الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | كيف وقع بنبركة في “فم السبع”

الأسئلة الموجهة للمهدي بنبركة "الحلقة 31"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    إن الأفكار التي كانت تخالج أوفقير، والمشاكل المتردية في السياسة الداخلية المغربية، والتعاون المكين بين المخابرات المغربية والفرنسية.. كلها عناصر جعلت “فيكون” مؤهلا للقيام بدور ما.. فقد تعرف “فيكون” – صدفة – على صحفي فرنسي كان يشتغل في إذاعة الرباط أيام الاستعمار الفرنسي للمغرب، واسمه فيليب بيرنيي، وبذلك تمت التشكيلة، حيث أن بيرنيي ادعى ذات يوم أنه صديق حميم لبنبركة، وهناك نزلت مع نهاية سنة 1964، فكرة الفيلم السينمائي الذي كان بمثابة المصيدة المحبوكة ضد المهدي بنبركة.

هنا.. يأتي سؤال خطير ليفرض نفسه على الواقع المأساوي الذي هو موضوع اختطاف المهدي بنبركة. فذات يوم، جاء الصحفي بيرنيي عند المهدي بنبركة في باريس، وقال له: ((عندي مشروع فيلم سينمائي عن الاستعمار، ولقد عثرت على الرجل الذي سيموله، واسمه “جورج فيكون”)).

فهل لم يسبق للمهدي بنبركة أن سمع بهذا الاسم وهو الذي قلب الرأي العام الفرنسي وشغله سنين طويلة، أم أن المهدي بنبركة لم يسأل مكاتب المعلومات عن هذا الشخص الذي سيربط به مصيره السياسي وسيشركه في مشروع هام، أم أن المهدي بنبركة كان من البساطة – وهو الرجل المتقد ذكاء- بحيث قيل له “فيكون”، فأجاب: هاتوا لي “فيكون”؟

المأساة، هي أن هذا هو ما حصل فعلا، بل إن المهدي بنبركة أضاف بأنه يتعهد بعرض الفيلم أمام مؤتمر القارات الثلاث في هافانا، الشيء الذي سيضمن شراء الفيلم من طرف جميع الدول المشاركة في المؤتمر.. حقا إن موقف المهدي بنبركة ورد فعله السريع، يثير الكثير من الاستغراب، فقد سقط في مخلب القط إن لم يكن فم السبع، دون أن يفطن لذلك.

موقف المهدي بنبركة هذا، كان محط بحوث واستفسارات، جاءت الأجوبة عنها متفقة كلها على أن المهدي بنبركة عندما قبل بتلك السهولة، فإنما ارتكب خطئا فادحا لا يغتفر، دفع ثمنه حياته.. لقد حكى الإرهابي “فيكون” للممثلة آن ماري كوفيني: ((إن قبول المهدي للعرض الذي قدمته له بواسطة الصحفي بيرنيي، جعله بمثابة الماعز الذي يستعمل لصيد السباع))، وكتب أحد قدماء المجرمين واسمه “جان فينيو”، أن “فيكون” حكى له تفاصيل هذه الفترة التي قبل فيها المهدي بنبركة التعاون مع “فيكون”، وروي أن “فيكون” قال لـ”جان فينيو”: ((إن بنبركة عندما قبل، فإما أنه ذكي كان يخفي استغرابه ويظهر عكس ما يخفي، وإما أنه سلطان الأغبياء))، بينما ذهب الصحفي بيرنيي بعيدا في تحميل المسؤولية للمهدي بنبركة وقد صرح أمام المحكمة الفرنسية في جلسة سادس شتنبر 1966، أنه ((أطلع المهدي بنبركة على نوعية الشخص، يعني “فيكون”، وقدم له صورة عن ماضيه وسوابقه، وأن الرئيس بنبركة لم يهتم))، بينما تصريح “فيكون” للممثلة آن ماري كوفيني، والذي أدلت به بدورها أمام المحكمة، لا يدع مجالا للشك في أن “فيكون” كان بمشروع الفيلم يمهد لاختطاف المهدي بنبركة، وتنفيذ الأوامر الصادرة إليه من طرف المحامي “لومارشان”، المستشار الكبير لأجهزة المخابرات الفرنسية، وكل خطوة خطاها المهدي بنبركة مع الإرهابي “فيكون”، كانت في طريق النهاية المأساوية التي عرفها الزعيم المغربي، وهي طريق كان المهدي بنبركة يمشي فيها بصدق وبداهة، وكان “فيكون” يمشي فيها مبيتا للغدر والخديعة، وقد قال في الأحاديث التي نشرها قبل مصرعه: ((لقد كنت أمثل على المهدي بنبركة دور الخبير المحترم)).

لقد قيل للمهدي بنبركة أن “فيكون” هو ممول الفيلم، ولكن.. من أين لـ”فيكون” هذا المال وهو الذي خرج من السجن سنة 1962 من أجل محاولة سرقة؟ هنا ينتصب سؤال كبير: هل كان “فيكون” يتوصل بمصاريفه من المخابرات الفرنسية عن طريق “لومارشان”، أم من المخابرات المغربية.. عن طريق من؟

أم ترى أن المصاريف كانت مدفوعة من طرف المخابرات الإسرائيلية (الموساد) حسبما سيأتي شرحه فيما بعد؟ وإذا مارسنا العد العكسي، لاستثنينا المصدر المغربي للأموال، إذ كيف يعقل أن يمول المغرب شريطا سينمائيا ينجزه المهدي بنبركة ضد الأنظمة التي يعتبر المغرب متعاطفا معها؟ لتبقى المصادر المالية فرنسية أو إسرائيلية، بينما يستبعد جدا أن تدفع المخابرات الفرنسية أموالا لمجموعة من الرعاع والمجرمين، أو تسلم مقادير مالية لإرهابي خارج من السجن واسمه “فيكون”.

لقد “تعلق” الكثير من “المعلقين” في هذه العقدة، وخرجوا باستنتاج مفاده أن المهدي بنبركة عندما علم بأن التمويل إسرائيلي رفض التعاون والاستمرار، ولذلك تمت تصفيته، إلا أن هذا الاحتمال أبعد كثيرا عن المعقول والمقبول، بينما هناك من يقول بأن المهدي بنبركة علم بأن الأموال تأتي من عند أوفقير، ولذلك توقف عن التعاون مع مشروع الفيلم، فتمت تصفيته، وهذا أيضا جد مستبعد، لأن المهدي بنبركة جاء في 29 أكتوبر للبداية في إنجاز الفيلم، لذلك كان له الموعد المصيري في مقهى “ليب” بباريس.

وكان المهدي بنبركة في القاهرة في نهاية غشت 1965، فتم الاتفاق بين جميع الأوساط المعنية باختطافه على الالتحاق به في القاهرة، وسافرت المجموعة: “فيكون”، “بيرنيي”، إضافة إلى”الشتوكي”، الذي كان عين موسكو المغربية لدى المخابرات الفرنسية، وربما رجل أوفقير الملحق لدى جهاز المخابرات الفرنسية، ووصل الجميع إلى مطار القاهرة يوم 2 شتنبر، حيث نزل الفرنسيون في نزل “الهيلتون” على النيل، ونزل المسمى “الشتوكي” في نزل “كونتيننتال”، لولا أن أجهزة المخابرات المصرية – ما شاء الله – تشككت في شخص “الشتوكي”، مما يبرر التخمين بأنه ليس مغربيا، أو ربما شخص مزور.. فقد طلبت منه المخابرات المصرية مغادرة التراب المصري مباشرة، فلم يحصل له حظ المشاركة في اللقاء الذي جمع صباح الغد في مقهى “الهيلتون” بين المهدي بنبركة و”فيكون” وبيرنيي. مرة أخرى: هل سمع المهدي بنبركة بخبر طرد الرجل الثالث؟ وهل المخابرات المصرية أبلغت المهدي بنبركة بالأسباب التي جعلتها تطرد المسمى “الشتوكي”؟ ولو علم المهدي بنبركة، لماذا لم يسأل أجهزة الأمن المصرية؟.. إنه من الطبيعي أن الثلاثي “فيكون وبيرنيي والشتوكي” وصل على متن نفس الطائرة، ونزلوا في نفس السيارة، وافترقوا، ولا شك إذن، أن المخابرات المصرية علمت برفقتهم، وطردت واحدا منهم لأسباب وجيهة ولا شك، فكان عليها أن تتعقب الثانيين، وكان عليها أن تلاحظ اجتماعهما مع الزعيم المغربي في مقصف “الإيزيس” بـ”الهيلتون”، فكان عليها بالتالي، أن تطلع المهدي بنبركة أو تستفسره، ونظرا للمكانة التي كان يحظى بها لدى الرئيس جمال عبد الناصر، وللحراسة التي كان يتوفر عليها، فقد كان على أجهزة الأمن المصرية أن تطلع المهدي بنبركة على أن الشخصين المجتمعين معه، جاءا رفقة شخص ثالث غير مرغوب فيه تم طرده من التراب المصري، ولكننا نعرف المستوى الرفيع الذي كانت عليه أجهزة المخابرات المصرية.. نقط استفهام متعددة بقيت بدون إجابة، ولكنها لا تجرد المخابرات المصرية من مسؤولية خطيرة.. فقد أثبتت الصحافة الإسرائيلية مرات عديدة، أن “فيكون” كان عميلا لـ”الموساد”، فكيف دخل القاهرة ونزل في “الهيلتون” ولم تعرف به المخابرات المصرية؟

وقد تم اللقاء الأول بين المهدي بنبركة و”فيكون”، وتم الاتفاق على إنجاز الفيلم، واتفق الطرفان على أن يتوصل المهدي بنبركة برسالة عرض من منتج الفيلم “فرانجو”، يرد عليه برسالة يحدد فيها موعد إمضاء العقد، وبالفعل، رحل الثنائي “فيكون وبيرنيي” إلى باريس، ومنها بعث المنتج “فرانجو” رسالة مؤرخة بتاسع شتنبر 1965، وجدت في الحقيبة التي خلفها المهدي بنبركة عند وصوله لباريس وأدرجت في ملف المحاكمة.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى