تحقيقات أسبوعية

خاص | مصطفى العلوي.. عندما يصبح الصحفي صديقا لرئيس الدولة

إعداد: سعيد الريحاني

يحكي الراحل مصطفى العلوي: ((أثناء إحدى القمم العربية، وكان الحسن الثاني قد صرف عليها من ماله الخاص دون أن يحصل على أية مساهمة من أية دولة عربية في التمويل، وأثناء عقده للندوة الصحفية الختامية، بحضور مئات الصحفيين العرب الذين رافقوا رؤساء دولهم، كنت جالسا بين الصحفيين بجانب المرحوم عيسى بن شقرون، وكان وقتها نائبا لمدير وكالة المغرب العربي للأنباء، وأثناء إلقاء الصحفيين لأسئلتهم، فوجئت بأحد المخازنية بزي مدني يأتي عند عيسى بن شقرون، وينحني عليه قبل أن يقدم له بعيدا عن الأعين ورقة.. سرعان ما سلمها لي عيسى بعد أن فتحها، لأنها كانت موجهة لي ومكتوب بها “ضع سؤالا حول المساهمة العربية في التحضير لهذا المؤتمر”، وفعلا وضعت السؤال، ليجيب عنه الملك الحسن بسرعة قائلا: انظر إلى سحنة وزيري في المالية لترى علامات الأزمة التي خلقها التحضير لهذا المؤتمر))..

هكذا تحدث مصطفى العلوي عن إحدى الحالات التي يظهر فيها الصحفي صديقا للملك ومساعدا له، و((الصديق الحقيقي لرئيس الدولة هو الذي يرتبط معه بتكامل حميمي بعيدا عن كل تأثير مصلحي أو مادي، فالصحفي ورئيس الدولة هما معا في خدمة المصلحة العليا للبلد الذي يجمعهما.. أما السؤال الذي يؤرق الصحفيين في كل العهود الماضية والحاضرة فهو: هل يقرأ الملك الصحف؟ فقد أجاب عنه الملك الحسن الثاني في حواره مع صاحب كتاب “ذاكرة ملك”، الذي اعتبر أن الصمت المطبق يؤثر سلبا على اسقرار الأنظمة، فقد قال له الملك: إن هناك وسيلة ناجعة لإسقاط جدار الصمت.. وهي قراءة الصحف، لأن الصحف فيما يتعلق بها ليست خرساء، وحتى عندما تكون الأمور على أحسن ما يرام، ترى الصحف غير متفقة..))، حسب ما حكاه القيدوم الراحل في كتابه “مذكرات صحافي وثلاثة ملوك”.

قصص الصحافي الراحل مصطفى العلوي مع الملك الحسن الثاني كثيرة، وقد حكى القيدوم، كيف أن الوزير الأول السابق عبد الرحمان اليوسفي وقف على رأس الملك الراحل الحسن الثاني بينما كان هذا الأخير يراجع لائحة مرافقيه إلى الصين، ليعثر بين الأسماء على اسم مصطفى العلوي، فقال الملك لعبد الرحمان اليوسفي: لماذا تأخذ معك العلوي؟ فقال له: هذا مصطفى العلوي الصحفي المعروف، لماذا تأخذه معك؟ فقال له: إنه ليس الصحفي الوحيد، فوافق الملك على حضوره في هذا الوفد.. وقد كان الملك الحسن الثاني يتتبع عمل الصحافي مصطفى العلوي عن قرب، ((ففي جلسة عمل بينه وبين وزيره القوي في الداخلية والإعلام إدريس البصري، وحين كان يدرس معه تفاصيل تنظيم المناظرة الوطنية للإعلام سنة 1993، وبعدما أطلعه البصري على كل التفاصيل، وعلى لائحة الذين أنعم عليهم بالأوسمة من رجالات الإعلام، فاجأه الملك الحسن الثاني بقوله: وبالمناسبة، وشح صدر الصحافي مصطفى العلوي بوسام العرش من درجة فارس، ليبتلع الوزير البصري ريقه، وينادي كاتبه العام الصديق معنينو ليقول له: أخبر مصطفى العلوي بضرورة حضور الجلسة الختامية، لأوشحه باسم جلالة الملك)) (نفس المصدر).

لا غرابة أن يكون الصحافي مصطفى العلوي حاضرا في حكايات الملك الراحل الحسن الثاني، فقد ورث “الحسن الثاني المظلوم” هذا الانفتاح على الصحافة من والده الملك محمد الخامس، وقد كان الملك المغفور له حاضرا عندما كان الملحق الإعلامي للقصر، مولاي أحمد العلوي، يتعارك مع صحفي آخر داخل القصر هو الشوفاني الفاسي، حتى أنهما سقطا معا على الأرض..

يحكي الراحل العلوي: ((فتحت الأقدار سجلا جديدا في تاريخ المغرب المنهار، فكان محمد بن يوسف هو الرجل الذي ساقته الأقدار ليتحول وهو في قبضة الوصاية وشعبه في قفص الحماية، إلى زعيم زمان كانت فيه الزعامة نادرة، وشهم في عهد كانت فيه الشهامة منعدمة، ومجاهد في عهد كان فيه كل المجاهدين قد استشهدوا..)).

نفس المصدر يحكي بأسلوب شيق عن زمن الملك المغفور له محمد الخامس: ((.. وأنا سائر في جنازته، مع عشرات الآلاف من الباكين، كنت أستعيد ذكريات تلك الأيام القصيرة التي عشتها معه وأنا أقطع خطواتي الأولى في طريق الصحافة، مستلهما أفكاري من كلماته، وآمالي من ابتسامته، وهدوئي من وداعته، وصبري من معاناته، وعصاميتي من سيرته، خلال تلك الأيام كنا نحن الصحفيين، نراه فيها يوميا أكثر من مرة، كانت أجملها تلك الساعات المبكرة من كل صباح، حينما كان يقوم بجولته اليومية في شارع محمد الخامس، وشارع النصر على سيارته “الأوبيل” يسوقها بنفسه ويقف في الضوء الأحمر، ثم نراه يوميا في الأنشطة الرسمية كل زوال، حيث كان حريصا على أن يحضر الصحفيون بجانبه، في زمن لم يكن فيه العالم قد أصيب بعد بعاهة الهاجس الأمني، ولا بتقليعة البادج.

كيف ينسى صحفي مثلي أنه ما إن علم رحمة الله عليه بإصداري لأولى المجلات في حياتي، حتى سارع إلى تشجيعي برسالة أمضاها بنفسه، يدعو لي فيها بالتوفيق.. وكيف ينسى غيري، كصانع الزليج في ولجة سلا، أنه كان يحضر إليه بين الفينة والأخرى، يشرب معه الشاي في براد مشترك ويحاسبه ويناقشه.. أم كيف ينسى السياسيون الذين أصيبوا غداة الاستقلال بعاهة التعنت، وذهب بعضهم إلى متاهات العنف، فقال عنهم مقولته الشهيرة: “إن ممارستي السياسية بيضاء كجلبابي هذا، لا يمكن أن تلطخها قطرة دم”)) يقول مصطفى العلوي.

هكذا كان الملك الراحل محمد الخامس صديقا للصحافيين، ونفس الخاصية ورثها الملك الراحل الحسن الثاني عن والده، ومن تم لا غرابة أن تجد مستشارا ملكيا، مثل الراحل أحمد بنسودة، هو الذي يتولى كتابة تقديم كتاب عن محمد الخامس لمؤلفه مصطفى العلوي، بل ويثني عليه في عمله قائلا: ((عرفت مصطفى العلوي صحفيا لاذع الملاحظة، حاد الكلمة، ولاشك أنه تأثر بمدارس وأساليب النقذ الأدبي، الاجتماعي والسياسي لعصور مختلفة، ففي أسلوبه نكهة الجاحظ، وجرأة فكري أباضة، وسخرية المازني، وعبد العزيز البشري، ولقد كنت متتبعا لنشاطه الصحفي، ليس فقط بدافع الفضول المهني، بل لأنني كنت أتوق أن تنمو وتتطور التجربة الصحفية.. ولقد ساهم الأستاذ مصطفى العلوي مساهمة بارزة لا تنكر في تأسيس مدرسة الصحافة الناقدة اللاذعة..)).

من الشهيد علال بنعبد الله، وخلع بن عرفة، إلى أحداث كبرى في عهد محمد الخامس، ظل مصطفى العلوي وفيا لـ”الصحافة الملكية”، وينقل صورا عن أجواء نفي الملك محمد الخامس، فعندما بدأت التحركات في إكس ليبان، وأصبح الاهتمام بالمغرب يغطي على الصفحات الأولى من جرائد فرنسا، وحمت المناقشات في البرلمان الفرنسي والأمم المتحدة.. ((كانت فرنسا تأتي إلى مدغشقر بعيون صحافييها، لترى هذا الرجل الذي هز فرنسا بعدما زلزل المغرب، وهو على بعد إثني عشر ألف كيلومتر، لم يسجن مثل مانديلا ربع قرن، وإنما سنتين فقط، ورغم ذلك، ها هي أعنف الدول الاستعمارية وأكثرها قوة، تتحرك لمسالمة الرجل ومصافحته، فأية قوة هاته التي أرغمت القوة الفرنسية على التراجع عن قرارها بإبعاد الملك محمد الخامس بهذه السرعة المذهلة؟ وأين تكمن عظمة هذا الرجل المسلم العربي الذي أقض اسمه مضاجع كبار السياسيين في العالم كله، وأصبح اسمه يحتل الخطوط الأولى على أمواج الأثير، في القاهرة وباريس، ودمشق، ولندن، ونيويورك؟)).

علاقة السلطان محمد الخامس بالصحفيين، لم تكن لتتوقف، فعند عودة محمد الخامس من المنفى، وقد تاه الصحفيون الفرنسيون في البحث عنه بمنفاه، دون أن يخطر ببالهم أن الرجل كان يذهب يوميا لشراء الخضر من السوق، ويذهب عند طبيب العيون.. لكنه اكتفى بالقول بعد عودته وهو يلتقي الصحافة: ((ماذا تريدون أن أقول لكم، غادرت المغرب منذ سنتين، ولا يمكنني أن أخبركم بشيء محدد، وكل ما يمكنني أن أبلغكم به، هو ما أعرف، وما أعرف وما يعرفه العالم أجمع، هو ذهاب بن عرفة، أما ما سيعقب ذلك، فإني مثلكم أنتظر (..))).

هكذا طبع مصطفى العلوي عهد ثلاثة ملوك بصحافته، غير أن أصعب مرحلة، هي تلك التي قطعها في زمن الحسن الثاني بعد أن تحول وزير الداخلية الراحل البصري، إلى حاجز(..)، فـ((الموقف العدائي للبصري من الصحافة، كان منصبا على شخص مصطفى العلوي، لأن الاتحاديين كان هناك من يتكفل بهم، والاستقلاليون كانوا دائما مرضيا عنهم في القصر الملكي، وحتى علي يعتة الذي عانى من تنكيل الأجهزة، تركني وحيدا تحت سياط البصري، عندما اتخذ وجهة القصر الملكي، إلا أن حاجزا سماويا ظل موجودا، ما دام الله ينصر من يرضى عنهم، فيما يتعلق بي، ذلك أن الحسن الثاني، كان من قراء جريدة “أخبار الدنيا” وما يليها من جرائدي)).. (المصدر: مذكرات صحافي وثلاثة ملوك/ مصطفى العلوي).

هكذا كان العلوي عابرا للعصور والقصور، من عهد السلطان محمد الخامس إلى عهد الملك محمد السادس، الذي بصم مهمة مصطفى العلوي بشهادة تعزية للتاريخ، أشاد فيها بالأخلاق المهنية العالية والتشبت بمقدسات الأمة وثوابتها من لدن الصحافي الراحل(..).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى