تحقيقات أسبوعية

عبد الهادي بوطالب وأحمد بنسودة وأنا ومصطفى العلوي

بقلم: رمزي صوفيا 

ببالغ الحزن وعظيم الأسى تلقيت نبأ رحيل عميد الصحافة وهرم الإعلام في المملكة المغربية، الأستاذ مصطفى العلوي، الذي التحق بدار البقاء في الساعات الأولى من صباح يوم السبت الماضي، بعد معاناة طويلة مع مرض استبد بجسده دون أن يمنع فكره الثاقب وقلمه السيال من مواصلة كتابة أفضل المقالات وأروع الدراسات.

لقد تفضل العاهل العادل الملك محمد السادس نصره الله، بإرسال برقية تعزية إلى عائلة الفقيد، قال فيها جلالته: ((علمنا ببالغ التأثر بالنبأ المحزن لوفاة المشمول بعفو الله ورضوانه، المرحوم الصحفي المقتدر، مصطفى العلوي، أسكنه الله فسيح جنانه))، ودعا جلالته للمرحوم مصطفى العلوي بالخير: ((وإذ نشاطركم مشاعركم في هذا الرزء، الذي لا رد لقضاء الله فيه، لنتضرع إليه عز وجل بأن يلهمكم جميعا جميل الصبر وحسن العزاء، وأن يجزي الفقيد خير الجزاء على ما أسداه لوطنه ومجتمعه من جليل الأعمال، ويجعله من الذين يجدون ما عملوا من خير محضرا، ويتقبله في عداد الصالحين من عباده.))
وقد تعرفت على الراحل بواسطة صديقي الغالي، الراحل الأستاذ أحمد بنسودة الذي كان مستشارا مرموقا ومديرا للديوان الملكي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، وعندما جالست المرحوم مصطفى العلوي لأول مرة، غمرني شعور بالانبهار وأنا أصغي إلى حديثه الشيق، فأيقنت في تلك اللحظات التي لن أنساها بأنني تعرفت على أحد فطاحلة الإعلام، بفضل الثقافة الكبيرة والمعلومات الغزيرة التي كان يتوفر عليها مصطفى العلوي، ناهيكم عن تمكنه الشديد من كل عناصر الكتابة بلغة الضاد في أرقى مستوياتها، وبعد فترة قصيرة، توطدت علاقة التواصل ثم الصداقة بيني وبين مصطفى العلوي، حيث كنا كثيرا ما نلتقي حول مائدة الغذاء في بيت صديقي الراحل العلامة والأديب الدكتور عبد الهادي بوطالب، الذي كتب تقديما متميزا لمؤلفي عن جلالة الملك محمد السادس أيده الله تحت عنوان “محمد السادس، الملك الأمل”، وبعد ذلك قمت بتعريف مصطفى العلوي على الأستاذ أحمد الجار الله، صاحب ورئيس تحرير جريدة “السياسة” الكويتية، وكنت أشغل آنذاك منصب مدير إقليمي ومديرا لتحرير “السياسة”الكويتية/ الطبعة الدولية، التي كانت تصدر في المغرب بحلة قشيبة وملونة وتوزع في عدة بلدان، وكان معظم السياسيين وصناع القرار في المغرب يجرون مقابلات صحفية مع جريدتنا، وكنت أحظى بشرف إجراء تلك الحوارات، وكان الراحل العظيم الملك الحسن الثاني، معجبا للغاية بجريدتنا وبمحتواها الحداثي السابق لعصره.

وخلال لقاءاتي مع مصطفى العلوي، كان يسترسل بكل سلاسة في التحدث عن تواريخ الحضارات القديمة، بل المغرقة في القدم، فيسرد كل تفاصيلها وكأنه عايش تلك الحقب، كما كان يتحدث في أدب الرحلات وأخبار الجغرافيا فيذكر عناصرها وكأنه عاصر ابن بطوطة، وكان يتحدث عن أشهر الشخصيات القيادية القديمة والمعاصرة فيمنح انطباعا بأنه رافق كل الزعماء في حلهم وترحالهم.. كل هذا مع أخلاق راقية تحظى باحترام الرأي الآخر.
وهكذا توطدت وشائج الصداقة بيني وبين مصطفى العلوي، فكان يحكي لي باستمرار كيف كافح لترسيم أسس صحافة حرة وقوية في المغرب، وكيف ناضل لتقديم إعلام قوي العناصر يخدم القضايا الاجتماعية ويعزز المسار التثقيفي والركائز التوعوية للمواطن المغربي، وكان يتحدث بطريقة تؤكد ثقته الكبيرة في غد مشرق للديمقراطية في المغرب دون أن يتوقف عن التعبير عن قلقه على مستقبل الصحافة المكتوبة في ظل انتشار الفضاءات الرقمية، فكنت ألاحظ انزعاجه الشديد كلما قرأ خبرا عاريا من الصحة، وكنت أقول له: “ما رأيك في وقوع الصحفي في زلة نشر خبر مزيف؟”، فكان ينتفض قائلا لي: “لا يمكن أن نسميه صحفيا، فالصحفي لا يمكن أن يسمح لنفسه بترويج خبر مزيف حتى عن طريق الخطأ، فلا عذر لصحفي لا يتحقق من مصادر معلوماته قبل تحويلها إلى أخبار”.. هكذا كان المرحوم مصطفى العلوي، وهكذا كانت مبادئه الصحفية، فقد كان يعتبر الكتابة مسؤولية، والصحافة ركيزة من ركائز تكوين الأجيال على مبادئ الصدق والنزاهة، وإضافة لتمسكه بمقومات الصحافة الحرة، فقد كان قيدوم الصحافيين يكره المساس بكرامة الصحفي وقيمته الاجتماعية، فكان يردد على الدوام عبارة مؤثرة هي: ((الصحفي لا يباع ولا يشترى))، حيث كان يكتب بطريقة جريئة وصحيحة استنادا على أخلاقياته المهنية، وبعيدا عن أي تأثيرات مهما كانت مكانتها.
وذات يوم كنت أجالس الراحل مصطفى العلوي، فدار حديثنا عن أعز مطبوعة أصدرها، ألا وهي جريدة “الأسبوع الصحفي”، فاقترح علي كتابة مقال أسبوعي في زاوية يتم تخصيصها لي بطريقة منتظمة ومتواصلة، فأعجبني اقتراحه، ولكني قلت له بأنني سأستشير الأستاذ أحمد الجار الله قبل الانضمام إلى طاقم كتاب جريدة “الأسبوع”، وتلقى الجار الله ذلك الخبر بسعادة كبيرة، لأنه من المعجبين بـ”الأسبوع الصحفي”، إضافة للصداقة الوطيدة التي ربطت بينه وبين مصطفى العلوي، وهكذا شرعت في نشر مقالاتي حول مواضيع مختلفة تسلط الضوء تارة على قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية تهم الرأي العام ومواضيع تنفض غبار السنين عن أشهر نجوم الشاشة الفضية ومشاهير الطرب في الشرق والغرب، الذين التقيتهم في مراحل من حياتي وحاورتهم وعرفت منهم ما لم يعرفه أي صحفي آخر، موثقا لقاءاتي معهم في القاهرة وروما وباريس وهوليود بالصور.
وتواترت الأيام والسنوات، وأنا أزداد تقديرا وإعجابا بمصطفى العلوي، الذي ظلت زاويته المتألقة “الحقيقة الضائعة”، منارة إعلامية تفيد ملايين المتعطشين لمعرفة خبايا العصور والدهور والقصور، كما أخبار مختلف الشخصيات التي طبعت حياة مجتمعات الأمس واليوم، وكنت كثيرا ما ألتقيه في بيته، فأجده جالسا في حديقته التي كان يحلو له اختيار أفكار مواضيعه وسط طبيعتها المخضرة مثل قريحته، وكان الكتاب لا يفارق يديه لأنه كان قارئا نهما لمختلف أجناس الكتابات، فكنت أتبادل معه أطراف أحاديث مختلفة، فكنت ألاحظ حبه الشديد للتأليف وعشقه اللامحدود للمؤلفات التي اختزل فيها عصارة تجاربه الحياتية ومشاهداته الشخصية، وذات يوم سألته: “لقد عاصرت ثلاثة ملوك مما ألهمك لتأليف مؤلفك” فقاطعني وهو ينظر للبعيد وقال لي بالحرف: ((لقد أصدرت في سنة 2011 مؤلفي: مذكرات صحافي وثلاثة ملوك، ومهما حاولت أن أقنع نفسي بأن ما كتبته كان كل شيء، فإنني سأظل أشعر بأن ما عشته وما شاهدته يضاهي عصورا وعصورا عشتها معاينا تطور المغرب من مرحلة إلى مرحلة حتى وصل اليوم إلى تنزيل مفهوم الديمقراطية الحداثية)).
ورغم إصدار الراحل لعدة مؤلفات، فقد ظل مؤلفه الهام “مذكرات صحافي وثلاثة ملوك” يجذب آلاف القراء والقارئات، مما جعلهرحمه الله يصدره في طبعات أخرى بفضل الزخم الكبير من المعلومات المعاشة التي رصد فيها عصور ومنجزات الملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني قدس الله روحيهما، وأيضا قائد نهضة المغرب الحديث، جلالة الملك محمد السادس نصره الله.
وكان مصطفى العلوي يقول لي بأنه يعتبر نفسه القارئ الأول لجريدته، لأنه كان يحرص أشد الحرص على استمرارها على نفس النهج وبنفس الوتيرة المرتكزة على صحافة التنوير وإعلام التثقيف بكل ما يتطلب من قوة حضور وجرأة في بلورة الرأي والرأي الآخر.
وقبل ثلاثة أيام على رحيل مصطفى العلوي، اتصل بي المحامي الألمعي المعروف، الأستاذ إبراهيم الرشيدي، وأخبرني بأنه اتصل بمصطفى العلوي للاطمئنان عليه، فلاحظ نوعا من التعب في صوته، فبادرت على الفور للاتصال به وسألته عن أحواله الصحية، خاصة وأنه كان قد غادر المستشفى العسكري منذ بضعة أيام فقط، والذي كان يتردد عليه طيلة فترة مرضه، فقلت له: “أتمنى أن لا ترهقك مكالمتي في فترة نقاهتك، ولكني رغبت في الاطمئنان عليك”، فقال لي بالحرف وبصوت واهن جدا ومتقطع: “لست على ما يرام يا رمزي، ولكني أحمد الله على كل شيء، فلن يحدث لي ولا لغيري سوى ما قدره الله وهو أرحم الراحمين بنا جميعا”، وأؤكد لكم بأن دمعة حرّى كادت تنفلت من عيني بعد تلك المكالمة المؤثرة التي بدا فيها الأستاذ مصطفى العلوي وكأنه كان يستشعر موعده الكبير مع رب العالمين.
ولا بد لي هنا من التذكير بالدور الكبير الذي تضطلع به ومنذ مدة طويلة، الإعلامية الكبيرة التي تعمل في صمت بعيدا عن البهرجة والبحث عن الشهرة، الأستاذة ذات الكفاءة العالية، حكيمة خلقي، التي اضطلعت بمهمة مديرة تحرير لهذه الجريدة الكبيرة التي يقرؤها ملايين المحبين للصحافة الحرة النزيهة، فظلت الجريدة رغم مرض مصطفى العلوي تنشر أرقى وأفضل المواضيع، وتمنح القارئ أجود الدراسات والأبحاث الميدانية بفضل كفاءة الأستاذة حكيمة خلقي وحرصها حتى في فترات تعرضها لأي وعكة صحية، على الحفاظ على المستوى العالي لمحتويات “الأسبوع الصحفي”.
وبرحيل أستاذ أساتذة الصحافة وقيدوم الإعلام في المغرب، تطوى صفحة مشرقة وزاخرة بالعطاء والتميز في تاريخ الصحافة المغربية المعاصرة، ليلتحق رمز من رموز العصر الذهبي لصحافة القلم في المغرب، بركب الراحلين تاركا خلفه رصيدا هائلا من الكتابات والمقالات التي ستكون بدون شك، مراجع غنية لطلبة المعرفة بمختلف مشاربها والباحثين في أصول الإعلام والصحافة بأسسها القويمة.
رحم الله الأستاذ مصطفى العلوي.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى