الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المؤامرة الفرنسية على سلطان المغرب

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 42"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

بقلم: مصطفى العلوي

    إن فرصة إجماع العلماء على شخص أحد أبناء الحسن الأول، التي حرمهم منها باحماد، كانت بكل بساطة كالقنبلة الزمنية التي فجرها باحماد في وسط المغرب الحر المستقل القوي، وإضاعة تلك الفرصة أدخلت المغرب في مرحلة من الفوضى والتمردات التي تزعمها الأبناء الآخرون للحسن الأول، أمثال مولاي بلغيث حاكم الشاوية، كانت أكبر هدية قدمها باحماد للاستعمار الفرنسي والإسباني.

وعلى فرض أن باحماد لم يكن محرك المؤامرة ومدبرها، فإن اعتقال رجلين أساسيين في حكم الحسن الأول وساعدين من أمتن سواعده، هما ابنه مولاي امحمد، ووزيره في الخارجية المفضل غرنيط، دون أن يصدر منهما أي رد فعل بعد وفاة الحسن الأول، هو برهان قاطع على أن المخطط الذي نفذه باحماد كان مرسوما بجزئياته في مكاتب القيادات الفرنسية في باريس ووهران وطنجة، لأن المغرب بين ليلة وأخرى أصبح كومة من التبن الملتهب.

وهنا يجب إنصاف من هو أحق بالإنصاف من سواه، وهو المولى عبد العزيز، هذا الشاب الذي كان عمره أربعة عشر سنة، والذي ذهب ضحية طموح وأطماع باحماد الذي كان يتوق لأن يصبح سيد الدولة وصاحب الأمر والنهي فيها مستمدا نفوذه من قصور السلطان وصغر سنه.

أما المولى عبد العزيز، فلم يستشر ولم يؤخذ له رأي، ولم تكن له مسؤولية، ولم يكن يعرف من أين؟ وإنما كان – ولا شك – يردد وهو ملك على مغرب محترق: “هذا ما جنوه علي وما جنيت على أحد”.

ولقد أثبتت الأيام فيما بعد، أن الأميرة رقية زوجة الحسن الأول، وهي شركسية الأصل، ذات جمال فتان، لم تكن لها نفس أهداف باحماد التي تخدم الاستعمار.. لقد كان جمالها ودهاؤها وثقافتها العربية والفرنسية يساعدانها على فهم الأوضاع وتقدير المهمة الشريفة للحسن الأول، وكأم، ترى أن المُلك سيفلت من ابنها وعدد إخوته ثمانية، فإنها سارت وراء باحماد ومخططه، أو ربما الإغضاء.. في انتظار تطور الأحداث.

وبعد “موت” الحسن الأول، اكتشفت أن باحماد أصبح هو الملك الحقيقي.. لقد سمى نفسه وزيرا أول، وأسند الحجابة لأخيه إدريس، ثم أسند وزارة الحربية لأخيه سعيد، وأصبح وصيا على الملك الذي عمره أربعة عشر سنة، وأصبح يلعب أوراق المصالح الأجنبية.

وصبرت للا رقية ست سنوات، كانت كافية لأن تفهم خلالها المرامي الحقيقية لمؤامرة باحماد.. وأصبحت تلاحظ أن ولدها عبد العزيز يتحمل مسؤوليات كبرى في تفتيت المغرب، وأن المغرب سائر في طريق الاستسلام للأجنبي، وأن الأمر أصبح يحتاج إلى تدارك الموقف، ووضع حد لنشاط باحماد الذي أصبح في نظرها، وبما لا يدع مجالا للشك، موضع اتهام.

وفي إحدى المآدب المقامة في شهر ماي 1900، كان باحماد وأخوه سعيد وزير الحربية وأخوه إدريس الحاجب، من المدعوين، وقد تناولوا جميعا “طعاما قبيحا” ماتوا بثلاثتهم بعد تناوله الواحد بعد الآخر مسمومين.

وبعد؛

فقد مات الحسن الأول، وخلف رسالته..

خلف جيلا كاملا متناسقا مؤمنا مجاهدا، وخلف أثرا لم ينقطع منذ يوم موته سنة 1894 إلى اليوم.

لقد لقن الزمن لأبناء المغرب دروسا جليلة في أعقاب موت الحسن الأول، وجرع أمر العبر لأولئك الذين لم يستمروا في طريقه.

بينما استمر الشعب المغربي في كفاحه ضد الاحتلال، واستمر الاحتلال في حربه ضد المغرب، وحاول باحماد كثيرا أن يتدارك الموقف، ولكن هيهات، ذلك أن الاستعمار الفرنسي والإسباني وهو ينفذ برامجه التوسعية، لقي من الشعب المغربي مقاومة لم يعرفها المستعمرون في أي بقعة من بقاع الدنيا.

وكانت روح الحسن الأول مهيمنة على مناطق المغرب كلها، في توات وتدكلت والساورة وتمبكتو وأدرار والساقية الحمراء ووادي الذهب، وفي عبدة ودكالة والشاوية والريف والحوز، وفي كل قلب وفي كل نفس.

وكما سكت صاحب “الاستقصاء” وكسر قلمه بعد موت الحسن الأول، سكت المؤرخون جميعا عما عرفه المغرب من أحداث بعد الحسن الأول، فقد مات السبع ولم يبق هناك مبرر للاهتمام بالغابة، بينما الحقيقة هي أن فلسفة الحسن الأول عرفت بعد موته أمجادها، وتعقبت روحه غزاة وطنه بالآلاف فأصلتهم نيرانا حامية عبر سنوات طويلة، وهي مراحل ما كان من حقنا أن نجعلها تذوب تحت إشعاعات الحقيقة المرة، حقيقة الفوضى التي عرفها المغرب بعد موت الحسن الأول، وفضل بعضهم السكوت عنها رعيا واحتراما لأرواح مسؤولين كانوا ضحية الأحداث.

بينما الحقيقة الكبرى، هي أن أبناء الحسن الأول، عبد العزيز وعبد الحفيظ والمولى يوسف، إنما تحملوا مسؤوليات الحكم في خضم جارف كان الحسن الأول سده المنيع.. فقد كان أباهم وأب المغاربة، وكان يشفق عليهم من تدفق التيار، وكان يعرف كيف يوقف ذلك التيار، ولقد انفجرت الصمامات ساعة موته، وكان دهاء الاستعمار كبيرا، وعندما تحمل المولى عبد العزيز مسؤوليات الملك صدفة، كان التيار قد جرف المغرب.

ولقد جرف التاريخ في خضم الأمواج العاتية، مواقف لمولاي عبد العزيز ومولاي حفيظ ومولاي يوسف، لا يمكن بعد تفحصها أو التعمق في خلفياتها إلا أن تجعلهم في مستوى الظروف والمسؤوليات.

وكان الشعب المغربي – كعادته – فوق المؤامرات وفوق المناورات، ولنسأل كتب التاريخ، ومذكرات الضباط الفرنسيين، والإسبان، والملفات السرية للحكومات الفرنسية، والإسبانية، لنأخذ فكرة متكاملة عن نضال الشعب المغربي وجهاده ضد الغزو الأجنبي.

وأن ينسى المرء أو يتناسى، فإنه لن ينسى الموقف التاريخي لمولاي عبد الحفيظ وهو يركب سفينة صغيرة في وادي أبي رقراق مارا أمام قصبة الأوداية، وهو في طريقه إلى المنفى حينما أخذ المظلة التي كان يحملها أحد مرافقيه وضربها على ركبته وكسرها، كما نفي بعده الملك محمد الخامس، ومعه أسرته.

فقد كانت المؤامرة الاستعمارية أكبر مما يتصوره مولاي حفيظ، وغيره، ولكن المتآمرين مائة سنة بعد الحسن الأول، حينما يراجعون حساباتهم، ويقارنون بين المجد الزائل الذي حلموا به، وبين الثمن الباهظ الذي كلفه إياهم ذلك الحلم، يعضون على أيدي الندم ويبكون دموعا من الدم.

إنه إجلالا لأرواح شهدائنا الذين قدموا أروع الأمثلة في التضحية والفداء، وبللوا رمال الصحاري وسقوا صخور الجبال بدمائهم، لابد أن نفتح ملف الثورة الوطنية ضد الاحتلال الأجنبي، ونبلغ الرسالة الشريفة التي تركها آباؤنا وأجدادنا أمانة في أعناقنا.

 

يتبع

النشرة الإخبارية

اشترك الآن للتوصل كل مساء بأهم مقالات اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى