الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | هل تورطت الرئاسة الفرنسية في قضية بنبركة ؟

الأسئلة الموجهة للمهدي "الحلقة 38"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    أية سبة للدولة الفرنسية أكثر من أن يقدم ضابطان محترمان للشرطة على اعتقال سياسي أجنبي كبير على أرض فرنسا، بلد الحرية والعدالة والمساواة، ليسلموه إلى جلاديه، ثم يعودان إلى بيتهما آمنين؟

نوعية الرجلين هي أيضا ليست من الوضاعة لهذا المستوى، فالضابط سوشون كان منذ سنة 1941، أحد كبار المدربين لرجال المقاومة الفرنسية، وشارك في مقاومة قوات الاحتلال النازي، حيث جرح جروحا بليغة، عُيّن بعدها مدربا لقوات الشرطة سنة 1944، ثم ضابطا للشرطة مكلفا بمحاربة المخدرات، حصل طوال خدمته في إطار الشرطة على عشرات الأوسمة الرفيعة، أما روجي فواتو، فقد تربى في أحضان الجيش ثم التحق بالشرطة حيث بدأ من نقطة الصفر سنة 1951، ثم ترقى ابتداء من سنة 1955 إلى أن ألحق بمصلحة يرأسها شريكه في الاختطاف، لوي سوشون.. وقد صرح أمام قاضي البحث أنه في إطار الامتثال للأوامر، نفذ تعليمات رئيسه سوشون، لا أقلولا أكثر، أما سوشون، فقد صرح للشرطةأنه ((إنما أراد إرضاء رغبة صديقه لوبيز، الذي قدم له خدمات جلى في مطار أورلي، وأنه لم تكن له فرصة يرد فيها لأنطوان لوبيز أفضاله عليه)).

لكن ادعاءات سوشون ليست منحصرة فيما ادعاه أمام قاضي البحث.. حقيقة أنه دخل القضية عبر صديقه “لوبيز”، وأنه عندما طلب من المهدي بنبركة مرافقته في السيارة التابعة لأمن باريس، ركب خلف مقود السيارة وجلس “لوبيز” عن يمينه، بينما ركب المهدي بنبركة بين فواتو الشرطي و”جوليان لوني” الإرهابي، ولكن سوشون في تلك اللحظات، كان يرتب فصول الكتاب الذي سيؤلفه فيما بعد عن هذه القضية التي مرغ بها وجه جهاز الأمن الفرنسي في التراب، ((فقد تلقى ذات مساء مكالمة تلفونية من “لوبيز” الذي استدعاه للالتحاق به في مطار أورلي، والذي أخبره في إطار الاستشارات الجارية بينهما في مجال محاربة المخدرات، أن أحد السياسيين المغاربة، ويسمى بنبركة، قد صدر عليه العفو من ملكه، وسيدخل بلاده، ولكنه مرتبط بمهربي المخدرات))، وشرح “لوبيز” لضابط الشرطة، أن هناك عملية تتبع هذا العنصر المشاغب، عبر نقله في سيارة الشرطة إلى موعد له مع مسؤولين من حكومته، وأمام تردد سوشون، سارع “لوبيز” إلى كشف طرف من المخطط: “إن فوكار في القضية”، و

“إن فري هو أيضا على علم بها”، و”إننا نقوم بهذا العمل مغمورين بالعناية الكبرى”.. “فوكار” هو الكاتب العام لرئاسة الجمهورية، و”فري” هو وزير الداخلية.. فماذا بقي لضابط الشرطة سوشون أن يعمل غير التأكد من ادعاءات “لوبيز”؟

ويعتبر تأكد سوشون من ادعاءات “لوبيز” عنصرا مصيريا في تاريخ قضية بنبركة، إذ أنه يكشف تآمر وزير الداخلية والكاتب العام لرئاسة الجمهورية، وتواطأهما مع المحامي “لومارشان” في إطار عملية استعمارية داخلة في نشاط المخابرات الفرنسية وحماية مصالح المعمرين الفرنسيين،ومعاقبة الذين يهددون رؤوس أموال فرنسا في الشمال الإفريقي في إطار مخطط كان أوفقير عنصرا من عناصره، وليس المجال هنا مجال الحديث عن هذا الاتجاه داخل الدولة الفرنسية، فقد سبق التطرق إلى دور هؤلاء الرجال في البداية.

ومتأرجحا بين نشوة الفرحة لاختياره للقيام بهاته المهمة، وبين الرغبة في التأكد من طرف رؤسائه المباشرين، ركب سوشون سيارته ونزل من مطار “أورلي” إلى بيته، وهنا يتم حبك المخطط، بعد دراسة شعور سوشون.. فقد كان جالسا في مكتبه بإدارة الأمن حينما رن جرس التلفون، ونترك سوشون يحكي بقلمه نقلا عما حرره في الكتاب الذي ألفه عن هذه القضية:

– ألو: المسيوسوشون؟

– نعم سيدي – من؟

– أنا المسيوأوبير، مدير ديوان السيد وزير الداخلية.

– احتراماتي سيدي المدير.

– إني أتصل بكم لمعرفة ما إذا كنتم ستتوجهون إلى الموعد المحدد.

– نعم سيدي المدير، إن لي فعلا موعدا.

– إذن، طيب، ذلك ما كنت أرغب في معرفته.

وانتهت المكالمة دون أن يكلف سوشون نفسه عناء الاتصال بالوزير، وهو شيء صعب، ها هو مدير ديوان الوزير يكفيه عناء الاتصال، بقي أن نعرف أن مدير ديوان وزير الداخلية أوبير، هو من أباطرة الاستعمار الفرنسي، ومن جلادي الشعب الجزائري بالجزائر العاصمة، حيث كان سنة 1962 مديرا عاما للأمن.

واقتنع سوشون بأن الأمر يتعلق بمهمة سرية، وبذلك كان له حظ التحدث إلى المهدي بنبركة ودار بينهما هذا الحوار الذي أكده سوشون بنفسه:

– سوشون: اسمحوا لي يا سيد بنبركة، وبدون أن أثقل عليكم، ماذا جئتم تعملون في باريس..؟

– المهدي: بالتأكيد أجيبكم، لقد جئت لباريس لمقابلة بعض رجال السينما بشأن إنجاز فيلم عن الاستعمار.

– سوشون: ألا تظنون أنكم في باريس من أجل غاية سياسية؟

– المهدي: لم أحضر لفرنسا لمزاولة السياسة.

– سوشون: بينما لكم موعد مع شخصيات سياسية، طلب مني أن آخذكم عندها، فاسمحوا لي أن أنفذ.

في هاته اللحظة، أشار سوشون إلى المهدي بنبركة بالصعود في السيارة “البيجو 403″، وقبل أن يركب المهدي التفت مرة أخرى إلى سوشون قائلا: هل أكيد أنكم من الشرطة الفرنسية؟

لقد مثل ضابط الشرطة سوشون عدة مرات أمام المحكمة، وخلال إحدى جلسات المحاكمة الثانية، ألقى عليه الرئيس بيريز سؤالا من الأهمية بمكان:

– الرئيس بيريز: هل لم تستغرب كيف ينقل المهدي بنبركة لموعد في بيت “بوشسيش”؟

– الشرطي سوشون: لا سيدي الرئيس، إن “بوشسيش” كان يتعامل مع الشرطة وقام بأعمال مشرفة في إطار محاربة العصابات. لقد دخل “سوشون” السجن لا من أجل مشاركته حسبما يبدو في قضية بنبركة، وإنما لإنقاذ شرف الحكومة الفرنسية، ولإسكاته من جهة أخرى حتى لا يعيد القول بأنه تلقى تعليمات من مدير ديوان وزير الداخلية.. فعندما غضب دوغول وثار من أجل مفاجأته بهذه الاتهامات في جلسة وزارية عقدت يوم رابع نونبر 1965، ذهب مبعوث عند “سوشون” للسجن ليطلب منه التقليل من الكلام.

هذا ما رواه “سوشون” في كتابه أيضا: “إن هاته النصيحة، قدمها لي الوكيل العام بوفيي”.

بقي عنصر آخر لا يقل أهمية عن هاته العناصر كلها، وهو الذي لم يثر لا أثناء المحاكمة الأولى ولا الثانية، وهو أن سوشون كان هو ضابط الاتصال الملحق بين الشرطة الفرنسية وجهاز المخابرات المركزية الأمريكية “سي. آي. إي”، ولكن هذه القنبلة تم تفجيرها في إحدى الجلسات الأخيرة للمحاكمة الثانية، حينما أخذت تهيمن النهاية على جلسات المحكمة دون أن تظهر بوادر الحقيقة، وفي 22 مارس 1967، وقف النائب الديغولي، بيير كلوسترمان، شاهدا أمام المحكمة متهما الشرطي سوشون بأنه تصرف طبق مصلحة مهامه كمسؤول في فرع مصلحة محاربة المخدرات الأمريكية في باريس، فرد عليه سوشون من داخل قفص الاعتقال: ((أوضح لكم أن مهمتي الرسمية هي الاتصال بين مصلحة محاربة المخدرات الفرنسية، وبين المصالح الموازية في الولايات المتحدة))، وبذلك أجاب سوشون بالتأكيد عن جواب محرج، في إطار لغة أشبه ما تكون بلغة الصم.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى