الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | عندما اغتال الفرنسيون الرجل الذي رفض الاعتراف بالمجموعة الإفريقية الفرنسية

تعالوا نتحدث عن الإرهاب

التزام مصطفى العلوي مع قرائه مستمر :
يواصل الراحل مصطفى العلوي التزامه مع قرائه رغم وفاته، فقد كان الراحل حريصا على ترتيب مواعيده مع قرائه من خلال كتابة ما يجب أن يكتب، في انتظار نشره، بل إن طاقم “الأسبوع” بعد التنقيب في خزانة الفقيد، عثر على مقالات وروايات واقعية مكتوبة بخط يده، ولم تنشر من قبل، سنعمل على الإستمرار في نشرها وفاء لروح أستاذنا مصطفى العلوي في ركن “الحقيقة الضائعة”.

 

بقلم: مصطفى العلوي

  أكبر من الخيال، وأقرب إلى المستحيل، ما كان يخططه رواد الإرهاب العالمي في أروبا خلال الستينات، وحيث قدموا لنا – كما سبق – نماذج عن كل نوع من أنواع الإرهاب التي تهز العالم هذه الأيام، وتكتب في سجل العرب وحدهم، فقد رأينا عمليات الاغتيال في تونس، واختطاف الرهائن في المغرب، واختطاف طائرة بنبلة في الجزائر، ولازالت اللائحة طويلة.

ولكن العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبعد أن دخل مرحلة الحرب الباردة التي هي الترجمة الحرفية للإرهاب بجميع أشكاله البشعة، لم يكن يعرف جزئيات هذه الحرب الشرسة، ولا كانت أجهزة الإعلام العالمية تضخم ممارسات الإرهاب مثلما يجري الآن، بل كانت أخبار تلك الجرائم تبقى في إطار إعلامي محدود، فلم تصدر الصحف الألمانية مثلما في صفحاتها الأولى وبحروف غليظة، أخبار محاولات اغتيال “سكوتير”، لأن تلك الأعمال كانت دائما تدرج فيما يسمى بالمنطوق الصحفي “حوادث وأحداث”، بينما كان مؤلفو الروايات البوليسية ومخرجو الأفلام السينمائية، يجدون في جزئيات تلك الأعمال الإرهابية بعد فحصها، مادة خصبة لشحذ خيالهم وترويج بضاعتهم، فعرفت الروايات البوليسية والأفلام عن الجاسوسية، نهضة كبرى خلال تلك الفترة، كان الكثير من الناس يتصورون أنها من صنع الخيال، لتصدر سلسلة مذكرات ووثائق واعترافات في ما بعد، تثبت في كثير من الأحيان أن ما تتضمنه تلك الروايات والأفلام، إنما كان جزء من الحقيقة، على سبيل المثال، الشريط السينمائي “ماتيي” الذي أخرجه سنة 1971، السينمائي الإيطالي “أنسيسكو روزي” ومثل دور البطولة فيه الممثل الإيطالي “جيان فولونتي”.

وقد كشف هذا الشريط خبايا وجزئيات جد دقيقة عن عملية اغتيال نفذها رجال المخابرات الفرنسية سنة 1962، وكانت داخلة في إطار الحرب التي أعلنها الفرنسيون على كل من يقدم مساعدة لثورة الجزائر.

اغتيال “ماتيي”

في سنة 1962، كانت وضعية السوق العالمية للبترول تختلف كثيرا عما هي عليه الآن، وكانت الشركات العالمية مستقلة في معاملاتها، منفصلة عن بعضها.

وعرفت صناعة البترول آنذاك في إيطاليا، نهضة مدهشة كان بطلها عالم تاجر إيطالي اسمه “إينريكو ماتيي”، الذي أسس شركة “إيني” ولازالت موجودة إلى الآن، وكان الرجل من الدهاء والذكاء لدرجة جعلت إمبراطوريته تصبح نموذجا عالميا، ألزمته بالتنقلات الكثيرة عبر أقطار العالم العربي، وأمريكا، بواسطة طائرته الخاصة، وأصبح اسم “ماتيي” مقترنا باسم البترول وإمبراطورية البترول.

وأصبح “ماتيي” أمل الإيطاليين جميعا حينما أصبح يدافع أمام الأجهزة الحكومية في وطنه، عن ضرورة استقلال بلده عن “كارتل” البترول الإمبريالي العالمي، الشيء الذي عرضه لانتقادات شديدة في الصحف الأمريكية والبريطانية. واتجهت إليه الأنظار حينما بدأ في غزو أسواق الدول المنتجة للبترول، وتقديم عروض سخية في نسبة “الروايالتي” التي كان يقدمها للدول المنتجة للبترول، ولكن خوض “ماتيي” لمضمار حرب ضروس ضد أقوى شركات البترول العالمية، لم يعرضه لأي خطر على حياته، لأن العالم وقتها كان يتعامل على أساس إتاحة الفرص للجميع، إلا أن المخابرات الفرنسية التي كانت لم تتوقف عن الخوض في ملفات الأبناك السويسرية وخزائنها، عثرت على عقد سري أمضاه “ماتيي” مع قادة الثورة الجزائرية، بعد أن جاء للمغرب وأمضى اتفاقيات مع حكومتها، لإنشاء مصفاة للبترول.

واكتشفت المخابرات الفرنسية أن اتفاقية “ماتيي” مع الثوار الجزائريين تنهي على تعهدهم بالسماح له بعد الاستقلال بوضع اليد على سوق البترول الجزائري، وامتياز التنقيب عنه في الصحراء الجزائرية، وبالمقابل، يشرع “ماتيي” في تمويل الثورة الجزائرية بواسطة قروض مسبقة، يدفعها لحساب الشركة الأمريكية “أنتير أرمكو” التي تشحن الأسلحة للثوار الجزائريين، وبدأ تنفيذ الصفقة فعلا، فلم يبق للفرنسيين شك.

وبدأ تنفيذ المخطط التصوفي لـ”ماتيي”، حينما تقدم إلى مكاتب “ماتيي” خبير فرنسي في إصلاح الطائرات، طلب الالتحاق بالمجموعة التي تتعهد طائرات الشركة، وقدم من الشهادات ما جعل شركة “ماتيي” تمضي معه عقدا طويل الأمد، ولم يكن الخبير الميكانيكي في الطائرات، واسمه “لوران”، إلا رجل العصابة الفرنسية التي قررت اغتيال “ماتيي”.

وقررت شركة “ماتيي” تكليف الخبير “لوران” بالإشراف على مطار صغير تابع للشركة، أنشأته في جزيرة صقلية غير بعيد عن مركز للتنقيب قريب من مدينة جولا بصقلية، وكان “ماتيي” يأتي بصفة أسبوعية لتفقد عمليات التنقيب، ممتطيا طائرته الخاصة من نوع “موران”، وهي طائرة نفاثة صغيرة.

وقضى “ماتيي” ليلة 25 أكتوبر 1962 في صقلية، على أن يغادرها صباحا في اتجاه ميلانو، وكانت الفرصة مواتية للخبير “لوران” في أن “يشتغل” على الطائرة ليلا.

وأقلعت الطائرة وسمع موظفو برج المراقبة كلام ربان الطائرة وبها “ماتيي”، في اتجاه ميلانو، وبغثة انقطع الاتصال.

وفعلا، كانت الطائرة فوق إحدى الغابات عندما انفجرت، ولم ينج أي واحد من ركابها.

اغتيال “فيليكس موميي”

عندما عرض الجنرال دوكول على بعض الدول الإفريقية التي كانت خاضعة للحكم الفرنسي، طريقة الاستفتاء، بين البقاء تحت الحكم الفرنسي أو الدخول في هيكل كونفدرالي إفريقي تابع لفرنسا، لم يكن لتلك الدول من اختيار، فالوضع هو نفسه، باستثناء إمتاعهم بالعلم وبسفارات في الخارج.

وكانت الكاميرون إحدى الدول التي قبلت الدخول في المجموعة الإفريقية الفرنسية، مما أثار غضب الزعماء السياسيين الأفارقة الذين كانوا يناضلون من أجل استقلال حقيقي، وبينهم المناضل الكاميروني الكبير، “فيليكس موميي”، الذي فضل اللجوء إلى سويسرا للاستمرار في المطالبة باستقلال حقيقي.

وفعلا، لم يقبل الجنرال دوكول من هذا الأسود النحيف، أن يبقى حرا طليقا في كواليس المنظمات الدولية في جنيف، يهزئ مشاريع الجنرال دوكول.

ولم يكن رئيس الدولة الفرنسية بحاجة لأن يفصح عن تضايقه، فهناك حوله مجموعة من رجال “الساك”، رفاق السلاح الذين لم يقبلوا منه أن يعترف لهؤلاء “السود” باستقلال صوري، وهم الذين يعتبرون أن العرب والأفارقة أحق بأكثر من يعاملوا كعبيد، فوقع اختيار عصابات التصفية على ضابط سابق في الجيش الفرنسي، قدم خدمات جلى للمخابرات الفرنسية، واسمه “ويليام بيشتيل” من مواليد 1895، إذن، فقد كان في الستينات رجلا وقورا لا يشك أحد في مصداقية شخصه.

وبدأ المخططون لاغتيال “فيليكس موميي” في التحضير للعملية التي تنبع خطورتها من كون الزعيم الإفريقي مشهور في الأوساط السياسية، ومراقب من طرف السلطات السويسرية، ومرافق من طرف حارس خاص، ثم أنه صديق حميم لوزير خارجية الاتحاد السوفياتي “مولوطوف”.

وبدأ رجل المخابرات “بيشتيل”، عملية التقرب من ضحيته: الزعيم الإفريقي، عندما قدم له نفسه في إحدى المناسبات بمدينة أكرا (غانا) على أنه صحفي أمريكي متعاطف مع القضية الكاميرونية ومع زعيمها “موميي”.

وفي 13 أكتوبر 1960، تقابل الرجلان “صدفة” في جنيف، فأظهر “بيشتيل” سعادة كبرى بلقاء “موميي” الذي دعاه للعشاء في مطعم مرموق بجنيف يسمى “صحن الفضة” في المدينة القديمة بجنيف، وبعد العشاء، وبعد عودة “فيليكس موميي” لغرفته، أحس بتعب ومغص في أمعائه استمر لمدة يومين، فطالب بنقله إلى المستشفى بعد أن عرف أن وضعيته خطيرة، فالزعيم الكاميروني سبق له أن درس الطب قبل أن يتفرغ للسياسة، وأمام أطباء المستشفى، قال لهم: ((لقد أطعمت سما من نوع الطاليوم)).

و”الطاليوم” نوع من السم الذي يسري مفعوله رويدا رويدا، ويبدأ في شل الأعضاء واحدا بعد الآخر، وأخيرا يموت المسموم به مختنقا، وذلك ما حصل فعلا لـ”موميي”.

لقد انتهت مهمة “بيشتيل” الذي أطعم الزعيم الإفريقي سما من نوع “الطاليوم”، وبدأت السلطات السويسرية في البحث بعد أن تأكد لها أن الزعيم الإفريقي أطعم سما في مطعم “صحن الفضة”، ولم يبق شك في أن الذي أطعمه سما هو رفيقه في المائدة “الصحفي بيشتيل”، وتوجه ضباط البحث السويسري لاستنطاق “بيشتيل” بعد التعرف على هويته الحقيقية، وطرقوا باب شقته يوم 4 نونبر، فلم يجبهم أحد.

وعندما فتحوا الباب بوسائلهم الخاصة، وجدوا جثة رجل يشبه “بيشتيل” مخرومة بالرصاص، أما “بيشتيل” الحقيقي، فقد مات بعد أن غير اسمه ووجهه، في أحد مستشفيات جنيف.

 

 

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى