الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | خبايا سكوت الجنرال “دوغول” في قضية بنبركة

الاختطاف والمختطفون "الحلقة 25"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    المسؤولية الفرنسية ليست مجرد تعبير أو اتهام، ولا تغطية لأطراف أخرى.. فقد كتب عنها كل ذوي الضمائر الحية من الفرنسيين، وكل المعلقين والصحفيين، ما يكفي لإثبات الإدانة في حق فرنسا.. حتى الجنرال دوغول، أحد كبار الرجال الذين عرفهم التاريخ الفرنسي، وأحد أقطاب الدهاء والسياسة في التاريخ العالمي المعاصر، تجمد الكلام في فمه عندما فاجأه أحد الصحفيين يوما بسؤال محرج عن قضية المهدي بنبركة.

وعندما عقد الجنرال دوغول إحدى ندواته الصحفية بعد إعادة انتخابه كرئيس للجمهورية، وكان اليوم هو 21 فبراير 1966، وقف الصحفي فيليب فياني، من مجلة “نوفيل أوبسيرفاتور” وسأله: ((سيدي الرئيس، لماذا سكتتم عن الجهر بالحقيقة في قضية المهدي بنبركة ليلة إقامة انتخابات رئاسة الجمهورية، وقدمتم للرأي العام الفرنسي ما يدل على حسن اطلاعكم على الأحوال؟))، فسكت الجنرال دوغول مليا، ثم أجاب بجملة قصيرة: ((ذلك نتيجة تكويني الضعيف)).

كان على رئيس الدولة الفرنسية أن يسكت، ويتفادى الإدلاء بهذا الجواب المرتبك، ولكن ثقل المسؤولية عادة ما يخرس الألسنة، أو يدفعها للهروب عن صلب الموضوع.. فليس الجنرال دوغول وحده هو الذي سكت، وإنما طبع هذا السكوت جهازا آخر لا دور له غير الكلام، وهو صحيفة “لوموند”، التي كانت ولا زالت تعتبر بالنسبة للأجيال الحاضرة، مدرسة الصراحة والأمانة الصحفية والنبل الإعلامي. ففي ثامن نونبر 1965، بعث إليها مجموعة من المفكرين الفرنسيين، من بينهم فرانسوا مورياك، آلان سافاري، وجاك بيرك، المعروفون باتصالاتهم العربية، رسالة موجهة إلى الحكومة الفرنسية والرأي العام الفرنسي، ختمها أصحابها بالجملة التالية: ((نحن الممضون أسفله، نتمنى أن تتخذ العقوبات اللازمة في حق الفرنسيين الذين تحملوا نصيبا في قضية اختطاف المهدي بنبركة))، جملة مفيدة ومتزنة، إيجابية متعقلة، لكن جريدة “لوموند” رفضت نشرها، وحجزتها رقابتها.

نفس الجريدة، توصلت من نفس المجموعة برسالة أخرى في 14 فبراير 1966، تتضمن الفقرات التالية: ((نطالب الحكومة الفرنسية، بأن تنشر الحقيقة بدون تحفظ ولا مجاملة، إنه ليس من حقنا أن نكتفي متشبثين بإطلاق أوامر اعتقال دولية بالنسبة للأجانب، وليس من حقنا أن نكتفي بالقول بأن العملية مسيرة ومدبرة من الخارج، مسيرة من طرف من؟ وما هي هذه الدول الأجنبية التي دبرتها؟.. لأن الاكتفاء بالإشارة إلى أطراف رسمية أو شبه رسمية، ليس كافيا ولا مقنعا بقدر ما هو سلبي وضار، وبالتالي، فإن تدبير هذه الجريمة، والصمت الذي أعقبها، ينطقان بالتواطؤ الكبير، الفرنسي الأصل، تواطؤ من الضخامة بحيث لا يمكن لأي مبرر تفسيرها.. فما هو يا ترى تركيب الاتفاق الحاصل؟ وكيف يا ترى يمكننا تفادي تكرار فضيحة من هذا النوع؟ إن الرأي العام لمن حقه أن يحصل على بيانات كافية)).. لكن هذه الفقرة كلها تعرضت بدورها للحجز والرقابة من طرف أكبر الصحف العالمية صراحة، وقد احتج أصحاب الرسالة على بتر هذه الجملة من رسالتهم، والتي كانت بالنسبة لهم بيت القصيد. ولكن الجريدة الإخبارية الفرنسية الكبرى، وهي تدافع عن الشرف الفرنسي والسمعة الفرنسية، لم تجد بدا من نشر البيانات الوافية عن الشكل الذي هيمنت به الفضيحة على أعمال الحكومة الفرنسية.

وفي 14 فبراير 1966، نشرت بيانات مفصلة عن الطريقة التي لجأ بها الجنرال دوغول إلى ضابط سام للجيش، تربطه به علاقة وثيقة، بصفته رئيس ديوانه العسكري، وهو الأميرال فيليبون، فطلب منه أن يتجسس له على الحقيقة في قضية المهدي بنبركة، فكانت النتيجة أن رئيس الدولة الفرنسية زمجر غاضبا، وتفجر ثائرا في مجلس للوزراء، ترأسه في 12 يناير 1966، فصب جام غضبه على وزير الداخلية روجي فري، الصديق الحميم لأوفقير، لدرجة كادت أن تصيب وزير الداخلية الفرنسي بالاختناق في قاعة الاجتماع، ولم يجد جوابا غير قوله: “لقد خفت أن تظهر الحقيقة لتستغل من طرف المعارضة”.

ومضى أسبوع واحد، وانعقد مجلس آخر للحكومة الفرنسية بتاريخ 19 يناير من نفس السنة، سجل في محاضره ما يكفي لتحديد المسؤولية الفرنسية.. فقد شهد أصدقاء الجنرال دوغول القدماء، أنهم لم يروه يوما على تلك الحالة من الغضب وهو يصيح: ((لقد حسبوني غبيا))، ثم انطلق صارخا: ((إن هذه القضية غير مقبولة، غير محتملة، لا أقبل السكوت عنها، يجب وضع حد لهذه الفضيحة، وفضح كل المسؤوليات الداخلية والخارجية)).

وصب الجنرال دوغول جام غضبه على الجهاز الذي تواطأ في القضية، جهاز المخابرات “سديك”، فنزع اختصاصات رئاسته من الوزير الأول جورج بومبيدو، الذي ظهر عجزه عن مراقبة المصالح التابعة له، وأسندت هذه المهمة لوزير الدفاع، وتم طرد الجنرال جاكيي، مدير المخابرات العسكرية الذي تم تنظيم العملية تحت أنفه، أو ربما بعلمه، وأسندت إلى موظف سام مهمة إعادة تنظيم الشرطة.

ولكن وزير الداخلية روجي فري، لم يكن يخفي فقط عن رئيسه، الجنرال دوغول، كل اتصالاته بالقضية، وإنما كان يعمل في مخطط مناهض تماما لرئيس الدولة الفرنسية، بتنسيق مع الأجهزة التي سبق في فصول سابقة أن توسعت في الحديث عنها، لهذا سارع أحد المفكرين الفرنسيين، إيمانويل داستيي”، للتعليق على ما نشر عن غضبة الجنرال دوغول وقراراته، فصرح للتلفزيون الفرنسي في 25 يناير 1966، قائلا: ((إن رائحة العفن تُشم من هذه القضية، ولو كنت أنا هو روجي فري، لقدمت نفسي بدون تأخير للعدالة الفرنسية)).

وعندما فتح ملف اتهام الأجهزة الفرنسية، بدأ السباق في رمي الحجارة على التنظيمات الفرنسية المسؤولة عن الاختطاف، وتنبأ الكاتب الفرنسي موريس كلافيل في جريدة “لوموند” (يوم 22 يناير)، بنهاية نظام الجنرال دوغول، ونهاية الديغولية، وفعلا، كانت قضية المهدي بنبركة وانعكاساتها على الرأي العام الفرنسي، حتمية في نهاية النظام الديغولي والعظمة الديغولية، كانت هي القشة التي قصمت ظهر الديغولية.

وانتهى دوغول، وبقي الرأي العام الفرنسي، وبقي الكاتب كلافيل متعقبا للأحداث باحثا دارسا منتظرا ظهور المسؤوليات، وبعد سبعة شهور، كتب الصحفي الفرنسي حصيلة استنتاجاته وأبحاثه في رسالة وزعها على مستويات عليا مؤرخة بشهر غشت 1966، يختمها بقوله: ((إنه إذا كان النظام الفرنسي يخفي عنا حقيقة الجريمة، فذلك لأنه مسؤول عن الجريمة، سواء بصفته مدانا أو عاجزا)).

لقد أكدت لجنة الحقيقة في قضية بنبركة، أنها حصلت على تأكيدات من طرف عملاء المخابرات الفرنسية “سديك”، تبرر الأسباب التي جعلت هذا الجهاز يجهز على المهدي بنبركة، للسبب التالي: ((إن الأجهزة السرية الفرنسية التابعة لـ”جاك فوكار”، كانت ترغب في منع رجوع المهدي بنبركة للمغرب، تفاديا للتقارب بين النظام المغربي والقوات التقدمية اليسارية، وللمحافظة على مصالح كبار المعمرين الفرنسيين بالمغرب، وعلى استمرار المخطط الفرنسي في القارة الإفريقية، التي يعتبر المغرب نقطة الاتصال معها، بعد أن بلغت العداوة بين المهدي بنبركة والنظام المغربي حدا يبرر إقدامهم على تنفيذ مخططهم، ولكن النتيجة المفهومة من اعترافات خبراء المخابرات الفرنسية، هي أن النظام المغربي كان يرغب فعلا في رجوع المهدي بنبركة، وليس اختطافه أو اغتياله)).

مسؤولية فرنسا، مرة أخرى، ليست من قبيل الكلام الملقى على عواهنه، ورغم أنها لا تزيح عن أوفقير تبعة الإسهام في تحمل المسؤولية، إلا أنها تجعل من أوفقير الرجل الذي استعمل الأجهزة الفرنسية لتنفيذ مخطط جهنمي، كان من الجائز منع تنفيذه لو لم تكن هناك مصالح مشتركة مع الأجهزة الفرنسية، تلتقي فيها مع المخطط الكبير للمصالح الفرنسية التي لم يكن أوفقير نفسه إلا عميلا من عملائها.

تفسير معقد، لكن ربما برع مدير مجلة “جون أفريك”، البشير بن يحمد، في إيجازه في العدد الصادر يوم 8 فبراير 1966، بالعبارات التالية: ((إن على مطلق الاتهام أن يقدم حجة الاتهام، ومادامت حجة اتهام الجانب المغربي غير متوفرة، فإن المغاربة أبرياء، وإذا كان المغاربة أبرياء، فإن المتهمين متواجدون في باريس.. إلا إذا كانت قضية بنبركة من التعقيد لدرجة تجعل منها قضية عالمية تتعدى نطاق فرنسا والمغرب)).

ففي من تجسمت المسؤولية الفرنسية يا ترى؟.. لقد سمع الرأي العام العالمي عموما، والمغربي والفرنسي خصوصا، عن اسمين أو ثلاثة، بينما برعت أجهزة الإعلام الفرنسية في أعقاب المحاكمة، في تسليط الأضواء الكاشفة على جانب معين واحد، هو الجانب المغربي، متيحة بذلك الانتشار المقصود للتعتيم أن يكون فرصة انفلات العناصر المسؤولة فعلا، وانكباب الاهتمام الكلي، وبالتالي، إمساك الاتهام بتلابيب ما وقع تحت أيدي الرأي العام من عناصر.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى