الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | “فيكون”.. المجرم المجنون

الأسئلة الموجهة للمهدي بنبركة "الحلقة 30"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    كشفت وثيقة رسمية فرنسية أمضاها مراقبان شرعيان، وأدرجت بجانب وثيقة الأسئلة في المحكمة (انظر الحقيقة الضائعة العدد الماضي) عن عنصر جديد في قضية بنبركة، وهذا نص الوثيقة الجديدة: ((بناء على طلب محكمة “السين” بباريس، وقرار التكليف الصادر عن قاضي البحث مسيو “بانسو” للتعرف على صاحب الخط الذي كتبت به الأسئلة الخطية في نسختين متباينتي الخط، فإن الخبيرين الممضيين أسفله، بعدما توليا شخصيا وانفراديا، عملية استكناه الخط والتحقق منه، يقرران باتفاق بينهما، النتائج التالية:

1) من خلال استنساخ الوثيقتين المعنيتين، فإن الثانية هي بكل وضوح الأكثر قربا من الصورة الأصلية، لأن الأولى يمكن أن تكون نتيجة عدة نسخ منقولة بالتصوير عدة مرات.

2) الخمسة أسطر الأخيرة الظاهرة، جائز أن تكون مضافة نتيجة تركيب.

3) هذه الأسطر المضافة مكتوبة بنفس خط الكاتب للوثيقة كلها.

4) المقارنات والمقابلات التي أجريت بين الوثائق المقدمة، وبين النموذج المكتوب بخط الشاهد “لومارشان”، تعين هذا الأخير بصفته صاحب خط الوثيقتين.

وحرر بباريس في 18 دجنبر 1976.

الإمضاء: “ريموند تريان. م.ج. بيريشون سيديان”)).

كاتب وثيقة الأسئلة إذن، هو “بيير لومارشان”، رئيس العصابة التي كلفت بتقديم مشروع الفيلم إلى المهدي بنبركة، والأسئلة إذن كتبت بباريس، وقدمت للإرهابي “فيكون”، فهو الذي كان مكلفا باستنطاق المهدي بنبركة، لأن الوثيقة وجدت في حقيبته بعد موته، فالنتيجة إذن مزدوجة الوجهين: الأسئلة مكتوبة من محبرة المخابرات الفرنسية، و”فيكون” كان يقوم بدور رسمي في قضية اختطاف المهدي بنبركة، ومادامت الأسئلة لم يعثر عليها في البيت الذي احتجز به السياسي المغربي، في “فونتني لوفيكونت” ولم يقدمها “لوبيز”، الذي اختطف المهدي بنبركة مع مجموعة من رجال الشرطة الفرنسية، فإن العثور عليها في حقيبة “فيكون” المقتول، يرجح الاتجاه الذي تم إخفاؤه بكل الوسائل عن المحكمة، وهو أن المهدي بنبركة أعيد اختطافه من طرف “فيكون” ومن بين أيدي مختطفيه الأولين، وبقي “فيكون” هو العنصر الأساسي في حقيقة النهاية التي لقيها المهدي بنبركة، ولكن “لومارشان” الذي لم يصدر قرار الخبراء بأن الوثيقة من كتابة خط يده إلا بعد مرور اثنتي عشر عاما، يبقى هو المسير والمخطط، بينما لم يمثل أمام المحكمة كمسؤول، ولم يسمح لعملية “فيكون” بالحضور أمام المحكمة، ولم يحاكم إذن، إلا رجال الشرطة الذين نقلوا بنبركة إلى حيث سلموه لجلاديه. “لومارشان” إذن، يعرف الحقيقة ولازال على قيد الحياة، و”فيكون” مارسها قبل أن يموت.

جورج فيكون

    منطقيا.. لو كان للمنطق وجود في القضايا الهامة في تاريخ العالم، فإن جورج فيكون هو مفتاح قضية اختطاف المهدي بنبركة، وهو قطب الرحى و”مايسترو” العملية.. فانطلاقا من توجهه إلى القاهرة لمقابلة المهدي بنبركة، ومرورا بتعاقده معه على مشروع الفيلم وإمضائه لعقد موجود مذيل بإمضاء الرجلين، وحضورا منه في البيت الذي احتجز به المهدي في “فونتني لوفيكونت” وانتهاء بوجود الأسئلة التي ألقيت، أو لم تلق على المهدي بنبركة، في حقيبته، دون الاستهانة بكونه، أي “فيكون”، هو الذي نشر الاعترافات المشهورة في الصحف والمجلات الفرنسية، والتي استعملها للمزايدة والتهديد، وقدم فيها أوصافا أقرب إلى الخيال من قربها إلى الحقيقة، كسبت المجلات الفرنسية بنشرها مئات الملايين، فإن السؤال المحير: لماذا لم يحضر هذا الرجل أمام المحكمة؟ ولماذا بقي مختفيا في باريس، وعلى بعد خطوات من المحكمة، يستدعي المصورين ليلتقطوا له صورا وهو يتجول تحت أنف المحكمة والشرطة، ولم تعثر له الشرطة الفرنسية على أثر(…)؟ وعندما صدرت الأوامر العليا لإنقاذ سمعة الأمن الفرنسي ووضع حد لتحديات “فيكون” للحكم الفرنسي ومزايداته وتهديداته، وغسل العار اللاصق بسمعة الشرطة الفرنسية التي تدعي أنها عجزت عن اعتقاله، بينما يظهر كل يوم في ركن من أركان باريس، وعندما استجمعت الشرطة قوتها وصدر الأمر باعتقاله، ودخلت كوكبة من رجال الشرطة للشقة التي كان يسكنها، إذن كانت معروفة من طرف الشرطة، وجدته، لكن جثة هامدة.

صحيح إذن، أن سر اختطاف المهدي بنبركة دفن مع “فيكون” وحده، لأن الذين استعملوا هذا الإرهابي والمجرم والمجنون والفيلسوف، هم الذين صفوه بضع لحظات قبل اعتقاله، محولين بذلك أنظار الرأي العام الفرنسي والدولي عن قضية بنبركة، ومتخلصين من الرجل الذي كلف بالاتصال ببنبركة وكلف بتصفيته، ولم يبق وجوده حيا إلا عنصرا مشاغبا للمخطط الكبير، كما أن تصفيته لم تكن بالأمر العسير، ثم إن حياة رجل مثل “فيكون” لم تكن في الحقيقة إلا نموذجا نادرا لنوعية من البشر يكون التخلص منها إحدى غايات أجهزة الأمن، تقول السطور الأولى من ملف “فيكون” لدى الشرطة القضائية في باريس بالحرف: ((“فيكون”، جورج. مولود سنة 1927 من عائلة مشهورة بالإجرام والهاربين من العدالة، خبير في شؤون الاختطافات. اعتقل في 7 غشت 1945 في أعقاب اعتداء مسلح، محكوم عليه في 27 شتنبر 1955 بعشرين عاما من الأشغال الشاقة إثر إطلاقه النار على رجال الشرطة وهم يهمون باعتقاله ساعة ارتكاب جريمة سرقة.. وبتهمة إهانة هيأة القضاة. ثم أدخل “فيكون” لمستشفى المجانين من أجل خلل عقلي، وزعزعة تركيبته، وانعدام التوازن العصبي، وعدم الطاعة والامتثال، ذو اتجاهات عدوانية، لا أخلاق له))، والحقيقة، أن “فيكون” لم يعرف غير الإجرام شريكا له في حياته مع خليط من الجنون لدرجة أثارت فضول الصحافة والإذاعة والتلفزيون، فبعد أن سجل سابقة غريبة في تاريخ القضاء الفرنسي، حيث ترافع عن نفسه بنفسه، وحاول عكس الواقع، بتحويل القضاة إلى متهمين وتحويل نفسه إلى قاضي يحاكم المجتمع الفرنسي، الشيء الذي اعتبرته جريدة “لوموند” (عدد 29 شتنبر 1958) سابقة استحقت الاهتمام به وتخصيص صفحة كاملة عنه.

وبعد أن حكم على “فيكون” بعشرين عاما من الأشغال الشاقة، وقضى منها فقط أحد عشر عاما، كان طبيعيا أن تتلقاه الصحافة عند خروجه من السجن لتستجوبه وتجعل منه بطلا لمجتمع غريب، الشيء الذي زاد عناصر الشر في نفسيته تبلورا، خصوصا بعد أن قررت الصحفية مارغريت دورا، أن تخلق منه “موضة فوضوية” ونشرت له استجوابا في مجلة “لونوفيل أوبسيرفاتور” ذات الميولات اليسارية، فاضطرت التلفزة الفرنسية إلى الدخول في السباق، وقدمت معه استجوابا في إطار البرنامج الذي لا يتحدث فيه إلا رؤساء الدول والعباقرة “خمسة أعمدة في الصفحة الأولى”، مما جعله بين عشية وضحاها نجما من نجوم المجتمع الفرنسي استحق شرف اهتمام الكاتب فرانسوا موريال في مقاله المنشور بجريدة “لوفيغارو ليتيرير” الصادرة بتاريخ 9 جوان 1962، حيث تأرجح الإرهابي المجرم المجنون بين أوصاف العبقرية وصفات الصعاليك.

ولكن المهم، أن شخصية المجرم الدفينة في شخصية العبقري بقيت متغلبة، بارزة بمنتهى الوضوح ومنتهى الصراحة.

الصحفية مارغريت دورا أصرت على بلورة الشخصية التي كانت بصدد صنعها وكأنها تصنع عفريتا سيحرق المجتمع الفرنسي، أو غولا يلتهم القيم الأخلاقية، ولكن ذلك الغول الكامن داخل “فيكون”، لم يكن يترك فرصة تمر دون أن يطفو على صفحة الواقع.. ففي سنة 1962، وعندما أهلته التلفزة الفرنسية للمشاركة في البرنامج الإخباري الكبير “خمسة أعمدة في الصفحة الأولى”، نطق “فيكون” بما يحفل به عقله، وواجه الرأي العام الفرنسي بحقيقة لا شك أنها كانت ذا تأثير كبير على تصرف “فيكون”، ثلاث سنوات فيما بعد، مع المهدي بنبركة.. فقد سأله الصحفي المستجوب، بيير ديكروب، وهما أمام عدسة الإرسال المباشر قائلا: ((“فيكون”، إذا كانت معنا في هذه الغرفة مائتا مليون، فهل تسرقها؟ فأجاب: وكم عددكم؟ فقال الصحفي: لو كنت وحيدا.. هل تقتلني من أجل أخذ مائتي مليون؟ فسارع فيكون للإجابة: طبعا)).

وعادة، عندما تكون أعين النظارة مركزة على صاحب موضوع جذاب كهذا أمام شاشة التلفزة، تكون أعين ذات اختصاصات معينة، تكتشف في المتكلم العنصر الصالح للقيام بمهام أخرى، فإضافة إلى خبراء مصالح الاستعلامات الفرنسية “سديك”، كانت هناك أعين قادة العصابات ورجال المافيا الذين يكتشفون عنصرا هاما يحظى بتعاطف النظارة، وقد يكون مؤهلا للقيام بأعمال أخرى، ولقد حصل ذلك فعلا.. فمن جهة، أوحت شخصية “فيكون” أمام التلفزة لأحد المخرجين بإنجاز مسلسل يكون عنوانه: “المعتقل” عرض بطولته على “فيكون” إضافة إلى منصب مستشار فني في إدخال لغة المجرمين إلى حوار المسلسل، فقد كان “فيكون” بطلا من أبطال الكلام المشوه، ذلك الكلام الذي لا يفهمه ولا يستعمله إلا كبار المجرمين فيما بينهم، لكن مجموعة أخرى أقرب من صاحب شريط “المعتقل” إلى عالم الإجرام، استقطبت اهتمام “فيكون” ففضل التعاون مع المخرج جورج فرانجو في إنتاج فيلم يخلد حياة الإرهابي الكبير “جواتيا” يكون عنوانه “ليبون كارسون”.. “جواتيا” الذي قرر “فيكون” المساهمة في فيلم يخلد شخصيته، هو رئيس عصابة المخابرات الفرنسية “سديك” التي دبرت محاولة اغتيال الزعيم علال الفاسي، وأخذت العناصر المشبوهة تحيط بـ”فيكون” مصداقا لمقولة: “الطيور على أشكالها تقع”، فأصبح “فيكون” لا يفارق أصدقاءه: “بوشسيش” رجل أوفقير في المنطقة و”لوني” الشرطي الذي أسهم في اختطاف بنبركة، وأصبحت الفكرة الجهنمية تغلي في صحن رهيب، يحركه المحامي “لومارشان”، الذي كان منذ سنوات مضت محامي “فيكون”، ولم يكن يتفضل عليه بالدفاع المجاني والعطاءات وتقصير مدد العقوبات إلا لغاية ما، إذ لا يغرب عن أذهاننا أن السنة كانت سنة 1962، وأن الأفكار التي كانت تخالج أوفقير والمشاكل المتردية في السياسة الداخلية المغربية، والتعاون المكين بين المخابرات المغربية والفرنسية، كلها عناصر جعلت “فيكون” مؤهلا للقيام بدور ما.. فقد تعرف “فيكون” – صدفة – على صحفي فرنسي كان يشتغل في إذاعة الرباط أيام الاستعمار الفرنسي للمغرب، واسمه فيليب بيرنيي، وبذلك تمت التشكيلة، حيث أن بيرنيي ادعى ذات يوم أنه صديق حميم لبنبركة، وهناك نزلت مع نهاية سنة 1964، فكرة الفيلم السينمائي الذي كان بمثابة المصيدة المحبوكة ضد المهدي بنبركة.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى