الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | العمود الفقري لعملية اختطاف بنبركة

الاختطاف والمختطفون "الحلقة 27"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    ذات يوم من شهر أكتوبر 1965، ربما كان اليوم السادس، شاهد “لوبيز” أن الرئيس الكبير للعصابة “لومارشان”، سافر إلى جنيف، وعرف من المجموعة المرافقة له أنه سيتقابل مع المهدي بنبركة لتنفيذ مشروع الفيلم، فتلقى “لوبيز” الأمر من رؤسائه في المخابرات، ليلتحق بالمجموعة في جنيف، إلا أنه فوجئ بالمجموعة تخبره بأن بنبركة قد سافر إلى تانزانيا، ثم إلى جاكارتا، فعاد “لوبيز” إلى باريس ليخبر رئيسه “فانفيل” بذلك، فقدم “فانفيل” تقريرا لإدارته العامة، أكد فيه أن ((مشروع الاتصال ببنبركة عن طريق لوبيز قد فشل، وربما التحق بنبركة في هذه الأيام بالرباط)).

ودخل الجميع في حلقة مفرغة، أصحاب مشروع الفيلم يتصورون أن “لوبيز” هو المكلف بتنفيذ العملية السرية، و”لوبيز” يتصور أن أصحاب الفيلم هم أصحاب المشروع، وأن أوفقير يضحك على الجميع، لذلك سارع الإرهابي “فيكون” إلى مطار “أورلي” يوم عاشر أكتوبر، ليلتقي بـ”لوبيز” – حسبما ذكره لوبيز أمام المحكمة، وفي كتابه الذي أصدره عن قضية بنبركة – ليفجر الفضيحة، ويقول له: ((اسمع، لقد وعدنا أوفقير بمائة مليون، فلا تحاول أن تنفرد بها لشخصك فقط، وإلا فسنفجر القضية))، وكان هذا أول فصل ذي أثر كبير على الاتجاه الذي أخذته قضية بنبركة، وأضاف “فيكون”: ((أريد الآن أن تقول لأصحابك المغاربة، أن يدفعوا لي حالا عشرين مليونا لتعويضي عما خسرته من مصاريف، وثلاثين مليونا مقدما قبل تنفيذ العملية، وإلا فإنني سأخبر الصحف)).

فلنتصور إلى أي حد بلغت الفضيحة درجة الانفجار دون أن تستطيع أي واحدة من أجهزة المخابرات العالمية الأخرى اكتشافها، أو تحذير المهدي بنبركة من الاستمرار في الغوص في اتصالاته مع مخططيها، وكان “فيكون” بتهديده لـ”لوبيز” قد ارتكب غلطا فادحا لم تسمح به أجهزة المخابرات التي كانت ماضية في التخطيط للاختطاف، ولم يذكر “لوبيز” للمحكمة كيف وصلته الأوامر لتنفيذ مخطط يوم 29 أكتوبر، إلا أنه تلفن لمدير أحد مراكز الشرطة، “لوي سوشون”، وطلب منه المشاركة في ((اعتقال أحد السياسيين المغاربة الخطرين، ونقله إلى أحد البيوت في ضواحي باريس، للالتقاء مع بعض المسؤولين المغاربة))، ولما سأله “سوشون” عن التغطية القانونية، قال له “لوبيز”: ((إنها قضية عليا، وأنا وأنت مدعومان من الألف إلى الياء))، كما أنه إمعانا في إقناع صديقه “سوشون”، الذي كان يعمل مع المخابرات الأمريكية في نفس الوقت لمحاربة المخدرات، فقد قال له: ((وبالمناسبة، فإن هذه القضية ستوصلنا إلى شبكة خطيرة للمخدرات)).. “لوبيز” نفسه اتصل بشرطي آخر، هو “روجي فواتو”، وطلب منه مرافقته في مهمة مستعجلة دون أن يعطيه أي تفاصيل.

أما الشرطي “سوشون”، فقد كان من الحنكة والحيطة لدرجة اتصل فيها بمدير ديوان وزير الداخلية “روجي فري”، الروح المخطط للقضية والصديق الحميم لأوفقير، وطلب “سوشون” التحدث إلى مدير ديوان الوزير أوبير، وبأسلوب جد مدروس، أخبر أوبير الشرطي “سوشون” بأنه على علم بالمشروع، وكيف لا وأوبير هذا من قدماء حملة السياط الذين جلدوا الثورة الجزائرية، ويحملون عداء كبيرا للمغاربة، فقد كان قبل استقلال الجزائر بسنة، مديرا للأمن الفرنسي بالجزائر العاصمة، وكان على اتصال بمجموعة الإرهابيين الفرنسيين الذين كانوا يحاربون على واجهتين، واجهة الوطنيين الجزائريين، وواجهة المعارضين الفرنسيين لدوغول، والذين كانت تجمعهم الدار التي كانت تسمى “فيلا أندريا”، التي سبق الحديث عنها وعن نسفها.

وهكذا أكد “لوبيز” للمحكمة، أنه كان يقوم بتنفيذ أوامر عليا، ولكنه من باب الاحتياط، اضطر ساعة اختطاف المهدي بنبركة إلى تشويه معالم وجهه، وإلصاق شنبات اصطناعية، قبل أن يجلس على سطح مقهى “ليب” بشارع “سان جيرمان”، ليشرف كرئيس جوقة على تنفيذ العملية وإصدار الأوامر إلى رجال الشرطة الذين أحضرهم، وكان فعلا رئيسا لجوقة متقنا لدوره، حتى أن الشرطي “سوشون” جاء يشتكي من تأخر وصول المهدي بنبركة، فطمأنه “لوبيز” بقوله: ((لا تخف.. إن المهدي معروف، فإنه لا يحضر أبدا في الوقت المحدد))، وهكذا يظهر أن الأيادي المخططة للاختطاف استعملت كل الأطراف، سواء الرسمية أو غير الرسمية، وسيأتي كيف أن المجموعة التي جعلت من مشروع الفيلم مصيدة للمهدي بنبركة، هي التي ضربت له موعدا في “براسري ليب” في الساعة الثانية عشر، بينما جاءت مجموعة “لوبيز” لانتظاره واختطافه قبل الموعد المحدد.

ولقد ركب “لوبيز” في السيارة “البيجو 403” التي ركبها المهدي، وذهب معه إلى بيت الإرهابي “بوشسيش” في “فونتوني لوفيكونت”، وبعد تسليم المهدي بنبركة لبوشسيش، قال له “لوبيز” – حسب شهادة الشرطي فواتو الموجهة للمحكمة – ((ما عليك إلا أن تطمئنه، قل له إننا أخذناه إلى هنا حماية له من عملية اغتيال كانت مدبرة ضده)).

 

لوروا فانفيل.. المسؤول في أجهزة المخابرات الفرنسية (سديك)

    مارسيل لوروا، ولقبه المهني السري “فانفيل”، ضابط ومدير مركز الأبحاث بالمنظمة الفرنسية للجاسوسية (سديك)، فهو إذن العمود الفقري في عملية اختطاف المهدي بنبركة، تحمل مسؤولية خطيرة تقتضي العزل بين المهمة والفضيحة، فقد كان يكتفي بالاستماع إلى “لوبيز” بصفته عنصره المباشر العامل بتعاون مع أوفقير وباتصال مع رجال الشرطة، وتبليغ ما يسمعه للرؤساء الكبار، إلا أن “فانفيل” وجد نفسه، بعد الفضيحة، أمام جدار من التنكر والإنكار، مسحت فيه الأجهزة الفرنسية كل المسؤوليات، فبقي وحده معرضا للاتهام، مما عرضه للاعتقال بتهمة عدم التبليغ لرؤسائه، ولكن الاتصالات السرية جعلته يتمتع بالسراح المؤقت طوال فترة المحاكمتين، إلى أن برئت ساحته في الأخير، ولكن “فانفيل” لم يدرك هذه الدرجة العالية من المسؤولية في جهاز المخابرات بناء على حسن سيرته أو شهاداته المدرسية، فقد أسهم في الحرب المعلنة ضد الوطنيين المغاربة والجزائريين، وارتبط اسمه بنسف باخرة “بروخا روخا” التي كانت محملة بالسلاح للثورة الجزائرية في يوليوز 1957، وعند وصولها لمضيق طنجة، تطايرت أطرافها في الفضاء، بعد أن كان “فانفيل” قد كلف بهذه المهمة في إطار الحرب المعلنة ضد شمال إفريقيا، وإضافة إلى أن “فانفيل” هو صاحب التسمية التي شاع استعمالها في الأفلام البوليسية “007”، فإن مصلحته كانت معروفة بهذا الاسم، وإضافة إلى تكوينه البوليسي الكبير، فإنه استطاع أن يخرج من بين قضبان السجن كالشعرة من العجين، وذلك بفضل كشفه عن حقيقة من الخطورة بمكان، وهي أنه نبه رؤساءه كتابة وقبل ستة شهور، بأن محاولة بصدد التدبير لاختطاف المهدي بنبركة، وقدم للمحكمة نص التقارير التي كتبها والتي تتضمن الفقرة التالية: ((أقسم على الشرف بأني لم أعلم عن اختطاف المهدي بنبركة إلا ما عرفني به العميل لوبيز، وقد قدمت بهذا الشأن مذكرات رسمية، الأولى مؤرخة بـ 19 مايو 1965، والثانية مؤرخة بـ 22 شتنبر 1965))، وبذلك وضع صخرة الاتهام الصريح على أكتاف رئيسه المباشر، الجنرال “جاكيي”، الذي لم يمكن له أن يتخلص من تبعة المشاركة في الجريمة بالسكوت عنها مدة ستة أشهر، ولكن المحكمة لم تستعجل لتبرئة ساحة “فانفيل” حينما طلبت ملفه من جهاز آخر، هو جهاز حماية التراب الفرنسي (د. س. ت)، فوجدت مكتوبا على الصفحة الأولى من ملف الضابط “فانفيل”: ((عنصر لا يوثق به، متعود على تنظيم الضربات الكبرى))، ومن أشهر الضربات المعروفة عن “فانفيل”، تلك التي وجهها للاتحاد السوفياتي.. فقد كان متخصصا في محاربة النفوذ السوفياتي، وبالتالي، كان له هو أيضا حساب مع المهدي بنبركة، الرجل الذي كان يحضّر لتوحيد القارات الثلاث في كوبا، بدعم من الاتحاد السوفياتي.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى