تحليل إخباري | الدبلوماسية والصحافة المغربية في قلب الصراع مع الصهيونية
من دروس مصطفى العلوي حول إسرائيل

دار الزمن دورته القاهرة للأشخاص والمواقف، وفي عز الارتكان إلى الهدوء الذي يسبق العاصفة، وهي حالة تشبه إلى حد كبير عملية للسلام المفخخ(..)، انطلقت يوم السبت الماضي في غفلة من الجميع، عملية “طوفان الأقصى”، ليستيقظ العالم على وقع مشاهد مرعبة كانت المستوطنات الإسرائيلية مسرحا لها، بحيث أدت غارات “كتائب القسام” التابعة لحركة حماس، إلى مقتل ما يناهز 1200 شخص بالإضافة إلى آلاف المصابين، باعتراف رسمي.. وقد شكل هذا الحادث منطلقا لعمليات “عقاب جماعي” للفلسطينيين، عن طريق القصف المكثف للسكان وقطع الإمدادات والماء والكهرباء عنهم..
إعداد: سعيد الريحاني
لكل زمن رجالاته (والمقصود هنا المواقف)، ورجال الصحافة المغربية في هذا الزمن توزعوا بين من يقول “كلنا فلسطينيون” وبين من يقول “كلنا إسرائيليون”.. وبين هذا وذاك يظل اتخاذ موقف مما يحدث من أصعب المواقف التي تفرض نفسها، وبأي ثمن(..)، وقد انتصر القرار الرسمي المغربي لفعل المقاومة الفلسطينية متجنبا “إدانة حركة حماس”، وهو المطلب الذي تتزعمه أمريكا، عبر العالم.
بكل اختصار، أكد وزير الشؤون الخارجية المغربي، في اجتماع لمجلس جامعة الدول العربية، على ((تشبث المملكة المغربية، بقيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس، بالسلام العادل والشامل المستند إلى قرارات الشرعية الدولية، باعتباره خيارا استراتيجيا لا محيد عنه))، ورغم الاتفاق الثلاثي مع أمريكا، والخطر المتربص بالقضية الوطنية الأولى للمغاربة، فقد قال ناصر بوريطة: ((إن المغرب متمسك بالدعم الكامل والثابت لدولة فلسطين ولسلطتها الوطنية الشرعية، بقيادة الرئيس محمود عباس أبو مازن، للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وتحقيق تطلعاته في الحرية والاستقلال والعيش الكريم))، وأضاف بجرأة لم يبلغها أي أحد من الحاضرين في الاجتماع المذكور: ((لا يمكن بأي حال فصل ما حدث عن الأسباب الجذرية التي شكلت وما زالت عاملا رئيسيا في انفجار الوضع، بما في ذلك انسداد الأفق السياسي للقضية الفلسطينية، واستمرار الانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة والإجراءات الأحادية الجائرة في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة)).
هي إدانة مغربية رسمية من طرف المغرب لإسرائيل، على رؤوس الأشهاد، ما يعني أن الدبلوماسية المغربية حافظت على تقاليد عريقة في تناول قضية فلسطين، ومنها التحرك عبر الجامعة العربية، والانتصار دائما لصالح القضية الفلسطينية..
في الصحافة المغربية، تراوحت المواقف بين منتصر لحركة حماس ومنتصر لإسرائيل، ومبتعد عن الصداع(..)، لكن الأمر لم يكن كذلك حتى الأمس القريب، فـ((بصفتي رئيس تحرير جريدة “الفجر”، كنت قد كتبت في 16 يناير 1961(…)، مقالا جعلني في قلب الصراع العربي الصهيوني، بعد إثارته لمشكلة التغلغل الصهيوني في المغرب، وإشكالية هجرة اليهود المغاربة نحو إسرائيل في تلك الظروف التي كانت فيها الشوارع تغلي طلبا للكرامة(…) بالتزامن مع قضية الباخرة التي طوحت بها عاصفة هوجاء في عرض البحر، وكانت تحمل على ظهرها جماعة من اليهود المغاربة.. والنشاط الصهيوني في المغرب يتجسم في الدار البيضاء، والمنظمات الصهيونية الموجودة هناك، والصهيونيون من اليهود المغاربة في مأمن من السلطة، والمتابعة والمطاردة.. فهل نوعز ذلك إلى تقصير الدوائر المسؤولة، التي كان من حقها أن تجند طاقاتها الضائعة لتقطع دابر الصهيونية في المغرب وتطهر أرضنا من رجسها، وتعمل على حراسة حدودنا، وتطويق بحارنا، ومراقبة مطاراتنا، أم نلصق التهمة باليهود المغاربة الذين لم يراعوا حقوق المواطنة، والجنسية، ولم يحترموا واجبات المواطن الملقاة على عاتقهم، أم نلقي التبعة على الشعب المسكين الذي يتطلع في لهفة إلى كسرة الخبز.. وقطعة السكر؟ نحن هنا نتساءل قائلين من هو المسؤول عن تغلغل النشاط الصهيوني في أراضينا وإفساح الطريق له إلى بلادنا؟ ولماذا غضضنا الطرف عنه إلى اليوم كما غضضنا الطرف من قبل عن كثير من المخازي والهينات؟ فنحن لا نتحامل هنا على أحد باسم العاطفة، وإنما باسم الوطنية الخالصة، يحدونا نداء الوطن المقدس)).

المقال المذكور، ورئيس التحرير الذي كتب هذا الكلام سنة 1961، لم يكن سوى القيدوم الراحل مصطفى العلوي، فـ((هذا المقال كان بالنسبة للأجهزة الصهيونية، القشة التي قصمت ظهر البعير، فبصرف النظر عن أن هذا المقال صدر في جريدتي عدد 16 يناير 1961، وبصرف النظر عن أنه ليس افتتاحية رسمية للجريدة، فإن هذا المقال حملني شخصيا إلى عالم الصراع الصهيوني العربي، وحمل جريدة “لوموند” الفرنسية إلى خوض المعركة نيابة عن إسرائيل ضد جريدة “الفجر” التي كنت رئيس تحريرها)).
تصوروا نتيجة مقال من هذا النوع، حيث وجد مصطفى العلوي نفسه في صراع مفتوح مع الصهيونية العالمية، وكما يسمي نفسه، فقد كان “مغضوبا عليه” من طرف هذه الحركة، حيث ((إني لم أكن أتصور أن تلك الفقرات ستعطي لحياتي مسارا جديدا، وتصنفني في إطار المغضوب عليهم من طرف الصهيونية العالمية وعملائها المتواجدين في كل مواقع المسؤولية في كل أنحاء العالم))، يقول مصطفى العلوي.
يوم 18 يناير 1961، كتبت “لوموند” الفرنسية، المقال التالي: ((إن غرق الباخرة “بيسيس” وموت أربعين من المهاجرين الإسرائيليين المغاربة كانوا يحاولون الوصول إلى جبل طارق، قد ركز الاهتمام على وضعية يهود المغرب، وعلى الأخطار التي يتحملها عدد كبير منهم من أجل الإفلات من الملاحقات التي لم يبقوا قادرين على قبولها، وبصفة متوالية، يحاول عدد من المجموعات المصرة على مغادرة بلادها، فيركبون أي سفينة من ميناء سبتة أو مليلية، وفي بعض المرات طنجة، إذا ما سمحت الظروف بذلك، منذ أن ألغي القانون الدولي لطنجة، ومن هناك يلتحقون بميناء أوروبي، جبل طارق، أو مرسيليا، قبل أن يتم نقلهم إلى إسرائيل “أرض الميعاد”.. كل هذا بثمن يعادل وزنه ذهبا، لأن مسالك الهروب سرية، مما يسمح لبعض السماسرة المنعدمي الضمائر، بممارسة كل أنواع الضغوط والمبالغات.. في الحقيقة، لم نجد قانونا مغربيا يحرم الهجرة، ويقول المغاربة أنهم يمنعون بعض رعاياهم من مغادرة التراب الوطني، لأن كثيرا منهم – بصرف النظر عن كونهم مسلمين أو يهود – لا يجدون وسائل للعيش في الخارج، فتضطر الحكومة المغربية لإرجاعهم على نفقتها إلى المغرب، وقد رجع عدد من اليهود بعد وصولهم إلى إسرائيل، وعدم رضاهم على طريقة الحياة هناك.. هذا ما يقوله المسؤولون المغاربة.. فما هو جانب الصحة في هذه الادعاءات المغربية؟)).
هكذا تحدثت “لوموند” الفرنسية وهي تحاول تغطية عملية “ياخين” التي عرفت بأنها عملية لتهريب اليهود من المغرب، رغم أن المؤتمر اليهودي المعقود في إسرائيل في بداية شهر يناير 1961، تدارس قضية المعاملة القاسية التي يعانيها اليهود المغاربة في إسرائيل.. وهذه الهجرة السرية دائما يمكن تقديرها بألفي مهاجر سنويا، وهي تتزايد كلما تزايدت مظاهر التقارب المغربي مع الدول العربية..)) (المصدر: كتابات مصطفى العلوي).

لماذا كان مصطفى العلوي مدرجا ضمن قائمة “خصوم الصهيونية”؟ الجواب سهل: لأنه كان يفضح عملياتها في المغرب.. فقد ((اقترنت عملية مغادرة حوالي عشرين ألف يهودي سنة 1956، بهروب رؤوس الأموال الفرنسية، وكانت الحكومة المغربية الناشئة عاجزة عن منع الفرنسيين من تهريب أموالهم، فقررت تسليط منعها على اليهود)).
يقول الراحل مصطفى العلوي: ((سايرت عملية تهريب رؤوس الأموال خطوات الهاربين، مما جعل الحكومة المغربية مدفوعة للتعرض على الهجرة، في محاولة لوقف النزيف المالي أكثر من مراعاتها لاتخاذ موقف سياسي تجاه إسرائيل)).. ويقدر عدد اليهود في المغرب غداة الاستقلال، بمائتي ألف، فيهم صناع صغار يعيشون في ضنك وضيق داخل ملاحاتهم، لكن هناك بورجوازية يهودية استطاعت فرض وجودها بفضل الحظوظ التي مكنتها منها الحماية الفرنسية، وهكذا أصبح لعدد من اليهود الحق في الترقي في مدارج عليا إدارية وعسكرية، وخصوصا تقنية، حتى أن الملك قرر في بداية الاستقلال، المناداة على وزير إسرائيلي، طبيب جراح ناجح وسياسي مرموق معتدل، الدكتور بنزاكين.. لكن هذه السياسة تعرضت للكثير من المصاعب أولا، لأنها لم تلق قبولا غير مشروط من طرف النخبة الإسرائيلية التي رأت في عملية الإدماج هاته، قضاء على الهياكل اليهودية القائمة بذاتها، وثانيا، لأنها لم تجرد البلاد كلها من الحساسيات.. ثم إن التوجهات المغربية نحو الجامعة العربية منذ انعقاد قمة الجامعة العربية في الدار البيضاء خلال شهر شتنبر 1965، ألقت غيوم الخيبة على آمال اليهود في المغرب، حتى المعتدلين منهم.. وعملية “ياخين” وكل الترتيبات التي تمت لتهجير يهود المغرب بكل الوسائل، والتي كان أقطاب اليهود المغاربة في صحيفة “صوت الجماعات” يتسترون عليها ويتمترسون خلف شعارات التنكيل والخوف والبكاء والوفاء للمغرب، ويحتمون بالرأي العام العالمي الذي يقدمون له أنفسهم كضحايا لتشكيل ستار عازل يحجب الحقيقة عن الأنظار، هذه العملية فضحتها غولدا مائير، رئيسة الحكومة الإسرائيلية سنة 1971، حينما صرحت بالحقيقة أثناء اجتماعها بوفد من اليهود المغاربة يوم 13 أبريل، وأذيع المحضر على الصحافة الإسرائيلية، ونشره الكاتب الإسرائيلي موني الكاييم في كتاب “الفهود السود في إسرائيل”، من إصدار مؤسسة “ماسبيرو” بباريس، حيث قالت رئيسة الحكومة الإسرائيلية: ((إن المهاجرين اليهود جاؤوا من المعسكرات الأوروبية، وجاؤوا من شمال إفريقيا، وإن لي رفاقا خاطروا بحياتهم لتسهيل إخراج اليهود من المغرب، ونقلهم من جبال الأطلس وتجميعهم وإخراجهم سريا وإيصالهم لأرض إسرائيل)) (المصدر: كتابات مصطفى العلوي).
من أيام مصطفى العلوي إلى اليوم، مرورا بحرب 6 أكتوبر، التي كان الصحفي المغربي الوحيد الذي شارك في تغطيتها، وصولا إلى اليوم، حيث بات بإمكان بعض الصحافيين المغاربة القول “كلنا إسرائيليون” دون أدنى اعتبار للتاريخ، يظل اتخاذ موقف حازم من الصهيونية العالمية موقفا لا محيد عنه، نظرا لوجود فرق كبير بين “اليهودية”، و”الصهيونية”، و”إسرائيل”(..).