الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المحامي لومارشان.. بين المضيفات ورجال الإرهاب

الاختطاف والمختطفون "الحلقة 28"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    على خط مواز مع الترتيب لاختطاف المهدي بنبركة، كان “فانفيل” بصدد تنظيم أكبر عملية جاسوسية نظمتها مصلحة “007” الخاضعة للضابط “فانفيل”، في مطار “لوبورجي”، حيث دس بعض المضيفات الفرنسيات العاملات في مكتبه، كموظفات في مكتب شركة “إيروفلوت”، بينما سقط أحد مديري هذه الشركة “بولياكوف”، في غرام إحدى تلك المضيفات، فكانت تسرق منه المفاتيح السرية وتسلمها لضباط المخابرات الفرنسية الذين يدخلون مكتب شركة الطيران السوفياتية، كل مرة بصفة، ليحصلوا على صور للوثائق، ويضعوا أيديهم على أحد أكبر الأجهزة السوفياتية المتخصصة في التجسس العسكري، وشرب “فانفيل” نخب الانتصار يوم 15 فبراير 1963، حينما طردت فرنسا مدير مكتب “إيروفلوت” بتهمة التجسس.

ويكاد ينحصر جانب المتهمين رسميا في قضية اختطاف بنبركة، والذين مثلوا أمام المحاكمتين في هذين الشخصين، إضافة إلى بعض الشهود الذين تباروا في الكذب واستبعاد أي علم بالقضية.

أما المجموعة الكبرى، منفذة الاختطاف أو المساهمة فيه، أو التي لعبت دورا ما في مختلف المراحل، سواء منها مرحلة الاختطاف أو الاغتيال، فإنها هي التي لم تمثل أمام المحكمة، ولم تستدع، أو التي حيل بينها وبين الحضور إما بالهروب أو بالقتل.

وهذه هي اللائحة الطويلة لأبطال هذه المساهمة المظلمة:

المحامي بيير لومارشان :

قد يتطلب الحديث عن هذا المحامي “الباربوز”، أكثر من كتاب، ولو جمع ما كتب في شأنه بفرنسا من كتب ومقالات، لما كفى لجمعها عشرات المجلدات، سبق لمواضيع سالفة أن خصت “لومارشان” بالبيانات المطولة، وكيف أن هذا المحامي، المولود سنة 1926، أصبح الرأس المدبر لجهاز الإرهاب الفرنسي المضاد، سواء للوطنيين المغاربة والجزائريين والتونسيين، أو لرجال المعارضة الذين رفضوا استقلال الجزائر، وخرجوا عن طاعة الدولة الفرنسية، وقد استمد قوته من السلاح والمال، ومن انتخابه نائبا برلمانيا ديغوليا عن مقاطعة “اللييون” ومصاهرته للجنرال دوغول، ولكنه في قضية بنبركة، كان اليد الضاربة التي يحركها وزير الداخلية، روجي فري، والكاتب العام لرئاسة الجمهورية فوكار، انطلاقا من تعاون سابق بين هذه المجموعة في سلسلة أعمال تفوق العد وتتعدى الخيال.

وتنطق قوة “لومارشان” من طول اللائحة التي يتوفر عليها لرجال الإرهاب الذين يخدمونه دون وضع أية شروط، وقد أثبتت كل المحاكمات وكل التصفيات، ارتباط أقطاب الإرهاب بالمحامي “لومارشان”، الذي يعتبر مكتبه ملجئا لكل المتابعين بتهم لا يتسامح فيها القانون، وإذا كنا قد تطرقنا لشخص “لومارشان” في فصول سابقة، ربما يكفي للتعريف بالرجل، فإن دوره في قضية بنبركة كان أساسيا في واجهتين هما بمثابة مفاتيح القضية.. فقد كان دوره الأول إرهابيا، إذ إنه صاحب مشروع الفيلم الذي استعمل كمصيدة للمهدي، وهو الذي اختار الإرهابي “فيكون” ليكون رجل الاتصال، أما الدور الثاني، فكان سياسيا وخطيرا، إذ لعب فيه “لومارشان” دور المصالح الاستعمارية الفرنسية، المخططة إما لتنفيذ مؤامرة كبرى بالمغرب، وإما لتوجيه النظام المغربي بالقوة، نحو تسليم مقاليد الأمور لطغمة المصالح الاستعمارية الفرنسية بعد الاستقلال، ويتلخص الدور الثاني في لائحة الأسئلة التي عثرت عليها الشرطة الفرنسية، والتي كانت موجهة لوضعها على المهدي بنبركة بعد اعتقاله، والتي أثبتت مصالح البحث القضائية في فرنسا، بمقتضى وثيقة شرعية، أنها مكتوبة بخط يد “لومارشان”.

هناك وثيقة من الأهمية بمكان، قرئت أمام المحكمة الفرنسية في جلسة ثامن أكتوبر 1966، بعثها أحد المختطفين الأساسيين للمهدي بنبركة “لوني”، المسمى أيضا “جوليان”، وكان هاربا من أيدي عدالة بلاده، ولكنه اكتفى بإرسال الرسالة الوثيقة، وفيها يقدم عن دور “لومارشان” البيانات التالية: ((أخبرني فيكون في شتنبر 1965، أنه بصدد الإعداد لعملية مربحة جدا، وأنه تقابل مؤخرا مع السياسي المغربي المهدي بنبركة في القاهرة، في إطار التحضير لإنجاز فيلم ضد الاستعمار، يهم شخصيات مثل عبد الناصر وتيتو وكاسترو، وأن هذا الفيلم هو حيلة لتنظيم مقابلة سياسية بين بنبركة ومجموعة من السياسيين المغاربة، وعندما أدركت أهمية المشروع، وأعربت عن استعدادي للإسهام فيه، أخذني فيكون عند المحامي “لومارشان” في بيته خارج المدينة، وقد أعطاني لومارشان قبل توديعه، شبه كلمة سر، تؤكد دور الحكومة والدوائر العليا، وهي كلمة “بوتي جان”. وعرفت أن “بوتي جان” هو الشخص الرئيس المنظم للعملية)).

وإشارة المجرم “لوني” في رسالته إلى اسم “بوتي جان”، تعني بكل وضوحالاسم السري لمدير الأمن “جان كاي”، مدير الأمن السري، وأمين سر وزير الداخلية “روجي فري”، أطلق عليه العاملون في المخابرات الفرنسية اسم “بوتي جان”،لأنه ألف عدة روايات بوليسية تحت اسم “بوتي جان”، ولم يكن الإرهابي “لوني” المعروف أيضا باسم “جوليان”، هو الوحيد الذي فضح الدور الحاسم للمحامي “لومارشان” في تنظيم الاختطاف، وفي جمع الإرهابيين وتعريفه ببعضهم، وفي التكلم خلال كل الاجتماعات باسم المسؤولين الكبار، فكل من لهم ارتباط من قريب أو بعيد، بالإجرام والإرهاب، أو من أسهموا في تصفية الوطنيين المغاربة أو التونسيين أو الجزائريين، أو من كانوا أعضاء في مجموعة “ساك” أو “الباربوز” أو “الترووان”، يعرفون أن “لومارشان” تعامل منذ الخمسينات مع “روجي فري” ومع “فوكار”، اللذين أصبحا فيما بعد، وخلال حكم الجنرال دوغول، صاحبي الأمر والنهي في عهد الجمهورية الخامسة، وطبيعي أن يتحدث “لومارشان” عن مدير الاستعلامات التابعة لإدارة الأمن الفرنسي مستعملا تسمية “بوتي جان”، لأن الرجلين عملا تحت إمرة “روجي فري” في محاربة ما كانوا يسمونه بالإرهاب سنة 1952.

ولكن دهاء المحامي “لومارشان” وطول باعه، وكل الإمكانيات المتوفرة لديه، والتي جعلت منه شخصا أقرب لأي مسؤول، كلها عناصر تحطمت أمام مناورات عملية “فيكون”، الذي فاجأ “لومارشان” بتحول كبير، وأصبحت مشكلة المحامي “لومارشان” الذي استدعي للشهادة، هي إخفاء “فيكون” عن الأنظار وعن المحكمة، وهو الحدث الذي شغل الرأي العام الفرنسي بنفس الشكل الذي شغل به أثناء اختطاف بنبركة، ذلك أن “لومارشان” أنكر أن يكون له أي اتصال بالإرهابي “فيكون” ولو حضر “فيكون” للمحكمة لصرح بخلاف ما يدعيه “لومارشان”، لذلك كان من الواجب إخفاء “فيكون” وإلى الأبد.

كان “لومارشان” الرئيس الآخر للمجموعة الثانية التي كانت تستقطب شخص المهدي بنبركة، للسقوط في فخ الفيلم السينمائي، وفي تنفيذه لهذه المهمة، لم يكن “لومارشان” يثق في أحد، فقد كان يشرف مباشرة على كل التحركات، مع محافظته على البقاء في الظل.. فعندما ضرب الصحفي “بيرنيي” والمخرج “فرانجو” والإرهابي “فيكون” موعدا للاجتماع بالمهدي بنبركة في جنيف، واستقلوا الطائرة جميعا يوم 20 شتنبر 1965، من باريس إلى جنيف، كان “لومارشان” راكبا بالدرجة الأولى من نفس الطائرة، مرفوقا بالطرف الآخر المعني باختطاف المهدي بنبركة، وهو الطرف الثالث، إذا كان القارئ والقارئة الكريمان، ممسكين معي برأس الخيط، متذكرين للطرفين الأولين (كما ورد في الحلقات السابقة)، أما الطرف الثالث الذي كان على ارتباط مع “لومارشان” متتبعا لسير الأحداث معه، راكبا معه في الطائرة المتوجهة إلى جنيف، لتتبع الاجتماع مع المهدي بنبركة، فهو الطرف الإسرائيلي،وسيرد الحديث عن هذا الطرف في فصل قادم (ضمن ركن الحقيقة الضائعة)، وبعد الوصول إلى جنيف، اجتمع الصحفي “بيرنيي” بالمهدي بنبركة في الغذاء، واجتمع به “فيكون” في المساء، بينما لم يظهر “لومارشان” ولا الطرف الإسرائيلي المرافق له.

 

يتبع

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى