الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | درس تطوان.. ماركس والحسن الأول

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 15"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    لقد استخلص الحسن الأول من هزيمة أبيه في حرب تطوان، عدة دروس أهمها:

– أولا: أنه على الجيش المغربي أن يخرج من الأسلوب المعروف عنه في الحرب، والذي وصفه ابن خلدون بقوله: ((أما الزحف، فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم، وأما الكر، فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب، وقتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر)).

فما أعظم ابن خلدون.. لقد أكدت ظروف حرب 1980 أنه لو تنازل المغاربة عن سياسة الكر والفر واستعملوا فلسفة العجم المنطلقة من الزحف، لما عرفت حرب المغرب ضد المرتزقة هاته المصاعب التي توسع المواطنون المغاربة في وصفها.. أليست سياسة الزحف التي استعملتها إسرائيل سنة 1967 باحتلال المناطق الحساسة في المنطقة العربية هي التي ضمنت لإسرائيل لمدة ثلاثة عشر سنة تفوقا كبيرا وفرضا للإرادة وتمهيدا لاستسلام القوة الكبرى في المنطقة؟

– ثانيا: أن الجندي الإسباني الذي دخل تطوان، كان مجهزا بأكله ومائه ومتاعه وسلاحه، وهذا الانضباط والامتثال الذي يتحلى به الجندي الإسباني، هو سر انتصاره على الجيش المغربي.

– ثالثا: التجديد في السلاح هو أساس انتصار الجيش، لقد فاجأ الجيش الإسباني قوات المغرب بسلاح جديد اسمه “الشريشما” ذات الطلقات السريعة، والتي كان لوقع المفاجأة به أثر كبير على انهزامية الجيش المغربي.

– رابعا: أن الجيوش الإسبانية هاجمت تطوان بجيش نظامي لا يمن أفراده على دولتهم بشيء، وجيش المغرب أغلبه من المتطوعين الذين يرفضون الأوامر متى شاؤوا ويستبسلون متى شاؤوا.

– خامسا: المعلومات السياسية أساسية في كل حرب، كذلك عدم الاستهانة بالعدو، وعدم الاكتفاء بسماع تفسيرات المستشارين، ففي الوقت الذي كان فيه البطل “بوريالة اليموري” يصول ويجول في صفوف الجيش الإسباني وكأنه صورة من خالد بن الوليد، كان الجيش المغربي يبكي أمام سكان تطوان متأسفا على الحالة، بينما كان السلطان محمد الرابع في آخر ساعة يشحن الصناديق بالأموال ويحملها على سروج البغال، لينقلها لجيش منهار، وفي نفس الوقت يطلب منه أن ينقل له الأخبار الحقيقية عن الوضع وعن نفسية المقاتلين.

وعلى أنقاض حرب تطوان بنى الحسن الأول جيشه الجديد وبعقلية جديدة وفلسفة حديثة.

ماركس والمغرب

    كانت حرب تطوان منعرجا هاما في تاريخ المغرب، ومن أثبت وأصح ما كتب عن تاريخ هذه الحرب، مقال نشر سنة 1983 في جريدة “أنوال” للكاتب عبد الله ساعف، نشر بعنوان: “ماركس والمغرب”، أعطى الكثير عن الجوانب السياسية لحرب تطوان، وهذا نصه بالكامل: ((في هذه الذكرى المائوية، وفي الوقت الذي يبدو فيه وكأن الثورة الاجتماعية قد فقدت لمدى بعيد وجهها كانفجار في المركز، وأخذت طابع مجموعة متوالية من القطائع للحلقات الضعيفة الحاصلة في بلدان المحيط، فإن الوقائع الراهنة والكبيرة للماركسية في آسيا كما في إفريقيا، تدفعنا إلى الخوض في زحام من الأسئلة التي تتطلب أجوبة عاجلة: حول دور الفلاحين الذين يشكلون أغلبية السكان؛ حول دور الطبقة العاملة الضعيفة عدديا؛ حول تطلعات البورجوازيات الجديدة قيد التكون في بلدان المحيط؛ وحول مسألة الاندماج الوطني في الترسيمة الثورية…

إن حدثا من هذا القبيل، لا يمكن تخليده أو إحياؤه إلا بالقيام بإعادة نظر عميقة وبإعادة تقييم للتراكمات النظرية والممارسة حول الإشكالية الأساسية لبلدان العالم الثالث: إشكالية الثورة الاجتماعية، بارتباط مع قضية التحرر الوطني وبناء الاشتراكية في البلدان المتأخرة)).

ومن هنا، فإن استحضار النصوص التي كرسها كل من ماركس وإنجلز للمغرب في هذه المناسبة، وهي نصوص بسيطة جدا بالنظر لما هو أساسي في إنتاج مؤسسي الماركسية، يمثل عملا أقل من دلالة وحجم الحدث على ما يبدو، فحضور المغرب في هذه النصوص ليس مبررا كافيا في حد ذاته لاستحضارها، ثم إن هذه النصوص أبعد من أن يكون لها نفس الغنى المفهومي المتوفر في النصوص التي أملتها على ماركس وإنجلز تطورات الوضع في الهند والصين والجزائر… وبالرغم من ذلك، فمن الصحيح أن الفترة التي حظي فيها المغرب باهتمام ماركس وإنجلز (إنجلز على وجه الخصوص)، قد كانت فترة مهمة.. ألا يقدم المؤرخون الحرب الإسبانية-المغربية 1859-1860 التي شكلت موضوع نصوص ماركس وإنجلز، باعتبارها الفترة التي اندفع فيها المغرب نهائيا في الفلك الأوروبي الرأسمالي؟

ومن الواضح أن المجازفة النظرية دقيقة جدا، وأننا نرى بصعوبة منذ الوهلة الأولى، كيف يمكن لرموز الأفكار العتيقة التي كونها ماركس وإنجلز عن المغرب، بمناسبة وقوع حدث عالمي، أن تساهم في معرفة جيدة من جهتنا بالمجتمع المغربي، والتوقف عند هذه النصوص لا يبدو في كل الأحوال بدون فائدة، فالقيام بقراءتها يساهم بدون شك في التأريخ للماركسية، وفي العمق للماركسولوجيا (علم الماركسية) الأكثر أكاديمية.

إن هذه القراءة لا تمثل مهمة حاسمة ربما، ومع ذلك، فإنها تبقى مهمة ضرورية، وذلك لأسباب متعددة: إن تشكل معطى ذا أهمية في كل محصلة، يمكن أن نضعها فيما يتعلق بمواقف وسلوك اليسار الأوروبي تجاه المشاكل المغربية، ثم إن التطبيق الخلاق للفكر الماركسي في واقعنا يتطلب، من جهة أخرى، أبحاثا متعددة حول الأصول والصور التي استعملها هذا الفكر بالأمس لتحديدنا، بل وأساسا نظرا للنقاش الذي أثيرفي بعض الأبحاث حول الاستشراق، وبشكل خاص كتاب إدوارد سعيد(…)، هذا النقاش الذي لم يتوقف عن إثارة ردود الأفعال والتوضيحات والمراجعات، والذي يبين بأن المقالات التي كتبها ماركس وإنجلز، من قبيل تلك التي كرست للمغرب، القاصرة من حيث الظاهرة، تقع في قلب مشاكل نظرية ذات وزن كبير.

إن كتابات ماركس وإنجلز حول المغرب قليلة، فقد كتب إنجلز في منتصف دجنبر 1859 مقالا بعنوان: “تطور الحرب المغربية” نشر في 19 يناير 1860، وكتب في منتصف يناير مقالا ثانيا بعنوان: “الحرب المغربية” نشر في 8 فبراير 1860، وكتب مقالا ثالثا في بداية فبراير بعنوان: “الحرب المغربية” نشر في 17 مارس 1860، وقد نشرت هذه المقالات كلها كافتتاحيات لجريدة “نيويورك ديلي تربيون”.

لقد كان اهتمام ماركس وإنجلز بالحدث راجعا إلى الروتين الصحفي تقريبا، إذ شكل حدثا بارزا ضمن الأحداث العالمية في نهاية سنة 1859 يقول: ((أتمنى أن يصدر كل مقال حول المغرب يوم الجمعة))، وقد كان ماركس وإنجلز يثيران انتباه بعضهما البعض لحدث ما تبدو أهمية تغطيته، وكانا يتقاسمان الأدوار، وفي الواقع، فقد كتب إنجلز عدة مقالات بالنيابة عن ماركس، ومن بين 486 مقالا نشرت على امتداد عشر سنوات، دبج إنجلز أو ماركس وإنجلز مشتركين، الربع على الأقل، أما الباقية، فقد دبجها ماركس لوحده.

وقد كانت المقالات التي كتبت عن المغرب من إنتاج إنجلز، لكن بطلب من ماركس الذي ألح على إنجلز في رسالته إليه يوم 17 نونبر 1859، أن يكتب حول المغرب بقوله:((عزيزي إنجلز، إذا لم يتوفر لديك صدفة أي شيء عن المغرب، فأمامك الوقت إلى يوم السبت.. من اللازم التعرض للقضية المغربية..)).

وبعد أن كتب إنجلز مقاله الأول في منتصف دجنبر، كتب رسالة جوابية إلى ماركس في 19 دجنبر 1859، جاء فيها:((يستحيل علي أن أحضر اليوم مقالا، ويضاف إلى ذلك أنه إذا انتظرت إلى بعد غد أو يوم الخميس، فسأستطيع أن أهيئه ربما علما بأنه ينتظر من يوم لآخر، أن يندفع الهجوم ضد تطوان انطلاقا من سبتة)).

وقد كانت مراسلات إنجلز تظهر باستمرار اصطدامه بمشكل مصادر للأخبار والمعلومات، وهكذا تظهر لنا رسالته المؤرخة بـ29 يناير 1860، بأن المصدر الأساسي الذي يستقي منه آخر التطورات هو مجلة “التايمز” ((غدا يحل موعد المنبر (كان ماركس يرسل مقالاته إلى جريدة “نيويورك ديلي تربيون” يومي الثلاثاء والجمعة)، وأجدني آسفا مرة أخرى لعدم توفر مادة للمقال، والنقط القليلة حول المغرب الواردة في مراسلة “تايمز”، لا تذهب إلى حد معركة الرأس الأسود (كابونيكرو))).

وبالنسبة للمهم كما بالنسبة للأغلبية من كتاباتهما العسكرية، فإن مقالات إنجلز كانت تتغذى من المعلومات التي كان بالإمكان وصولها في ذلك العهد، والتي كانت تذاع بشكل واسع من قبل الصحافة الأوروبية الكبيرة، وقد كانت تظهر فيها أثار العناصر المنقولة من طرف المبعوثين الخاصين لهذه الصحافة إلى ساحة المعركة، بل وحتى توجيه نشرات الجيش الإسباني في بعض الأحيان بالرغم من أن إنجلز يتلقى انتصارية هذه النشرات بكثير من الشك والسخرية.

وفي الواقع، فإن مسألة مصادر معلومات ماركس وإنجلز تطرح علينا مشكلة أكثر أهمية أيضا، وتمس الطبيعة النظرية والمصداقية العلمية لهذا المستوى من النصوص.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى