الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | أسرار الخلاف بين أوفقير والدليمي

الاختطاف والمختطفون "الحلقة 24"

تنشر لأول مرة

قضية المهدي بنبركة بقيت سرّاً غامضاً رغم انقراض ما يقارب ستة عقود على اختفاء هذا السياسي الكبير، ولكن اختطاف بعض المسؤولين المباشرين، أسهم في إرسال بعض الأضواء على جوانب مظلمة، مما كشف عن نوعية أجواء(…) القضية التي بقيت ماثلة كالطود، من جيل الستينات إلى اليوم.

والسلسلة التي تنشرها لكم “الأسبوع” اليوم وبشكل حصري، مُستخرجة من أوراق تركها مؤسس جريدتنا مصطفى العلوي، في خزانته الغنية، وهو الذي عاش ما قبل الاختطاف، وعايش ظروفه، وتعايش مع الأحداث التي أحاطت به، وجمع على مدى 60 سنة، ما يكفي من البيانات والصور، والوثائق والمراجع، وهي الأوراق نفسها التي نقدمها لكم وللتاريخ، ضمن حلقات “الحقيقة الضائعة”.

بقلم: مصطفى العلوي

    هناك جزئية لم تظهر على صفحة الأحداث، ولكن تكشفها الجلسات الطويلة للمحاكمتين، وهي الخلاف الكبير الذي كان بين الدليمي وأوفقير، فلم يكن الرجلان يتفقان على شيء ما في حياتهما، بل كانت علاقتهما عبارة عن صراع طويل، لم ينهه إلا موتهما معا.

وإضافة إلى النظرة المختلفة للرجلين تجاه التطورات السياسية الداخلية، فإنه لم يكن يجمعهما إلا الولاء لولي نعمتهما، والذين عايشوا الرجلين طويلا، وعرفوا أساليبهما ومعاملاتهما، كانوا يعرفون عمق الصراع والتنافس بين الرجلين، وتجاه المعارضة المغربية على الخصوص، كان موقف أوفقير مبنيا على التنكيل والمحاربة، بينما كانت علاقات الدليمي مع المعارضة منطلقة من إصلاح ما يهدمه أوفقير، ثم إن أوفقير كان، باعتراف جميع أجهزة الحكومة الفرنسية، عميلا للمخابرات الفرنسية “سديك” منفذا لأوامرها، بينما ليس هناك تشكك في أن الدليمي كان على ارتباط وطيد بالمخابرات الأمريكية “سي. آي. إي”، ولم تكن علاقة الرجلين أكثر فرقا عما كانت عليه علاقة المنظمتين، كما أن تصرف الدليمي وقراره تسليم نفسه للعدالة الفرنسية بعد وصوله لمطار “أورلي” في فجر يوم 18 أكتوبر 1966، كان صفعة كبرى وجهها الدليمي لأوفقير، وعلامة أخرى في سجل الصراع الطويل بين الرجلين لا يضاهيها إلا عنف الصدمة التي تعرض لها أوفقير عندما صدر الحكم ببراءة الدليمي يوم 5 جوان 1967، والحكم بالسجن المؤبد على أوفقير وإدانته، ولو ثبت للمحكمة أن الأمر تعلق بموت بنبركة، حيث إنه قانونا لم يمت بعد، لكان الحكم على أوفقير قد كان حكما بالإعدام.

لقد كان عنف الصدمة التي تعرض لها أوفقير باديا، عندما لم يتورع عن ضرب “البوينغ” الملكية يوم 16 غشت 1972، وكان الدليمي أحد ركابها.

صراع بين الرجلين، ربما كان يكتسي في قضية بنبركة سباقا بينهما، ولربما كان سفر الدليمي لاستطلاع ما يفعله أوفقير في باريس، أو للتجسس عليه، وربما لضمان استمرار الاتصال بين بنبركة والقصر.

كثيرة هي الأحداث التي لا تتراءى جلية واضحة إلا بعد استقرار الظروف المحيطة بها، وكثيرة هي أيضا التصريحات التي لا يظهر مغزاها إلا بعد انفصالها عن الظروف التي أدليت فيها، من ذلك هذا التصريح الهام للدليمي، أدلى به في 19 أكتوبر 1966، لجريدة “الحياة” اللبنانية، أي قبل أن يسلم نفسه للعدالة الفرنسية، ولكنه تصريح مليء بالمفارقات والألغاز. يقول فيه: ((لقد كنا ننتظر رجوع المهدي بنبركة إلى المغرب وربط الاتصال معه، ولكننا فوجئنا في باريس باختطافه، وأكيد أن الذين اختطفوه كانوا على علم بالاتصالات الجارية معه لتأمين رجوعه للمغرب.. ولقد توجهت إلى باريس بناء على موعد رسمي للاتصال بخاطفي بنبركة، الذين اتصلوا بنا وأكدوا لنا أن المهدي بين أيديهم، ولكنهم مستعدون لتسليمه في المغرب فقط، مقابل قدر مالي مرتفع. وحيث إنني لم أكن أتوفر على القدر المطلوب، فقد قلت لهم بأننا مستعدون لدفع المال بمجرد وصول بنبركة إلى المغرب حيا وفي أحسن الظروف، وبذلك اكتشفنا أن الأمر يتعلق باختطاف يستهدف المساومة، وأننا كنا ضحية عملية اختطاف إجرامي يستهدف مقايضة المهدي بنبركة)).

إن هذا التصريح لكفيل وحده بأن يفتح آفاقا واسعة من الاحتمالات.. فهو من جهة يرسل أضواء كاشفة على مهمة الدليمي في باريس، ومن جهة أخرى، يثبت انعدام التنسيق بين أوفقير والدليمي، إلا أن الذي حدث، هو أن الرجلين كانا ضحية عملية مزايدة ومقايضة، كان أوفقير نفسه ضحية لها، وعندما نصل لتفصيل المسؤوليات على الصعيد الفرنسي، سنجد الكثير من البيانات التي تثبت كيف أن المجموعة الفرنسية لعبت على أوفقير وعلى الدليمي، ودخلت في عملية مقايضة الشخص المختطف مقابل دفع مقادير ضخمة من الملايين، وإما الفضيحة العالمية التي ستشوه سمعة المغرب، وكانت الصحف الفرنسية فعلا في تلك الأثناء تمارس هذه الضغوط بدون علم منها، وتسهم في عملية المزايدة دون أن تحصل على مقابل إلا نهم الرأي العام الفرنسي والدولي.

إن ما سيأتي من بيانات، سيظهر كيف أن المهدي بنبركة انتقل من يد إلى يد، ومن مجموعة إلى مجموعة، في إطار انتظار الحصول على أموال مقابل تسليمه، وقد بلغت في بعض الأحيان نصف مليار من السنتيم، وفي فبراير 1966، كتبت الصحفية اليهودية الفرنسية، الواسعة الاطلاع، والمهتمة بشؤون المغرب، “جوزيت أليا” في مجلة “نوفيل أوبسيرفاتور” عدد 2 فبراير: إن الوزير السابق بيير جولي، الذي كان وزيرا للشؤون المغربية والتونسية، صرح لها بأن ((أوفقير سقط في الفخ، في مصيدة نصبها له الإرهابيون الذين كان على اتصال بهم))، كما روت الصحفية أن رجل الأعمال الفرنسي كلوسترمان، الذي كان صديقا للملك المغربي، ومعروفا من طرف الأوساط السياسية المغربية، وصديقا للمهدي بنبركة، صرح لها بأنه تقابل مع أوفقير، الذي اعترف له قائلا: ((لقد ضحكوا علي)).

ضحك خطير، ذهب ضحيته أحد السياسيين المغاربة الكبار، ولكنه كان فرصة ومحكا لاختيار خاطئ، دفع فيه المغرب وسمعته ثمنا باهظا، وقد كان الخطأ المغربي فادحا، سواء من حيث الحرص على سمعة وزير داخليته آنذاك، أوفقير، أو من حيث لجوء أوفقير إلى أخطر وأوسخ وسط في فرنسا، ذلك الوسط الذي يعتبر القتل والمساومة مقياس التعامل، وكان الخطأ فادحا أيضا من طرف المهدي بنبركة، حينما قبل الاتصال والتعامل مع مجموعة الإرهابيين الفرنسيين، وعقد جلسات عمل مطولة مع “فيكون”، السفاح الإرهابي المجنون، العميل للمخابرات، والذي كانت الصحف الفرنسية تغطي كل أنشطته ولا تبخل عليه التلفزة الفرنسية بشاشتها، في الوقت الذي كان يمهد فيه لـ”إنجاز فيلم مربح مع بنبركة”.

من الجانب الفرنسي:

لا مغالاة ولا مبالغة في اعتبار الدور الفرنسي في قضية اختطاف المهدي بنبركة أساسيا، وليست هناك أي مقارنة بينه وبين الدور الذي قامت به أية أياد أخرى.

فقد تكاثفت الأيدي والجهود، على اختلاف مشاربها واتجاهاتها، مدفوع بعضها بالوازع المصلحي المادي، والبعض الآخر بالروح الاستعمارية الرافضة لكل شكل من أشكال الانطلاق السياسي والإصلاحي في المغرب المستقل، وبعض آخر، مدفوع بحكم اعتبار الاختطاف مرحلة من مراحل إعادة إقرار النفوذ الفرنسي في المغرب، وربما الرجوع الفرنسي إلى المغرب، بينما لم يكن اختطاف المهدي بنبركة واغتياله، بالنسبة للطرف الأكبر، إلا أولئك العرب المغاربة الذين كان الفرنسيون أيام الاحتلال للمغرب، يكتبون في شأنهم على أبواب عماراتهم: “ممنوع على المغاربة والكلاب”.

واجتمعت الدوافع والخلفيات التي تربط هذه العناصر الفرنسية كلها في وثيقة واحدة، بقيت مكتوبة للتاريخ، شاهدة على الروح المهيمنة على الفرنسيين تجاه المغرب، وتجاه المهدي بنبركة، وهي الوثيقة التي عثر عليها صدفة وأدرجت في ملفات المحكمة، عبارة عن الأسئلة التي حضرتها المخابرات الفرنسية، بخط أحد أعمدتها “لومارشان”، والتي كان مفروضا استخراج الأجوبة عنها من فم المهدي بنبركة، وسيأتي الحديث عنها وعن جزئياتها في فصول قادمة.

أما المسؤولية الفرنسية، فليست مجرد تعبير أو اتهام، ولا تغطية لأطراف أخرى، فقد كتب عنها كل ذوي الضمائر الحية من الفرنسيين، وكل المعلقين والصحفيين، ما يكفي لإثبات الإدانة في حق فرنسا.. حتى الجنرال دوغول، أحد كبار الرجال الذين عرفهم التاريخ الفرنسي، وأحد أقطاب الدهاء والسياسة في التاريخ العالمي المعاصر، تجمد الكلام في فمه عندما فاجأه أحد الصحفيين يوما بسؤال محرج عن قضية المهدي بنبركة.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى