تحقيقات أسبوعية

للنقاش | كيف قلبت قضية الصحراء المغربية حسابات المغرب في إفريقيا

خلال السنوات الأخيرة، سعى الملك محمد السادس إلى بناء تصور تنموي وسياسي شامل ومتكامل، جامع ومانع حول إفريقيا المستقبل، إفريقيا التي نريد، محملا العالم، وخاصة القوى الاستعمارية السابقة، مسؤولية الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في القارة الإفريقية، خاصة مع استمرار نظرتها “الكولونيالية” إلى هذه القارة الغنية بالموارد والأسرار الخفية، التي تجعل منها “قارة المستقبل”.

ومن خلال الخطابات والرسائل الملكية التي رفعها الملك محمد السادس في المنتديات والمحافل الوطنية والقارية والدولية، وكذا من خلال الزيارات الملكية الميدانية والعملية التي جاب فيها الملك شرق القارة الإفريقية وغربها، طولها وعرضها، تحاول هذه الدراسة رسم مستقبل إفريقيا في علاقتها بالمغرب، ومستقبل المغرب داخل القارة الإفريقية، كما رسمتها التوجهات والمشاريع، والتصورات والأوراش التي أعلن عنها الملك محمد السادس خلال الفترات الأخيرة، من أجل “إفريقيا جديدة”.

 

بقلم: نزار القريشي

 

الملك محمد السادس يخاطب الاستعمار الأوروبي والحلم الإفريقي 

    شكل يوم الإثنين 24 فبراير 2014 موعدا حاسما في تاريخ المغرب الإفريقي، ومنعطفا كبيرا في سجل العلاقات المغربية الإفريقية، وفي موقف السياسة المغربية تجاه قارته إفريقيا، والمناسبة هي انعقاد المنتدى الاقتصادي المغربي الإيفواري في أبيدجان، حيث ألقى الملك محمد السادس خطابا مفصليا في افتتاح هذا المنتدى الاقتصادي والتنموي الإفريقي.

في هذا الخطاب السامي، سوف يفاجئ الملك محمد السادس خصوم الوحدة الترابية، وخصوم انضمام المغرب إلى المنتظم الإفريقي، حين شدد جلالته على أن ((المغرب إنما يلتزم التزاما كاملا بانتمائه الطبيعي لإفريقيا الذي ظل يلازمه على امتداد تاريخه))، ولم يوجه الملك خطابه إلى المسؤولين الأفارقة فقط بقدر ما وجهه إلى المسؤولين السياسيين الأوربيين، حين أكد أن إفريقيا قارة كبيرة بقواها الحية وبمواردها وإمكاناتها، فعليها أن تعتمد على إمكاناتها الذاتية، ذلك أنها لم تعد قارة مستعمرة، لذا، فـ”إفريقيا مطالبة اليوم بأن تضع ثقتها في إفريقيا”.

مباشرة بعد إلقاء الخطاب الملكي التاريخي، توالت تعليقات وقراءات المحللين المغاربة والأفارقة والدوليين، وقد اتفقوا على توصيفه بـ”خطاب إفريقيا”، و”نداء إفريقيا”، وكان الخطاب أكثر وضوحا وشجاعة وثقة في النفس، وهو يرى أن قارتنا ((ليست في حاجة للمساعدات بقدر ما تحتاج لشراكات ذات نفع متبادل، كما أنها تحتاج لمشاريع التنمية البشرية والاجتماعية أكثر من حاجتها لمساعدات إنسانية)).

ومن وجهة النظر الملكية، فإنه على إفريقيا أيضا ألا تظل رهينة لماضيها ولمشاكلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية، حسب منطوق الخطاب الملكي، بل عليها أن تتطلع إلى مستقبلها بكل عزم وتفاؤل، وأن تستثمر في سبيل ذلك كل طاقاتها.

فإذا كان القرن الماضي بمثابة قرن الانعتاق من الاستعمار بالنسبة للدول الإفريقية، فإن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون “قرن انتصار الشعوب على آفات التخلف والفقر والإقصاء”.

كما يرى الملك محمد السادس من يومها أن ((التطلع إلى إفريقيا متطورة ونشيطة، ليس مجرد حلم، بل يمكن أن يكون حقيقة، شريطة الالتزام بالعمل))، وهو ما يتطلب من القارة الإفريقية مواجهة مختلف التحديات التي تهدد استقرارها السياسي وتعيق نموها الاقتصادي والاجتماعي، ويرى خطاب الملك أنه ((لا يمكن رفع هذه التحديات إلا من خلال التعاون والتضامن بين الشعوب الإفريقية واحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية))، وإفريقيا مطالبة، على هذا الأساس، بالاستفادة من كل الطاقات التي تزخر بها دون أن تعيش في عزلة عن العالم مثلما هي مدعوة إلى مضاعفة الشراكات المثمرة مع الدول المتقدمة التي تبدي اهتماما دائما، والتزاما صادقا، وانخراطا ملموسا، من أجل الازدهار الاقتصادي لإفريقيا وتنميتها البشرية.

 

نداء إفريقيا.. من الخطاب الإفريقي إلى الخطاب الأممي

    بعد سبعة أشهر من ذلك، وجه الملك نداءه الإفريقي ومشروعه التنموي المستدام والمستقبلي لهذه القارة إلى الأمم المتحدة، فبمناسبة انعقاد الدورة التاسعة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة، رفع الملك محمد السادس خطابا إلى المشاركين في أشغال الدورة الأممية، والتي انعقدت حول محور: “التنمية البشرية المستدامة بعد عام 2015″، ورغم أن الملك محمد السادس قد عرف بالنموذج التنموي المغربي الصاعد والواعد، فقد أكد أن رسالته في ذلك اليوم لا تتمثل في استعراض التجربة المغربية في مجال التنمية وما حققته من مكتسبات، وإنما ((جئت أحمل نداء من أجل إنصاف الدول النامية، وخاصة بإفريقيا، والتعامل الموضوعي مع إشكالية التنمية بها))، يشدد خطاب الملك.

وفي هذا السياق، أوضح الملك محمد السادس أن لكل بلد مساره الخاص في مجال التنمية، وله نموذجه التنموي حسب تطوره التاريخي ورصيده الحضاري وما يتوفر عليه من طاقات بشرية وموارد طبيعية، وبحسب خصوصياته السياسية، وخياراته الاقتصادية، وما يواجهه من عراقيل وتحديات، بعدها، أكد جلالته أن النداء الذي يتوجه به اليوم، وهو “نداء إفريقيا”، ((يراعي ضرورة احترام خصوصيات كل بلد، في مساره الوطني، وإرادته الخاصة، لبناء نموذجه التنموي، لا سيما بالنسبة للدول النامية التي ما تزال تعاني من أثار الاستعمار))، تنبهنا الرسالة الملكية.

وكان الملك محمد السادس صريحا في مواجهة الأنظمة الاستعمارية حين استحضر ما خلفه الاستعمار من أضرار كبيرة للدول التي كانت تخضع لحكمه، حيث عرقل مسار التنمية بها، لسنوات طويلة، واستغل خيراتها وطاقات أبنائها، وكرس تغييرا عميقا في عادات وثقافات شعوبها، كما رسخ أسباب التفرقة بين أبناء الشعب الواحد، وزرع أسباب النزاع والفتنة بين دول الجوار، وهنا، حمل الملك هذه الدول الاستعمارية ((مسؤولية تاريخية في الأوضاع الصعبة، والمأساوية أحيانا، التي تعيشها بعض دول الجنوب وخاصة بإفريقيا)).

وبعد كل تلك الأثار السلبية، أعلن الملك محمد السادس، وبكل شجاعة، أنه ((ليس من حق هذه الدول أن تطالب بلدان الجنوب بتغيير جذري وسريع وفق منظومة غريبة عن ثقافتها ومبادئها ومقوماتها، وكأنه لا يمكن تحقيق التنمية إلا حسب نموذج وحيد، هو النموذج الغربي))، يشدد الخطاب الملكي.

((لكن بعض الدول الغربية، التي لم تطلب الإذن من أحد لاستعمار بلدان الجنوب، بدل تقديم الدعم اللازم لشعوبها، تتمادى في فرض شروط صارمة عليها، تعرقل مسارها الطبيعي نحو التقدم)).. فقرة قوية من هذا الخطاب نختم بها حديثنا في هذا السياق قوة خطاب الملك حول مستقبل إفريقيا، من خلال “نداء إفريقيا” الذي وجهه الملك محمد السادس إلى كل العالم.

هنا إفريقيا.. زيارة عمل وأمل 

    في السنة الموالية (2015)، سوف يقوم الملك محمد السادس بزيارة إلى عدد من العواصم في عرض القارة الإفريقية، وهي زيارات شملت السنغال والكوت ديفوار والغابون وغينيا بيساو، وهي زيارة عمل وصداقة، كما جاء في البلاغ الصادر عن وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة، وقد كانت هذه الزيارات بمثابة حلقة جديدة من سلسلة زيارات قام بها الملك محمد السادس إلى القارة الإفريقية منذ أن أطلق “نداء إفريقيا” التاريخي قبل سنتين، أعلن فيه أن على العالم أن يغير نظرته إلى إفريقيا، وأن ينسى صورة الماضي الإفريقي في المتخيل الغربي، والكف عن النظر إليها كمجرد مستعمرات وفضاءات للاستغلال المادي والبشري، مثلما دعا إلى الكف عن محاولة فرض نموذج تنموي على دول القارة الإفريقية، والحال، أن هذه الدول قادرة بإمكانياتها وثرواتها الطبيعية والبشرية على تنمية نفسها بنفسها، واختيار النموذج التنموي الخاص بها.

وإذا كانت بعض القارات قد استنفذت إمكانياتها – كما يبدو – حتى سميت قارة قوية مثل أوروبا بـ”القارة العجوز”، تبدو القارة الإفريقية في المقابل، بمثابة قارة فتية وغنية وقادرة على فرض اسمها في المستقبل.

توالت الزيارات الملكية من يومها، ومنذ إطلاق ذلك النداء التاريخي، وهي تتردد ما بين زيارة عمل وزيارة صداقة وأمل، وقد كان لافتا أن البرنامج الإفريقي للملك محمد السادس هو برنامج فسيح طويل المدى، عميق الرؤية كثير الاستراتيجيات، التي تتفق كلها على مهمة نهوض إفريقيا معتمدة على نفسها، وكانت الزيارات الملكية – ولا تزال – تنم عن شجاعة ومسؤولية كبرى تجاه المنطقة والقارة والعالم، بعدما أصبحت القارة ضاجة بالكثير من مناطق التوتر الهادرة والملتهبة، والتي لا تهدد أمن الدول فقط، بل تهدد أمن القارة كلها، وهي تحاول ما بين انقلاب وآخر، وانفلات أمني وآخر، إقامة دويلات بديلة، وجماعات مسلحة قاتلة، وتيارات وتنظيمات متطرفة دموية، بينما يتواصل النظر إلى إفريقيا على أنها مجرد منجم للثروات الطبيعية والبشرية لا أقل ولا أكثر.

أما نداء الملك محمد السادس، فيحمل رسالة إلى العالم مفادها أن القارة الإفريقية فضاء رحب للتنمية المستدامة والشاملة يسع كل العالم، كلما ضاقت به مناطق وفضاءات أخرى، وسياسات واستراتيجيات استنفذت جدواها بالحتمية التاريخية قبل كل شيء.

مسألة أخرى ربما تعني المغرب أكثر، تتعلق ببحث المغرب عن هويته الإفريقية وعمقه القاري، قبل أن يطل المغرب على أفقه المتوسطي والأوروبي والدولي.

ولأن المغرب بقيادة الملك محمد السادس وزياراته المتواصلة لبلدان إفريقيا، هو الذي يقود هذه المهمة الإنسانية من أجل ما أسماها الملك “إفريقيا الجديدة”، فقد بات على عالم اليوم النظر إلى إفريقيا وأن يطل عليها من خلال المغرب، لكي تطل إفريقيا على العالم من خلال المغرب أيضا.

نداء جديد من أجل إفريقيا

    وجه الملك محمد السادس نداء جديدا من أجل إفريقيا، معلنا أنه قد ((آن الأوان لكي تسترجع إفريقيا حقوقها التاريخية والجغرافية.. تاريخ غني لشعوب إفريقية وحدتها قرون من المبادلات والوشائج المتنوعة، وجغرافيا ملائمة لتحقيق تجمعات إقليمية مندمجة ومتكاملة)).. جاء ذلك في الرسالة التي وجهها الملك محمد السادس إلى المشاركين في أشغال منتدى “كرانس مونتانا” الذي أقيم بمدينة الداخلة يوم 18 مارس 2016، في موضوع: “إفريقيا والتعاون جنوب – جنوب.. حكامة أفضل من أجل تنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة”، وأعلن الملك في رسالته أن ((على إفريقيا من الآن فصاعدا، أن تؤكد حضورها كشريك أساسي في التعاون الدولي، وليس كمجرد موضوع له، أو هدف لرهانات الأطراف الأخرى، كما يجب ألا ينظر لإفريقيا على أنها مصدر للهشاشة، بل باعتبارها فاعلا أساسيا في عملية التقدم)).

كما ذهبت الرسالة الملكية إلى أن التعاون جنوب – جنوب لم يعد شعارا فضفاضا، ولا مجرد عنصر من عناصر السياسات التنموية، يختزل فقط في المساعدة التقنية، بل بات يخضع لرؤية استراتيجية متجانسة تروم تنمية البلدان والاستجابة لحاجيات السكان، كما أصبح هذا التعاون مندمجا يتمحور حول مؤهلات وخبرات كل طرف.

وأعلنت الرسالة الملكية أيضا أن المغرب يسعى جاهدا إن على المستوى الفردي أو بتعاون مع البلدان الشقيقة والشريكة، إلى تحقيق برامج ملموسة في ميادين معينة، تهدف إلى تحقيق نتائج قابلة للقياس من حيث أثرها على النمو والعيش الكريم لساكنة بلدان الجنوب، ليس فقط في المجالات الاقتصادية، بل أيضا الاجتماعية والثقافية والبيئية والدينية.

المغرب والعودة القوية إلى الاتحاد الإفريقي 

    سجل المغرب عودة قوية إلى الاتحاد الإفريقي، وهي عودة تأكدت منذ سنوات حين فرض المغرب حضوره في إفريقيا على مختلف الواجهات، وحين قام الملك محمد السادس بزيارات إلى القارة الإفريقية، وجه من خلالها “نداء إفريقيا” الشهير، الذي دافع عن مستقبل القارة الإفريقية، مطالبا الدول الغربية بأن تكف عن النظر إلى قارتنا على أنها مستعمرات سابقة.

وبمناسبة انعقاد القمة الـ 27 للاتحاد الإفريقي التي انعقدت في يوليوز 2016، في العاصمة الرواندية كيغالي، أعلن المغرب عن عودته إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، وهي عودة مشروعة أسست لها الرسالة الملكية الموجهة إلى المشاركين في هذه القمة الإفريقية، وقد خلقت عودة المغرب الحدث في هذه القمة، وكانت عنوانها الأبرز، كما جاءت الرسالة الملكية لتتحول إلى نص مرجعي لهذه القمة، وإلى جزء من أدبيات وأرضيات وأوراق عمل منظمة الاتحاد الإفريقي.

تأصيل الانتماء 

    في بداية الرسالة الملكية الموجهة إلى القمة الإفريقية، حرص الملك محمد السادس على تأصيل الانتماء المغربي إلى القارة الإفريقية، والوعي السياسي المبكر بقضايا تحررها منذ أزيد من قرن.

وقد شدد الملك محمد السادس على تنسيب نفسه كملك للمغرب باعتباره حفيد جلالة الملك محمد الخامس، وهو كما قدمه ((أحد أقوى رموز تحرر الوعي الإفريقي، وواحد من الرواد الملتزمين، إلى جانب الرؤساء جمال عبد الناصر وفرحات عباس وموديبو كايتا وسيكوتوري وكوامي نيكروما، صناع قمة الدار البيضاء التاريخية سنة 1961، التي أعلنت عن انبثاق إفريقيا متحررة، وأسست للاندماج الإفريقي))، كما شدد الملك على أنه ابن الملك الراحل الحسن الثاني، الذي جمع في نفس تلك السنة، مؤتمر حركات تحرر الدول التي كانت خاضعة للسيطرة البرتغالية، وساهم بكل أناة وروية في استتباب الاستقرار في عدة مناطق من قارتنا، وفي تعزيز روابط الأخوة والصداقة مع مجموعة من الدول الإفريقية. وبعدها، حرص الملك على تقديم نفسه بأنه “ملك لبلد إفريقي”.. بلد هويته إفريقية، بحكم انتمائه الجغرافي وبتاريخه المشترك الحافل بالأحداث الهامة، وبما يتميز به من تلاقح إنساني تم إغناؤه عبر توالي القرون، وبفضل القيم المشتركة، الثقافية والروحية المتوارثة.. بلد، تضيف الرسالة الملكية ((متشبع بإيمان لا يتزحزح في إفريقيا قوية بثرواتها وإمكاناتها الاقتصادية، معتزة برصيدها الثقافي والروحي، وواثقة في مستقبلها)).

المغرب الإفريقي 

    إن الانتماء الإفريقي للمغرب هو انتماء راسخ، وانتماء فاعل على المستوى السياسي، وفي ما يتعلق بالتحديات التنموية، وأيضا في ما يتعلق بريادة المغرب على مستوى تدبير الشأن الديني ومحاربة التطرف، وإشاعة قيم التسامح والتعايش.. وهذا ما لخصته الرسالة الملكية حين نبه الملك محمد السادس إلى أنه ((رغم كون المغرب قد غاب عن منظمة الوحدة الإفريقية، فإنه لم يفارق أبدا إفريقيا)) على أساس أن المغرب بلد إفريقي بانتمائه، وسيبقى كذلك، وهنا، ذكرت الرسالة الملكية بما قاله الملك الراحل الحسن الثاني غداة انسحاب المغرب من القمة العشرين لمنظمة الوحدة الإفريقية في 12 نونبر 1984، وهو يردد أننا ((سنظل نحن المغاربة جميعا في خدمة إفريقيا، وسنكون في المقدمة من أجل كرامة المواطن الإفريقي واحترام قارتنا…)).

وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود، ترى الرسالة الملكية أنه لم يسبق لإفريقيا أن كانت في صلب السياسة الخارجية للمغرب وعمله الدولي أكثر مما هي عليه اليوم، عندما أشارت إلى أن ((المغرب قد تمكن من بلورة نموذج فريد وأصيل وملموس للتعاون جنوب – جنوب، مكن ليس فقط من تعزيز مجالات التعاون التقليدية، كالتكوين والدعم التقني، وإنما طورها لتشمل ميادين استراتيجية جديدة، كالأمن الغذائي، وتطوير البنيات التحتية)).

الحضور الاقتصادي

    عودة المغرب إلى منظمة الوحدة الإفريقية كانت مسبوقة بحضور قوي للمغرب في عرض القارة الإفريقية، خاصة على المستوى الاقتصادي والتنموي، بالنظر إلى حاجة القارة الإفريقية في يقظة تنموية حقيقية واستعجالية، حيث أكدت الرسالة الملكية أن ((الانخراط المكثف للفاعلين الاقتصاديين المغاربة، وحضورهم القوي في مجالات الأبناك والتأمين والنقل الجوي والاتصالات والسكن، يجعل من المغرب، في الوقت الحالي، أول مستثمر إفريقي في إفريقيا الغربية، وهو أيضا ثاني مستثمر في إفريقيا كلها، ولكن ليس لوقت طويل، لأنه عبر عن إرادته القوية في أن يكون الأول))، كما أن المغرب ينتمي لاثنين من ضمن ثماني تجمعات اقتصادية جهوية تابعة للاتحاد الإفريقي، ويتعلق الأمر باتحاد المغرب العربي، وتجمع دول الساحل والصحراء، كما ((يحظى المغرب بصفة عضو ملاحظ لدى المجموعة الاقتصادية لدول إفريقيا الغربية، ويتطلع إلى إقامة شراكة واعدة مع المجموعة الاقتصادية لدول إفريقيا الوسطى، وبالإضافة إلى ذلك، فقد بادر سنة 2009 إلى تأسيس المؤتمر الوزاري للدول الإفريقية الأطلسية، وتعد مشاركة المملكة المغربية في كل الشراكات بين إفريقيا ودول وقارات ومجموعات أخرى، دليلا إضافيا على استعدادها الدائم للدفاع عن مصالح القارة على المستوى الدولي، ووضع شبكة علاقاتها في خدمة روابط إفريقيا مع باقي دول العالم)) تضيف الرسالة الملكية.

حضور أمني 

    رغم انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية، إلا أنه ظل حريصا على وحدة القارة واستقرارها، وعلى أمن واستقرار دولها، وظل ((يتخذ العديد من المبادرات من أجل ترسيخ الأمن والاستقرار في إفريقيا)) تقول الرسالة الملكية، ويتعلق الأمر – على سبيل المثال – بمساهمته في عمليات حفظ السلم في الكوت ديفوار والكونغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى، وبجهوده في مجال الوساطة بين دول منطقة “نهر مانو”، ومؤخرا في ليبيا، وكذا في عملية إعادة البناء بعد انتهاء الصراع بكل من غينيا وسيراليون ومالي وغينيا بيساو.

وقد نبه الملك محمد السادس إلى أنه وبالرغم من كل هذه الحقائق، ما تزال بعض الدول تدعي بأن المغرب لا يمكن أن يمثل إفريقيا، لأن معظم سكانه ليسوا سودا، ليخلص الملك إلى أن ((إفريقيا لا يمكن اختزالها في اللون فقط، على أساس أن التمادي في هذا الطرح إنما ينم عن جهل بالواقع))، وفق الرسالة الملكية، كما أن ((المغرب، رغم انسحابه من منظمة الوحدة الإفريقية، فإنه لم يغادر أبدا إفريقيا، وإنما انسحب سنة 1984، في ظروف خاصة، من إطار مؤسساتي قاري)).

دعوة إلى المستقبل

    وبعودة المغرب اليوم إلى منظمة الاتحاد الإفريقي، يكون قد وضع مسافة إن لم نقل قطيعة مع الماضي، والتوجه نحو الأمام، وهو ما يجعل من هذه العودة دعوة إلى بناء مستقبل آخر جديد لإفريقيا، يلتزم فيها المغرب بأداء أدوار مسؤولة واستثنائية من أجل النهوض بالقارة، مثلما انخرط في ذلك قبل سنوات.

ومقابل ذلك، يرى المغرب أن الوقت قد حان للابتعاد عن التلاعب وتمويل النزعات الانفصالية، والتوقف عن دعم خلافات تجاوزها الزمن، وذلك بالتوجه لتدعيم خيار واحد، هو التنمية البشرية والمستدامة، ومحاربة الفقر وسوء التغذية، والنهوض بصحة شعوبنا، وتعليم أطفالنا، والرفع من مستوى عيش الجميع.

ويسجل المغرب أن الرهان الذي يتعين على القارة الإفريقية ربحه اليوم، بعد مرور أكثر من عقد من الزمن على ميلاد الاتحاد الإفريقي، هو رهان الوحدة والتماسك على أساس أن إفريقيا، التي طالما تم إهمالها، أصبحت اليوم فاعلا لا يمكن تجاهله، وعلى أساس أنه قد ولى الزمن الذي لم تكن فيه إفريقيا أكثر من مجرد موضوع في العلاقات الدولية، بل إنها صارت تؤكد وجودها، وتتقدم وتتحمل مسؤولياتها على الساحة الدولية كطرف فاعل وجدير بالاحترام في النقاش الدائر حول الحكامة العالمية.

مغربية الصحراء والمغرب الإفريقي 

    يمكن أن نلخص موقف المغرب في هذا السياق، في معادلة جديدة مفادها أن مغربية الصحراء في إفريقيتها، وأن إفريقيتها في مغربيتها، ومن هذا المنطلق، وفيما يتعلق بقضية الصحراء المغربية، فإن إفريقيا المؤسساتية لا يمكنها بعد الآن، أن تتحمل أوزار خطإ تاريخي، وإرث ثقيل، تقول الرسالة الملكية، التي نبهت إلى أن الاتحاد الإفريقي يجد نفسه في وضعية تعارض واضح مع الشرعية الدولية، على أساس أن “الكيان المزعوم” (البوليساريو) ليس عضوا لا في منظمة الأمم المتحدة، ولا في منظمة التعاون الإسلامي، ولا في جامعة الدول العربية، ولا في أي هيأة أخرى، سواء كانت شبه إقليمية أو إقليمية أو دولية.

تلك هي كرونولوجيا السياسة الجديدة للملك محمد السادس تجاه القارة الإفريقية، والتي توجت بعودة قوية إلى المنتظم الإفريقي، بعدما بدأت برسائل قوية وجهها ملك البلاد إلى المنتظم الأممي وإلى كل العالم، وخاصة قوى الاستعمار في القرن الماضي، وهو يبحث عن مستقبل لقارة المستقبل “إفريقيا”، في القرن الحالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى