الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المصير الأخير.. الحقيقة والتاريخ “الحلقة 52”

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

 

بقلم: مصطفى العلوي

    الأمور بعواقبها، والزمن الذي لا يرحم، يتابع الأحداث والأشخاص عبر حبات الرمل التي تتسرب إلى كل التركيبات مهما كانت دقتها، لذلك كانت مهمة الفصول السابقة على طولها ضرورية التدقيق، بينما كان تكرار سرد بعض الأحداث واجبا للتذكير.

كان واجبا إذن، أن يستعرض القارئ والقارئة ظروف المغرب الحقيقية خلال المراحل التي اختفى فيها المهدي بنبركة، وواقع العالم بقواته العلنية والسرية، وتركيبة الأجهزة السرية التي كانت تعمل لفائدة المصالح التي تتناقض وبروز زعامات سياسية في العالم الثالث، وكان واجبا إذن، التعريف بنوعية الرجال الذين كانت لهم اليد الطولى في تنظيم عملية اختطاف المهدي بنبركة، وبالتالي، فقد كان لزاما الإحاطة بالخلفيات التي أخفيت عن الأنظار خلال أيام الاختطاف، وأخذت تظهر – مؤخرا – وأثناء جلسات المحاكمتين، ولم يكن سرد وقائع المحاكمتين سردا منقولا من محاضر الجلسات كما كتبها المكلفون بالضبط، وكما حفظتها أرشيفات المحكمة الفرنسية بمنطقة “لاسين”، وإنما كان السرد صحفيا مرتكزا على حقائق ظهرت أثناء المحاكمتين، فمنها ما سمح له بالإدراج، ومنها ما ارتأت مصلحة الدولة الفرنسية الإبقاء عليه في طي أسرار الدولة، ولكن الأحداث السريعة السرد، كما وردت في تلخيص المحاكمتين، تعتبر بعيدة عن الخيال كل البعد، إذ بإمكان أي باحث أو راغب في التعمق، أن يرجع إلى وثائق المحكمة الفرنسية، ليجد أني لم أغفل إلا التافه من المناقشات، موليا كل اهتمامي للجلسات التي كانت مصيرية في كشف الحقائق، والتعريف بالمسؤولين الحقيقيين، خصوصا أولئك الذين لم يمثلوا أمام المحكمة، أو مثلوا بصفتهم شهودا فقط.

ولكن.. لا في مرحلة التحقيق، ولا مرحلة البحث، ولا في جلسات المحاكمة الأولى ولا جلسات المحاكمة الثانية، ظهرت الحقيقة وانجلى الأمر الواقع، وبقي مصير المهدي بنبركة مجهولا، بينما لم يصدر حكم في حق قاتله، ولا حصل محامو الطرف المدني على ما يشفي تعطشهم لمعرفة القاتل الحقيقي، بل إن كلا من رئيس الشعبة السابعة للمخابرات لوروا فانفيل، وضابط الشرطة سوشون، ورئيس اللجنة الفرنسية للبحث عن المهدي بنبركة، دانييل كيران، ورهط آخر من الصحفيين والمحامين، ألفوا كتبا عدة على مدى سبعة عشر عاما منذ تاريخ المحاكمة، دون أن يصلوا إلى إظهار الحقيقة وتوجيه أصبع الاتهام نحو هدف معين.

وبذلك، يبقى للاجتهاد وحده، وللعقل المجرد عن كل الضغوط والعواطف، أن يستخلص الحيثيات الحقيقية انطلاقا من تحليل كالذي تضمنه هذا السرد، ليصدر الحكم الحقيقي بشأن المصير الحقيقي الذي لقيه المهدي بنبركة للحقيقة وللتاريخ.

وها هو الزمن قد نفذ حكمه العادل في حق عدد من الذين أسهموا في تنظيم عملية الاختطاف، فمات الكثير من المغاربة والفرنسيين دون أن يصدر من جهة ما من جهات العالم، اعتراف أو وثيقة تدين أو يعترف صاحبها بأنه أسهم في قتل المهدي بنبركة، ربما لأن أغلب الذين ماتوا – في ظروف مستعجلة – لم تتح لهم الفرصة لكتابة ما يوحيه وخز ضميرهم، فأغلبهم لا ضمير له، وها هم حلفاء المهدي وأصدقاؤه، وقد كانوا أيام المحاكمتين حاملين مشاعل الاتهامات، موجهين رماح الاتهام إلى جهة معينة، ها هم يعودون إلى وطنهم يلتهمهم غول الندم على ما فرط منهم من أحكام سريعة، وها هو الإجماع العام بين خبراء السياسة والقانون، في فرنسا وفي المغرب، وفي كل دول الدنيا، يحصل حول مصداقية الصيغة المقبولة للطريقة التي قتل بها المهدي بنبركة.

طريقة أشبه ما تكون كالطريق في ازدواجيتها، فمن جهة، ثبت للعالم أجمع تواطؤ المخابرات، سواء المغربية أو الفرنسية أو الأمريكية أو الإسرائيلية، في الإسهام أو إغماض العين على مشروع اختطاف المهدي بنبركة، متذرعين جميعا بالأمثولة العربية: “كم من حاجة قضيناها بتركها”، وقد تركت أجهزة الحكم الفرنسي لمجموعة من الإرهابيين المعروفين في فرنسا، الوقت الكافي لقضاء حاجة في نفس اتجاه متناقض مع شخصية الجنرال دوغول كان له آنذاك، وفي أعقاب الاستقلال الذي حصلت عليه الجزائر، وقبلته فرنسا مرغمة، وفرضه الجنرال دوغول على مجموعة من القادة العسكريين والسياسيين، كادوا أن يعلنوا عن انفصال دولتهم في الجزائر عن الدولة الفرنسية، وبعد أن فشلوا، عادوا لفرنسا مكشرين عن أنيابهم على كل العناصر الوطنية، مغربية كانت أو جزائرية، تونسية أو فلسطينية، وبذلك أدرج المهدي بنبركة في قائمة ضحايا الإرهاب الإمبريالي دون أن يكون اسمه على رأس القائمة أو في خاتمتها.

ومن جهة أخرى، وعبر ازدواجية الطريق التي لقي المهدي بنبركة مصرعه على رصيفها، هناك الدوامة الإرهابية التي ابتلعت شخصية المهدي بنبركة، والتي لا يمكن لأي منجرف فيها أن يخرج إلا محمولا على نعش.

ولا يمكن الانتباه إلى رصيف واحد في الطريق العام دون الاهتمام بالرصيف الثاني.. لقد توسعت فصول هذا الكتاب في تفسير وتحليل الاتجاه الأول في الطريق الذي ضاع فيه المهدي بنبركة، ولا بد من الاعتماد على كل الجزئيات المسرودة مقدما، للتأمل في تلك الدوامة التي يغلب الظن إن لم يكن اليقين، أنها كانت مصيرية بالنسبة للسياسي المغربي الذي لقي حتفه عليها.

ولنتمعن في الحركة السريعة التي ألقت أجهزة المخابرات العالمية بالمهدي بنبركة في أتونها، ولنراعي التدقيق في كل جزئية جزئية، علّنا نضع الأصبع على الحلقة المفقودة في سر مضى على دفنه ثمانية عشر عاما.

الاستنتاجات

    نذكر أن “أنطوان لوبيز”، هو العميل الفرنسي للمخابرات المقنع بصفة مدير مصلحة الاتصالات بمطار “أورلي”، والمشتغل بأمانة وإخلاص مع جهاز المخابرات الفرنسية، واضعا خدماته رهن إشارة صديقه أوفقير دون أن يغفل تقديم تقارير مفصلة عن كل ما يطلبه منه أوفقير لرئيسه لوروا فانفيل، الذي يرفع بدوره تلك التقارير إلى المدير العام لجهاز المخابرات.

ونذكر أن المحكمة أصدرت في حق “لوبيز”، بعد تسعة أشهر من المحاكمات، وبعد أن عصره محامو الطرف المدني عصر البرتقال، حكما بثماني سنوات، علق عليه هو نفسه بقوله: “إني أدفع ثمن أخطاء جهاز المخابرات”.

“لوبيز”، هذا الثعلب الماكر، خريج مدرسة الإرهاب والجاسوسية، كيف أفلت المهدي بنبركة من بين يديه؟ وكيف لعبت به الظروف ورمته في متاهات جعلته يدخل السجن ليدفع ثمن جريمة لا يعرف كنهها، ولا منتهاها؟

“لوبيز” عمليا.. انتهى بعد الحكم عليه، ولا يوجد جهاز للمخابرات يمكنه أن يعتمد من جديد على عنصر احترق إعلاميا وقضائيا، لذلك، كانت سيرته في السجن، حسب التقارير، حسنة ومثالية، وصدر في حقه عفو أمتعه بالسراح بعد قضاء ست سنوات في السجن، وخرج في ماي 1972، ليتيه في شوارع باريس دون أن يعرفه أحد، وقد تنكر هذه المرة بصفة نهائية.. فقد أنبت شعرا جديدا في صلعته، وأطلق شنبات طويلة، وفعلا تغيرت ملامحه، وأصبح غريبا عن الناس باستثناء الصحافيين الذين يجرون وراء معرفة الحقيقة، وفعلا توجه إليه صحفي من جريدة “فرانس سوار”، جان جوناس، وترجاه أن يقول الحقيقة: “لقد دفعت الثمن.. فما هي الحقيقة؟”، ويجيب “لوبيز”: ((لقد توصلت بعرض من طرف شركة سينمائية لإنتاج فيلم عن الصيغة الحقيقية للقضية، ولكن الحقيقة ستظهر، وسيكشف كل عنصر عن دوره فيها، أما أنا فأعرفها، لأني كنت طرفا فيها))، ويعاجله الصحفي: “إذن، قل لنا ما هي الحقيقة؟” ويجيب لوبيز: ((الحقيقة؟ لقد قلتها، لذلك غضبوا مني، ولذلك دفعت الثمن نيابة عن الآخرين)) ويتفاءل الصحفي فيقول له: “هيا أنقلك في سيارتي لنقوم بجولة في الضواحي” وهو يقصد بذلك نقله إلى “أورموي”، بيته الذي قيل أن بنبركة قتل فيه، أو “فونتوني لوفيكونت” حيث نقل “لوبيز” بنبركة، ولكن “لوبيز” يعاجله وكأنه يقول: لا تتعب نفسك: ((إن بنبركة ربما اختطفه فيكون من أيدي مختطفيه ليطالب مقابله بنصف مليار سنتيم، وربما لم يحصل على ما أراد، فبنبركة إذن، موجود في محل ما، مقيد في محل خزنه فيه فيكون))، ويسأله الصحفي: “وإذا كان بنبركة لا يزال حيا؟”.. فيتعجب “لوبيز”: ((حي.. أين هو؟ لما لم يظهر؟ لقد شاهدته لآخر مرة في فونتوني لوفيكونت – بيت بوشسيش- وكان جالسا في صدر المائدة، محل الشرف، يتناول غذاءه، وكانت الساعة الثالثة بعد ظهر يوم 29 أكتوبر 1965، وكان يرتدي بدلة رمادية، مبتسما، وكان في القاعة معه بوشسيش وفيكون، وكان يظهر لي مطمئنا)).

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى