحن نعلم أن إمكانياتنا ضعيفة وحاجياتنا كثيرة في نفس الوقت، لكن الواجب في هذه الحالة يمكن في عقلنة الاختيارات وترشيد الموارد والنفقات.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى