الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المراوغات والتحامل على المغرب في محاكمة بنبركة

قراءات في محاضر المحكمة "الحلقة 48"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    جرت الأصول المتعارف عليها في مجال القانون العام، على أن تنحصر مناقشات المحاكمة في الملفات المطروحة عليها في أعقاب التحقيق المحال على المحكمة، وتكون كل العناصر الواردة الأخرى من باب الاستئناس فقط، رغم أن الكلمة الأخيرة تبقى لرئيس المحكمة، ومستشاريها، وللمحلفين، ورغم ما قد يبدو للقانونيين من آراء مخالفة، متطابقة مع اجتهاد الهيأة القضائية وتشكيلة المحامين، فإن المحكمة التي انعقدت لمتابعة المتهمين باختطاف المهدي بنبركة لم تخرج قيد أنملة عن الإشكالات التي دبجها قاضي البحث زولينجير فيما أسماه قرار الإحالة.

وقد أصر رئيس المحكمة، القاضي بيريز ـ وهو رجل وقور تجاوز الخمسين قصير القامة منتفخ الملامح، يخفي وراء نظاراته البيضاء الساقطة على أنفه نظرات كلها شك وريبة، وتسبق يده اليمنى بالإشارات الصارمة، كل تدخلاته التي هي أقرب إلى الأوامر منها إلى أي شيء آخر ـ أصر منذ الجلسة الأولى التي عقدت صباح الخامس من شتنبر 1966، على أن يتخلص من حمل ثقيل، فاستصدر من مستشاريه، وأصدر حكما مستعجلا نافذا في ذلك الصباح البارد، يقضي بـ((فصل البحث أثناء تلك المحاكمة في قضايا المتابعين الفارين من وجه العدالة، بوشسیش، أوفقير، الدليمي، الشتوكي، دوباي، لوني، باليس، وإقرار النظر في ملفاتهم خلال جلسة تعقد في النهاية بعد إصدار الأحكام في حق المتابعين المعتقلين أو الحاضرين في قاعة المحكمة))، وبعدما نودي على أسماء 207 من الشهود، ورد اسم رئيس الحكومة جورج بومبيدو، ووزير الداخلية روجي فري من بين الشهود، فتدخل حارس أختام الدولة ليخبر المحكمة أن الوزراء لم ترخص لهم الحكومة بالإدلاء بشهاداتهم.. باب آخر أقفل أمام وضوح الحقيقة، وفي خضم إقفال الأبواب، سارع الرئيسبيريز لإقفال باب آخر من الضخامة، بحيث أنه سيمنع التعمق فيما حصل للمهدي بنبركة، والخفايا السياسية التي مهدت لاختفائه.. فقد سأل المتهم “أنطوان لوبيز” في نطاق استجوابه، عن سر ملكيته لعدة مواخير مشبوهة، فأجابه “لوبيز”: “إنها كلها في خدمة الشرطة”، وسأله عن صداقته بالإرهابي الكبير “جواتيا”، فسرد “لوبيز” الكثير إلى أن وصل إلى مهامهما التي قاما بها في المغرب، فسارع الرئيس بيريز إلى رفع يده وبادر قائلا: ((المخابرات، السديك، نشاطهما وأعمالهما السرية لا تهمنا إلا ما يتعلق منها بقضية المهدي بنبركة)). الأسرار والخبايا كان رئيس المحكمة حريصاعلى أن تبقى رهينة الكتمان، ولم يقبل أبدا أن يثار أي سر، بل إنه منع كل من يريد الإدلاء بأي شيء جديد.

صنف الرئيس بيريز نفسه أيضا ووضع مصلحة فرنسا فوق كل اعتبار حينما دخل في نقاش مع المحامي القوي، تيكسيي فينيانكور، المرشح في الانتخابات لرئاسة الجمهورية، والمدافع عن المتهم الأول “أنطوان لوبيز”.. فقد تدخل المحامي في جلسة عاشر شتنبر، أثناء الجلسة السادسة، ليقول: “لا شيء يمنعنا من أن نجعل من هاته المحاكمة محاكمة سياسية”، فسارع الرئيس بيريز بعصبية: “قف عند حدك يا أستاذ”، فأجابه المحامي: “وأنت أيضا قف عند حدك يا سيدي الرئيس، فلم يحصل لي ولا لك يوما أن ذهبنا بعيدا”. وهنا أتيحت الفرصة المصيرية لوضع المحاكمة في إطارها حين قال الرئيس بيريز: “طبعا، فإننا أبناء وطن واحد”.. لقد هيمنت مراعاة السمعة الفرنسية ورد الاعتبار للدولة الفرنسية بعد هذه الفضيحة الكارثة، على كل جلسات المحاكمتين، وأصبح سر المهنة درعا يحتمي بحمايته كل من لا يجد مخرجا آخر، وقد طلبت هيأة الطرف المدني من محامين رفع هذا الحاجز الذي هو “سر المهنة” خلال تقديمهم لمذكرة بهذا الشأن في جلسة خامس عشر شتنبر (الجلسة العاشرة)، ولكن المحكمة رفضت، وهكذا، رفض الكوميسير كاي الإفصاح عن معلوماته في تلك الجلسة متذرعا بسر المهنة، ووافقه الرئيس بيريز، وفي الجلسة الثانية والعشرين، يوم 29 شتنبر، وقف السفير الفرنسي السابق في المغرب، المسيو جيلي، وطلب إعفاءه من تقديم أي جواب عن الظروف التي يعرفها والتي رآها عبر مهمته كسفير لفرنسا بالمغرب، فغضب محامي الطرف المدني بروكيي وقال له: ((إذن، أنت ترفض تنوير المحكمة بمعلومات أساسية يكون لها أثرها على معرفة الحقيقة))، وقبل أن يفتح السفير فمه، عاجل الرئيس بيريز المحكمة صائحا في اتجاه السفير: ((لا، لن تتكلم، ولنتجيب))، لكن تدخلات الرئيس بيريز لم تكن لتمنع ظهور التشابك والتعاون بين مختلف أجهزة المخابرات وأجهـزة الدولة الفرنسية في التحضير السيء الذي حول “موعد اللقاء بين المهدي بنبركة وحكومة بلاده” إلى “فرصة سطت عليها مجموعة من المجرمين ورجال المخابرات”.. ففي جلسة يوم 13 شتنبر، وكانت الجلسة الثامنة، استمعت المحكمة إلى تصريحات خطيرة جدا من طرف مدير الشرطة القضائية ماكس فيرني،الذي كان صريحا واضحا وهو يقول: ((لقد أصدر وزير الداخلية، روجي فري،الأمر بمنع البحث لمدة أسبوع، وأعطى أوامر صارمة إلى عميد شرطة مدينة باريس، بابون، بأن يحرص على أن يتم الاحتفاظ بسر مشاركة عميد الشرطة سوشون ومساعده فواتو، أكبر وقت ممكن، والحيلولة دون تسرب هذه الأخبار إلى قاضي البحث)).

إن الأمر، حسب وزير الداخلية، يتعلق بسر للدولة، ويتعلق بمناورة تستهدف تنفيذ مزايدة تمارسها فرنسا تجاه ملك المغرب، ولذلك، فعندما فشل الضغط على ملك المغرب، وظهر ذلك للعيان، وقتها فقط صدر الأمر باعتقال سوشون وفواتو يوم 11 نونبر.

لقد كان من شأن تصريح مدير الشرطة القضائية في الجلسة الثامنة، أن يوضح ما خفي من أسرار وما بيتته الحكومة الفرنسية من نوايا، ولكن الظروف الإعلامية التي كانت تدور فيها المحاكمة، والتي كانت مشحونة بالتحامل على المغرب وحده، وأغلبها مدفوع من طرف أجهزة المخابرات، جعلت تصريحات المسيو ماكس فيرني تمر في صمت، ولا تلقى الاهتمام الذي هي خليقة به.

كان كل يوم من هذه المحاكمة المشحونة بالمفاجآت، يطلع بشيء جديد، ويفاجئ بشيء مثير، وكان أكثر الأيام إثارة هو الكذب، ولقد كان المحامي “لومارشان” مشهورا بالكذب.. أليس هو الذي اعتذر لقاضي البحث زولينجير يوم 24 يناير، بأنه كذب عليه لمدة شهرين؟ لقد وقف المحامي “لومارشان” شاهدا فقط يوم 19 شتنبر، يوم الجلسة الثالثة عشر، ليطلق المزيد من الادعاءات، وبعد أن استجمع كل قواه، توجه نحو الرئيس بيريز قائلا: ((لقد سمعت خبر الاختطاف يوم ثاني نونبر 1965،أي بعد وقوعه بخمسة أيام))، وإذا عرفنا أن المحامي “لومارشان” هو الذي أسهم في تنظيم العملية، وأثبتت أبحاث المكاتب المختصة في تحليل الخط اليدوي، أن الأسئلة الموجهة للمهدي بنبركة قصد استنطاقه عنها كانت مكتوبة بخط المحامي “لومارشان” وبيده، وأن “فيكون” الذي كان في البيت الذي احتجز فيه المهدي بنبركة، يشتغل مع “لومارشان”، وأنه رافقه في زيارته إلى جنيف لمقابلة المهدي بنبركة، فكيف يصدق أحدأن هذا الشخص لم يسمع بالاختطاف إلا بعد مرور خمسة أيام على حدوثه؟ كذبة أخرى كانت أكبر من أختها، عندما واجهه الصحفي “خان” من مجلة “الإكسبريس”، وأكد له أنه قابله وصرح له بأنه قدم الإرهابي “فيكون” إلى الكوميسير كاي، فأجاب المحامي “لومارشان”: ((لا، لم أرك في أي يوم من الأيام))، ودخلت مجموعة من المحامين مع كبيرهم “لومارشان” في نقاش حاد، وأسئلة متكررة، فثارت أعصابه وقال صائحا بهذه العبارة التي لا تخلو من مغزى: ((أوه.. لقد تعبت وعرضت نفسي للأخطار حتى وجدت المهدي بنبركة، وأنتم أصدقاؤه ومحاموه تلومونني على ما عملت؟ إنه شيء غير مقبول)). هذا التصريح المصيري، المسجل في محاضر المحكمة في جلستها الثالثة عشر، ماذا يعني بعد إنكار صريح؟..ولمن كلف “لومارشان” نفسه عناء البحث عن بنبركة؟ ولمن سلمه؟

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى