الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | “الأشرار” الذين تفرق بينهم دم بنبركة

الأسئلة الموجهة للمهدي "الحلقة 37"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    “جان باليس”، رابع الإرهابيين المنفذين لعملية اختطاف المهدي بنبركة، وهو الخليفة الأول للإرهابي “جواتيا” والساعد الأيمن لـ”جورج بوشسيش”، فهو يعرف المغرب والمغاربة بحكم معايشته لـ”بوشسيش” في المغرب، وبحكم المهام التي قام بها في إطار أعماله الإرهابية، ولكن هذا لم يمنع عارفيه من وصفه بما يستحقه من أوصاف يحكي الصحفي جان مارفيي، في عرض نشره بمجلة “الإكسبريس” عدد 24 يناير 1966، قصة حكاها له “فيكون” في إطار اعترافاته للصحفيين، حصلت أثناء إحدى المقابلات بين “لومارشان” المحامي، وبين “فيكون” والمكلفين بالاختطاف، وهما “لوني” و”باليس” المعروف في الوسط باسم “جانو”، وروى “فيكون” للصحفي، أن “لومارشان” بعد أن شرب كمية كبيرة من الشامبانيا، قال لهم: ((إن هناك أوقاتا يتحتم علي التعامل مع الصعاليك أمثالكم))، وأضاف “لومارشان” قائلا: ((ولكني لا أكن الاحترام إلا لصعلوك واحد، هو “جواتيا”، فنهض “باليس” غاضبا لوصف رئيسه “آتيا” بوصف الصعلوك، فقال: لو كان “جو” معنا لما استطعت أن تفتح فمك، فرد عليه “لومارشان”: أكيد أنكم لستم من طينته، أنت يا “باليس” مثلا، كنت في “الكيستابو” النازية أنت وصديقك “سارتور”، فانقض “باليس” على المحامي السكران وقال له: لو كان “سارتور” هنا لأخرج لك أمعاءك بمديته))، وكاد الاجتماع فعلا أن ينتهي بالرصاص، ذلك أن “باليس” معروف بالعنف، وقد نال احترام المخابرات الفرنسية عندما شارك هو أيضا في اختطاف الكولونيل آركو من مدينة ميونيخ في فبراير 1963، وهو ما أهله للمشاركة في اختطاف المهدي بنبركة، وبذلك كان مستمرا في مزاولة العمليات المتطابقة مع أفكاره، والنابعة من فكر استعماري كاره للوطنيين العرب، فقد دشن أعماله ضد الوطنيين المغاربة سنة 1955 بمشاركته في عملية وضع القنبلة في فندق “ديرسا” بتطوان، لاغتيال الزعيم علال الفاسي بتنظيم من “جواتيا”، ويتوفر الملف الشخصي لـ”باليس” على محاضر الحكم عليه سبع مرات، إحداها بسبع سنوات من الأشغال الشاقة، ولكن خدماته لفائدة المخابرات الفرنسية كانت تشفع له دوما لتسمح له بأداء المهام التي غالبا ما تكون داخلة في المخطط الاستعماري، كما أن هناك احتمالا كبيرا تؤكد القرائن كلها حول اتفاق “باليس” مع “فيكون” لاختطاف المهدي بنبركة من بين أيدي مختطفيه، فإضافة إلى أن “باليس” كان يشارك في أي عمل إلا مقابل المال، فإنه كان مع “جواتيا” في لوهافر عندما نظما عملية “لاموت” التي سبق الحديث عنها في الفصل الخاص بـ”فيكون”.

يروي الإرهابي “جواتيا” لابنته نيكول بإعجاب هذا الحظ الذي يتمتع به “باليس”، إذ يفلت من كل المصائد، وتقول نيكول آتيا في كتابها: ((توجه “باليس” في مهمة استطلاعية للبحث عن المكان الذي يسكن به علال الفاسي، فعاد مستبشرا، وحمل الحقيبة المشتملة على القنبلة ووضعها بيده في البيت، بينما توجه “جواتيا” إلى فندق “ديرسا” ليضع القنبلة الثانية حيث ينتظر أن يعقد علال الفاسي اجتماعا، وعندما هرب الجميع إلى طنجة، حيث استقبلهم “أنطوان لوبيز” في مطار طنجة، وكان “لوبيز” رئيسا بالمطار، أراد “جواتيا” أن يسلم “لوبيز” المتفجرات التي بقيت لديه ليخبئها من التفتيش الذي كان آنذاك تحت النفوذ الإسباني، فسقطت بعض المتفجرات على الأرض وانفجرت، مما جعل الشرطة الإسبانية تلقي القبض على “لوبيز”، وعلى آتيا، وعلى الإرهابي الثالث، “نوتيني”، ولم يفلت إلا “باليس”، الذي هرب ولم يعتقل)).

نفس المصير في قضية بنبركة.. فقد اختفى “باليس” مع الأيام الأولى لشهر نونبر 1965، ولم يذكر اسمه فيها بعد إلا عندما انفجرت فضيحة تهريب كبرى في دولة الباراغواي بأمريكا الجنوبية، كتبت إثرها جريدة “لورور” الفرنسية عدد 2 نونبر 1972، أن “باليس كان أحد أبطال العملية بعد أن هرب إلى أمريكا الجنوبية في أعقاب قضية المهدي بنبركة”.

الشرطيان الرسميان: روجي فواتو ولوي سوشون

    لقد حاول الرأي العام الفرنسي محاكمة الدولة الفرنسية في قضية المهدي بنبركة، وطوال جلسات المحاكمتين المستمرتين من 19 أكتوبر 1966 إلى 6 جوان 1967، من خلال مشاركة شرطيين ساميين فرنسيين في الاختطاف، مباشرة وبدون وسائط، إذ من المؤكد الحتمي أن المهدي بنبركة لو لم يشهد بطاقة الشرطة الفرنسية معروضة تحت عينيه، لما قبل الركوب في السيارة التي نقلته إلى مصيره المحتوم، ولولا مشاركة ضابطي الشرطة فواتو وسوشون في العملية لما نجحت على الإطلاق، وكيف يمكن لأي مواطن، كيفما كان مستواه، في أي بلد مهما كانت نظمه، أن يرفض الامتثال لأوامر رجال شرطة تلك البلاد، بل إن الثقة التي برهن عليها المهدي بنبركة، واستسلامه للشرطة الفرنسية وعدوله عن الالتحاق بموعده المضروب، هو الذي جعل مستوى التقدير له والعطف عليه يزداد تعاظما في أنظار الرأي العام الفرنسي، كما أن مشاركة الشرطيين سوشون وفواتو في عملية الاختطاف، هي التي أخجلت الدولة الفرنسية، وهزأت الجنرال دوغول إن لم تكن هي التي أطاحت بحكمه.

والذين اختاروا شخصيتي سوشون وفواتو للقيام بتلك المهمة، إنما كانوا يستهدفون تحكيم الأنفة الفرنسية وتمريغ سمعة الشرطة الفرنسية في الوحل، ذلك أن سوشون وفواتو ليسا شرطيين عاديين.. فقد كان ممكنا تقمص أي خبيرين من خبراء الجاسوسية الذين ساهموا في العملية، لشخصية البوليس أو ارتداء زي الشرطة لاعتقال المهدي بنبركة مثلما يحصل في جميع الأفلام السينمائية، مادامت قضية اختطاف المهدي بنبركة ضربا من الإنجازات القريبة من الخيال، ولكن اختيار ضابطين محترمين لهما مكانة مرموقة في السلم الفرنسي، كان يستهدف من جهة، إعطاء الاختطاف طابعا رسميا، ليطمئن كل الإرهابيين المشاركين ولا يحصل تراجع في آخر ساعة، ومن جهة أخرى، كان اختيار الضابطين سوشون وفواتو يستهدف إقحام الدولة الفرنسية رسميا في عملية الاختطاف، إلا أن هذا الإقحام يترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام الاحتمال الكبير، وهو أن أجهزة وزارة الداخلية الفرنسية، والمخابرات الفرنسية، لم تكن تتوقع هذا التحول المفاجئ الذي أفسد العملية، وجعل المختطفين وعلى رأسهم “فيكون”، يهزؤون من الدولة الفرنسية التي كانت غايتها رسميا “تسهيل لقاء بين زعيم مغربي معارض وبين مندوبين عن حكومته”، ويستنتج من هذا الاتجاه أيضا، أن الحكومة المغربية، إن كانت فعلا قد رغبت في الاتصال مع المهدي بنبركة، ما كان لها أن تطلب من الحكومة الفرنسية تنظيم العملية بمشاركة ضابطين كبيرين للشرطة الرسمية الفرنسية.

وأية سبة للدولة الفرنسية أكثر من أن يقدم ضابطان محترمان للشرطة على اعتقال سياسي أجنبي كبير على أرض فرنسا، بلد الحرية والعدالة والمساواة، ليسلموه إلى جلاديه، ثم يعودان إلى بيتهما آمنين؟

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى