المنبر الحر

المنبر الحر | عندما أضاع الفن البوصلة

بقلم: عثمان محمود

    شيء طبيعي أن يعايش الفن العصر الذي يمثله، إذ كان الفنان، وما يزال، ابن بيئته، فهو يعكسها في أعماله الإبداعية على اختلاف أجناسها وأشكالها، لكن الشيء الغير مألوف، هو أن ينبطح الفن للواقع ويخضع له الخضوع المذل الذي يفقده رسالته المثلى كما هو حاله المزري في عصرنا هذا.

ففي الوقت الذي كان فيه الفنان في أزمان سابقة يشكل الأذواق، ويهذبها، ها نحن نراه اليوم يرضي السائد من الأذواق حتى ولو كانت سقيمة عليلة، وحجة الفنان في ذلك حاضرة، ورده جاهز: الجمهور يعجبه هذا ويفضله على غيره، ولا بأس من تضمين العمل الإبداعي ما يحظى بإعجاب المتلقي حتى يتأتى له الإقبال على ما يُنتَج على الدوام، والأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تعد أو تحصى، إن على مستوى الفن الموسيقي، أو السينمائي، أو المسرحي، أو التشكيلي..

فإذا كان الفنان على طول عمر الفن الضارب في أعماق التاريخ، مهذبا للأخلاق، وراعيا أمينا للقيم السامية، ومنتصرا للخير، وناصرا للحق، باعتبار ذلك كله هو إكسير الحياة المستمرة لأعماله الإبداعية، فإننا اليوم نرى الكثير من الفنانين متمردين على القيم التي تعارفت عليها الأمم وتشبعت بها الأجيال المتعاقبة، وتكفي هنا الإشارة إلى طابع العنف والبطش والقسوة والتحدي داخل الأفلام السينمائية كما لو أن ذلك هو الذي يخول لها الدخول إلى القاعات السينمائية، والحضور المطمئن في الملتقيات والمهرجانات العالمية!

وإذا كان العديد من الفنانين قد عاشوا في الماضي على الكفاف، وفي ضنك العيش، ولم يُعلن عن شهرتهم وعبقريتهم بشكل رسمي إلا بعد مرور سنوات على رحيلهم إلى دار البقاء، فقد أصبحنا نرى الكثير ممن يحسبون ظلما على الفن، قد دخلوا عالم المال والثراء الفاحش من أوسع الأبواب، حتى ولو كان ذلك على حساب الإبداع الرصين، ولينظر المرء إلى هذا التهافت على المنصات الرقمية وما يطرح عليها من أعمال يعدها أصحابها أعمالا فنية، والفن منها براء، لأن همهم الأوحد يبقى هو نسبة المشاهدة المسجلة وما تعقبها من مداخيل مالية، وبذلك يطول عمر الإسفاف في عالم الفن.

وإذا كانت الأعمال الفنية العابرة للأزمان قد صمدت بفعل المقومات الإبداعية المنسجمة داخلها بشكل دقيق، فإن الكثير مما ينتج اليوم، يكاد يحمل مواصفات البضائع والمنتوجات ذات الاستعمال المحدود الذي لا يتجاوز المرة الواحدة قبل التخلص منه في أسرع وقت، فكم من أغنية تجد نفسها بين عشية وضحاها ملء الأسماع والأبصار، ثم لا تمضي إلا فترة وجيزة حتى تنطفئ جذوتها، ويخبو وهجها وكأنها لم تكن، وقل ذلك عن الكثير من المسلسلات التلفزيونية والأشرطة السينمائية.

وإذا كان عدد الفنانين على مر العصور قلة، ها هم اليوم في عصر الوفرة في كل شيء، قد أصبحوا يمثلون كثرة مشهودة، وليتابع المرء على سبيل المثال لا الحصر، هؤلاء المحسوبين على الفن الموسيقي، وليحاول أن يحصر الذين ينتسبون إلى هذا النوع من الفن أو ذاك، وليتابع الإصدارات اليومية، وحضورها المكثف على الشبكة العنكبوتية، ومنها إلى الهواتف الذكية، وليُقوِّم التقويم البسيط لما يعرضه هذا العدد الهائل ممن ساروا على هذا الدرب الغنائي الضيق، وقس على هذا عالم التمثيل، على الخصوص لدى أولئك الذين يعرضون الحلقة في نفس اليوم الذي تُشَخَّص وتُجَسَّد لقطاتها.

فليُعد الفنان المعاصر إذن، الاعتبار لرسالة الفن النبيلة، وليكن همه الأول هو تشكيل الأذواق الرفيعة، ورعاية القيم النبيلة، والانتقاد البناء لعيوب المجتمع، وتصوير نقائصه بغية إصلاحها لا الترويج المقصود لها، والنأي التام عن التسرع والاستعجال الذي يحرم الأعمال الإبداعية من ميزة الإتقان التي بدونها لا حديث عن الصمود في وجه الزمان وتقلباته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى