الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | بين أجهزة أوفقير والمخابرات الأمريكية.. “الحلقة 40”

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    لو أسلمنا البحث إلى العقل والاتزان، واستشرنا خبيرا سياسيا فرنسيا متزنا ومتعقلا اسمه “فرنسوا مورياك”، عاش قضية الاختطاف وأسهم في إرسال الأضواء عليها، وكتب الكثير عنها من خلال تجاربه ومحادثاته وما دار في الجلسات الخاصة بمحضره، وبعد افتتاح المحاكمة الأولى وبداية الحديث عن اليد الأمريكية في قضية بنبركة، كتب في مذكراته التي كانت تنشرها جريدة “الفيغارو ليتيرير” تحت عنوان دائم هو “بلوكنوط” الأفكار التالية: ((لقد حدثني صديق مغربي، يعرف خبايا الأمور، عن الصلة المتينة بين أوفقير ومصالح المخابرات الأمريكية، أما الواقع، فأنا أجهله، وإنما يبقى الحاصل هو أن هذه المصالح سجلت ضربة مزدوجة ضد العالم الثالث، من جهة بالتخلص من بنبركة، ومن جهة أخرى بتوجيه ضربة للجنرال دوغول، وإذا كانت الأجهزة الأمريكية بريئة من هذه القضية، فمعناه أن العفاريت هي التي قامت بها محلها)).

إنه إذا ذهب الكاتب الكبير، “فرانسوا مورياك”، بعيدا في مذكراته التي أصبحت قطعة من التاريخ، فإن كل ما نضفيه على احتمالاتنا من اعتدال تجاه المساهمة الأمريكية، المباشرة أو غير المباشرة، في قضية بنبركة، يبقى تافها أمام استنتاجات الكاتب الفرنسي.

هناك إذن، دخول المهدي بنبركة في دائرة الضرب الأمريكية، بإقدامه على تنظيم مؤتمر للقارات الثلاث في كوبا غير بعيد عن التراب الأمريكي، وفي وقت كانت فيه الحرب الباردة بين كوبا والولايات المتحدة على أشدها، في أعقاب تهديد أمريكا بضرب الصواريخ السوفياتية في كوبا سنة 1962، وإعلان المهدي بنبركة الحرب على الإمبريالية الأمريكية في وقت كانت فيه عمليات التصفية الجسدية شيئا مألوفا ومدبرا على أيدي عملاء المخابرات الأمريكية، وها هو المتحدث الرسمي باسم منظمة “سيا”، دال بيتيرسون، يصرح في غشت 1981 بأن ((رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أصدر أمرا سنة 1978، يمنع على منظمة المخابرات “سيا” المساهمة في تنفيذ أو تنظيم اغتيالات))، مما يؤكد أن هذه المهام كانت موكولة لتلك المنظمة قبل سنة 1978 وإلا لما أصدر الرئيس الأمريكي ذلك المنع.

وهناك إذن، الارتباط المكين بين أجهزة أوفقير وبين المخابرات الأمريكية، ومادام تنظيم أوفقير للعملية أصبح حقيقة ثابتة، مستهدفة المخطط الذي سبق الحديث عنه، فإن العادي والبادي يعرف أن أوفقير كان يتعامل اليد في اليد مع أجهزة المخابرات الأمريكية.

وهناك أيضا الارتباط الرسمي والعلني لضابط الشرطة “سوشون” مع أجهزة محاربة المخدرات الأمريكية “ناركوتيك بورو”، وهو الضابط الفرنسي الملحق رسميا بهذا الجهاز المرتبط إلزاميا بجهاز المخابرات الأمريكية، والذي أكد له المختطف “لوبيز” أثناء إقناعه بتنظيم العملية، أن اختطاف بنبركة يدخل في إطار محاربة المخدرات، وكان “سوشون” معروفا بجلسات العمل التي كان يجريها يوميا في المكتب الواقع في 58. ب. زقاق “لابويتي” للمكاتب التي تحمل شارة “ن. ب. د. د” الحروف المختصرة لتسمية “ناركوتيك بورو، أند دانجوروز دروكز”، وهو المكتب الملحق رسميا، وبعلم وزارة الخارجية الفرنسية، بمكاتب السفارة الأمريكية في باريس.

وهناك إذن، التواجد الأمريكي المثبت حسب كل الشهادات في مقهى “ليب”، لمراقبة العملية، ومهما كانت هوية “الماجور” الحاضر، فإن المهم هو الحضور الأمريكي.

وهناك إذن، سكوت الجنرال فيرنون والتيرز في كتابه “مهمات محتشمة” (ميسيون ديسكريت) عن الحديث إطلاقا عن قضية بنبركة، بينما يتطرق في نفس الكتاب إلى تواجده في باريس أثناء الحادث، واعترافه في كتابه هذا أنه ((عاش ظروفا ممتازة في باريس، وحالات مع أجهزة الأمن التي يعرفها حق المعرفة، وكان يعرف كيف يتصرف الفرنسيون، ولكنه كان لا يقول لهم شيئا))، وبالمناسبة، فإن كتابه صادر عن إحدى كبار دور النشر الفرنسية “بلون” سنة 1978، متضمن لجزئيات صغيرة جدا عاشها في باريس سنة 1965، دونأن يرى مدعاة للتطرق إلى أهم قضية حصلت في باريس أثناء تواجده بها.

وهناك إذن، اليد المطلقة للمخابرات الأمريكية في جهاز الاستعلامات الفرنسي، والإغراق الأمريكي لرجاله المتخصصين في بحر المخابرات الفرنسية، ولو أدرجنا في عمود الشائعات ما نشرته الجريدة الفرنسية “نوطر ريبوبليك” في عددها الصادر يوم 24 يناير 1966، من أن العميل “لوبيز”، الذي اختطف بنبركة، كان موظفا مؤتمرا بأمر جهاز المخابرات الأمريكية “سيا” على نفس مستوى تعامله مع المخابرات الفرنسية، فإننا لا بد أن نعير الاهتمام الأكبر لما كتبه الكوميسير “كاي”، المشرف مثل العين على تنظيم العملية، بصفته صلة وصل بين وزارة الداخلية ورجال العصابة، وهو ضابط الشرطة السامي المعروف مهنيا باسم “بوتي جان” نتيجة هوايته بكتابة مذكراته في سلسلة كتب تحمل اسم مذكرات “بوتي جان”، وبعد مثوله كشاهد في القضية، كتب في سلسلة كتبه تلخيصا لقضية بنبركة، اختصره سنة 1969 تحت عنوان: “بوتي جان ينقل الحريق”، فتطرق إلى التدخل الأمريكي في جهاز الأمن والمخابرات الفرنسية، موجزا أفكاره في العبارات التالية: ((لقد أقدمت نخبة متماسكة من رجال المخابرات الفرنسيين على التعامل مع الأجهزة الأمريكية للاستعلامات “سيا”، التي وجدت نفسها في باريس معززة، مما دعا الإدارة العامة للاستخبارات الفرنسية، لتكليف الضابط “بوتي جان”(…) باختراق المجموعة التي تعمل بطريقة مزدوجة مع الفرنسيين والأمريكان، وأن الأمريكيين مستولون على أجهزتنا، وهو شيء مزعج للغاية)).

وهناك إذن، تلك الجزئية التي يظهر أنها ضاعت في عشرات التفاصيل الواردة في هذا الكتاب، وهي جزئية ذلك الإرهابي “كريستيان دافيد”، الذي هرب إلى البرازيل بعد أن نفذ عملية الاغتيال في حق الإرهابي “فيكون” حسب اعترافات “كريستيان دافيد” نفسه، والذي اعتقل سنة 1972، وعندما بدأ في نشر اعترافاته تسلمته العدالة الأمريكية في نيويورك، لتسكته في أعماق سجن مدته عشرون عاما.

وهناك إذن، هذا التقرير الهام الذي نشرته “اللجنة البرلمانية الأمريكية المكلفة بمراقبة أعمال الحكومة في مواجهة التجسس”، والذي أمضاه رئيس اللجنة، السيناتور “فرانك شورش” سنة 1975، موضحا ثبوت استعمال المخابرات الأمريكية للإرهابي “جواتيا”، الذي سبق الحديث عنه، والذي حاول اغتيال الزعيم علال الفاسي، فاختارته منظمة “السيا” ليصبح مسؤولا في صفوفها تحت اسم العميل “ك. ج. وين”، وقال تقرير اللجنة، أنه كلف باغتيال باتريس لومومبا، وفعلا مات لومومبا بين يديه، بينما المجموعة التي نفذت عملية اختطاف بنبركة، واغتياله، هي المجموعة المعروفة بانتمائها وولائها للإرهابي “جواتيا” كما سبق الحديث عنه.

وهناك إذن، وقد تطول اللائحة، تلك الجزئيات الكامنة وراء تعاطف وصداقة المهدي بنبركة مع السياسي الجزائري كريم بلقاسم، وهو الذي ترأس مفاوضات الحكومة المؤقتة الجزائرية في إيفيان، وكان حريصا على تقديم المهدي بنبركة كمتكلم باسم الثورة الجزائرية، فأثناء المحاكمة التي عقدت بمحكمة وهران في أبريل 1969 – حسب البيانات التي قدمتها جريدة “لوموند” الفرنسية في عدد 8 أبريل 1969- لمتابعة كريم بلقاسم، رئيس “الحركة الديمقراطية الجزائرية”، ورد أن حركة كريم بلقاسم ((كانت تعمل في باريس بتعاون مع أجهزة المخابرات المركزية الأمريكية، عبر ضابط اتصال فرنسي اسمه “ميشيل لوروا”.. بقي التبيين بأن “ميشيل لوروا” هذا، الذي قتل في ظروف غامضة غلفت بحادثة اصطدام سيارته، كان هو الشخص الذي استضاف أحمد الدليمي في باريس عند وصوله للعاصمة الفرنسية لتسليم نفسه للعدالة الفرنسية))..

هناك إذن، عدة نقط غامضة تستحق التوقف عند كل واحدة منها، للتأكد من أن أجهزة المخابرات الأمريكية لم تكن غريبة – إطلاقا – عن حادث اختطاف المهدي بنبركة، ولكن اليد الأمريكية، كانت كعادتها، مغلفة في قفاز حريري، شفاف، تفاديا لتلطيخ اليد “النظيفة” بالدم السيال.

منذ خمسين سنة خلت أو أزيد، جمع المستشار السياسي في السفارة الأمريكية بباريس، روبير مورفي، مجموعة مكونة من اثني عشر موظفا جديدا في الجهاز القنصلي الأمريكي المرشحين لتسلم مهام اثنتي عشر قنصلية أمريكية في شمال إفريقيا، التي كانت خاضعة للنفوذ الفرنسي.

وخلال خطاب تقديم المهام، قال المستشار مورفي للموظفين الجدد: ((إن شمال إفريقيا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، هو قطب رحاها وقطب دفاعها، إنها تمس مواقع الحرب في ليبيا، وعلى اتصال بفرنسا، تحمي وتحكم وتتحكم في داكار بالسنغال، وفي إفريقيا الغربية، لهذا، قرر رئيسنا، وقررت حكومتنا تعيين ملاحظين لهما في مناطق استراتيجية من إفريقيا الشمالية))، فالولايات المتحدة الأمريكية إذن، ومن قديم الزمان، وكما شرحه المستشار مورفي في اجتماعه بالقناصل الاثني عشر – موضوع كتاب عنوانه الاثني عشر قنصلا، إفريقيا الشمالية سنة 1942 لمؤلفه بيير كيمو- مهتمة بالمنطقة، إذن برجالها، إذن بظروفها، وبكل ما يدور فيها، وكم كان مستبعدا أن تتم تصفية أحد الزعماء الكبار مثل المهدي بنبركة في غيبة الاهتمام الأمريكي.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى