شخصيات

الدكتور محمد الحبابي: الزهايمر السياسي أشد خطورة وإدريس لشكر يتاجر اليوم في الإرث النضالي للاتحاد

بقلم: عبد الرحيم التوراني

    لمحته يقف عند دكان يبيع الفواكه الجافة؛ “مول الحمص والكاوكاو واللوز المقلي”، ناوله البائع ما طلب منه، دسه في جيب سترته الرمادية اللون. أعاد بتثاقل حافظة النقود إلى مكانها في الجيب الثاني، وظل واقفا في مكانه بضعة دقائق قبل أن يتحرك. خطر لي أن الرجل ينتظر من سيقله بسيارة. وجاء الظن خاطئا.

أجال ببصره في ما حوله من جلبة وزحمة. ثم أحنى رأسه ومشى. يعاند خطواته البطيئة. لقد أثقلت كاهله السنوات والأيام، على كل حال، لم يعد هو ذلك الشاب المتوثب أو الكهل النشيط الذي كان قبل عقود، هو اليوم شيخ هرم يطل على الأشياء والمحيط من شرفة التسعين.

 زاد الله في عمره وندعو له بموفور الصحة والعافية.

– المكان:  ساحة باب الأحد بالرباط.

– التاريخ: الأربعاء ثامن يناير 2014.

– الوقت: حوالي منتصف النهار وأربعين دقيقة.

– طقس نهار مشمس، يأتي بعد يوم “تسونامي” الصغير الذي ضرب الساحل الأطلسي في المغرب.

يحاول الشيخ العجوز أن يجتاز الشارع إلى الرصيف الآخر حيث السوق المركزي، السيارات لا تتوقف، سكة الترامواي والدراجات والراجلين الماشين فوق الشارع بعد أن فاضت جنبات الرصيف بالباعة “الْفَرَّاشة”، ازدحام منتصف النهار الذي نعرفه في مركز المدينة.

 يرغب الشيخ في اجتياز الطريق من وسط الشارع وليس من المعبر الخاص بالراجلين. انتظر حتى وقف بجانبه “قاطع طريق” آخر، أمسك بذراعه ليستعين به في الوصول إلى الرصيف المقابل.

يداه خلف ظهره المقوس، وكشكول رمادي ملفوف حول رقبته.

أنا ما زلت في مكاني أتابعه عن بعد، لم يعد لدي أدنى شك أنه هو.

سار بين السيارات المركونة في مربد السوق حتى وصل عند دكة بائع عطور تقليدية وبخور، دنوت لأرى ماذا سيفعل، لقد اشترى علبة عود ند من النوع المستورد من الصين، دردش قليلا مع البائع ومع زبون تعرف عليه. تطايرت إلى مسمعي كلمات: “لن أتوقف.. سأكتب وأتكلم.. لن يستطيعوا تكميم فمي(..) “.

ثم دخل الممر الصغير، ولج باب سوق الخضر والفواكه، هناك لحقت به، انتظرت حتى انتهى من شراء بعض الفاكهة، قليل من العنب والتفاح، ما يكفي لشخص واحد أو شخصين على الأكثر.

 لما التفت واستدار نحوي، سلمت عليه وسميته:

– “أهلا .. أستاذي الدكتور محمد الحبابي”.

 فوجئ بي، ثم استدرك مبتسما، عانقني طالبا مني أن أذكره باسمي قائلا:

– ” أنا أعرفك .. أعرفك.. الله يخليك يا أخي .. ذكرني باسمك”.

وكان جوابي سؤالا:

– “كيف حالك يا شيخ الاتحاد؟”.

لما سمع لفظة “الاتحاد” زادت أسارير وجهه انكماشا وغابت بسمته. وضع يده على كتفي وقال لي:

– “أتعرف يا أخي من أين أنا قادم الآن؟ أنا قادم من مقبرة الشهداء، كنا نترحم اليوم على أخينا الفقيد السي عبد الرحيم “بوعبيد”، إن ذكراه تحل اليوم “8 يناير”، وقد آلمني كثيرا أن لا أحد من القيادة الحالية للاتحاد حضر ..”.

ثم أردف متلعثما: “أرأيت مبلغ الوفاء؟؟ إن من حضروا أخذوا معهم غضبي، لقد أزبدت وأرغيت هناك في المقبرة، هل السي عبد الرحيم، رحمه الله، يستحق منهم فقط أن  يبيعوا ويشتروا في مبادئه ونضالاته”.
تدخل بائع الفواكه الشاب الذي كان يتابع حديثنا باهتمام، وقال:

– “فين هم الناس اليوم اللي بحال هاد الراجل؟”.

لم يسمع الشيخ كلام الشاب، وتابع:

-“زارتني قبل يومين الجريدة، “يقصد يومية الاتحاد الاشتراكي”، وطلبوا مني أن أتحدث إليهم عن علاقتي مع العزيز الراحل السي عبد الرحيم، وعن ذكريات سجن معتقل ميسور.  حوالي أربع ساعات ونحن نتكلم، لما نشروا أقوالي أخضعوها للمقص وبتروا منها الكثير(..) الكثير والمهم من هذا الكثير الذي لا يعجبهم(..).
اليوم تتوفر الظروف العالمية لينشر الحزب بين الناس والأجيال مبادءه الأصيلة ويعرف بمناضليه الكبار وبشهدائه وبنضالاته، لكن أين هم من هذا..؟”.

سألته:

– أتقصد القيادة الحالية للاتحاد برئاسة إدريس لشكر؟

رد علي:

– أنا أختلف مع لشكر، وموقفي واضح ومعروف لا أخفيه، إني لا أخشى في قول الحق لومة لائم، لكن ما أعلن عنه لشكر، مؤخرا، بشأن مساواة المرأة بالرجل، هو موقف يستوجب التنويه والإشادة، إن فهم الإسلام الحقيقي من خلال سور القرآن الكريم تؤكد على مساواة الرجل والمرأة، إن الله يقول في كتابه العزيز: “قَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ..”، ولم يميز أهو رجل أم امرأة”.

لما استأذنته في التقاط صورة تذكارية معه رحب من دون تردد، وطلب مني أن أصوره مع بائع الفواكه والخضر الذين اعتاد التسوق منهما، بعد ذلك مدني بعنوانه كي أزوره:

-“هي دعوة مفتوحة لك كي تزورني، زرني يا أخي(..)”.

شيخنا الدكتور محمد الحبابي رجل الاقتصاد والقيادي التاريخي المؤسس المعروف في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، والذي سبق له في ستينيات القرن الماضي أن شغل منصب مدير لديوان عبد الرحيم بوعبيد لما كان يتولى حقيبة الاقتصاد في حكومة عبد الله ابراهيم، الأستاذ الجامعي صاحب عدد من المؤلفات، لعل أشهرها كتاب “شبيبتنا في أفق الثمانينات” الذي صدر في نهاية الستينيات من القرن الماضي وحرر مقدمته الراحل الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد.

مع تقدمه في العمر، ومع التحولات التي عرفها حزب الاتحاد الاشتراكي، اشتهر محمد الحبابي بـ”خرجاته” المثيرة للجدل، سواء في الاجتماعات التنظيمية للحزب، أو بعد تقاعده واعتزاله  السياسي قبل ما يقرب من اثني عشر سنة، وذلك من خلال بعض الجرائد والمواقع الإلكترونية التي باتت تتهافت على نشر تصريحاته الإعلامية المتسم بعضها بالغرابة. مثل ما قاله بشأن قبر الزعيم المهدي بنبركة، أو مثل وصفته العجيبة لعلاج داء السرطان.

يتهمه خصومه من إخوانه الألداء بالخرف وبالزهايمر ويسخرون من كلامه، فلا  يتردد هو في إجاباتهم بأن “أخطر من كل زهايمر هو العلة التي تصيب المناضلين فينسون مبادءهم وتضحيات الشهداء ويتنكرون لنضالات من سبقوهم(..)”.

قلت للرجل:

– إذا سمحت لي يا أستاذنا الكبير أرى أنه عليك أن تهتم بصحتك وبنفسك بدل أن تشغل نفسك بما يزيدك قلقا ويتعبك(..).

نظر إلي مليا، ثم قال بصوت متحسرا:

“يحز في نفسي أن أرى تراث الحزب يباع في المزادات الوصولية”.

هكذا ختم كلامه معي ومضى. يداه خلف ظهره، لكن تاريخه وما عاشه من معارك نضالية ومواقف مشرفة لا تزال ماثلة أمام عينيه يفتخر بها ويرويها. كأنه يلهج مع بابلو نيرودا: “أعترف أني عشت”، ويردد مع الآخر غابرييل غارسيا ماركيز : “عشتها لأرويها”.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى