ملف الأسبوع | التاريخ الملتبس للعلاقات المغربية-الإسرائيلية يعيد نفسه
هل تتكرر سيناريوهات الماضي ؟

أعد الملف: سعد الحمري
أجل المغرب “قمة النقب 2” أكثر من مرة، بعدما كان مقررا لها أن تنعقد خلال شهر مارس الماضي فوق أراضيه، ومع كل تأجيل كان يطرح السؤال حول أسباب ذلك دون أجوبة شافية.. إلى أن ظهرت بعض المؤشرات مع نهاية شهر يونيو المنصرم وبداية يوليوز الحالي، ومنها أن المغرب أراد أن يوصل لإسرائيل رسالة مفادها أن ربط علاقات دبلوماسية معها لن يكون بأي حال من الأحوال على حساب القضية الفلسطينية، وهو ما ظهر من خلال تصريح وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، نهاية يونيو الماضي، الذي أعلن فيه عن تأجيل “قمة النقب” إلى حين نضج الظروف السياسية، وذلك على خلفية التصعيد الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وسياسات الاستيطان، ليرد عليه وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، بأن بلاده ربطت قرار الاعتراف بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية باستضافة الرباط لمنتدى النقب، الذي تأجل أكثر من مرة، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الإسرائيلي عندما قال: “نعمل حاليا على هذه القضية وخطتنا هي اتخاذ قرارنا النهائي في منتدى النقب”، مضيفا أنه “من المتوقع أن تستضيف المملكة المغربية المنتدى في شتنبر أو أكتوبر من السنة الجارية”، ومن جهتهم، يرى محللون أن إسرائيل تحاول ابتزاز المغرب بقضية وحدته الترابية من أجل التخفيف من حدة انتقاده للممارسات الإسرائيلية، والتي سبق له مرارا وتكرارا أن ندد بها وعبر عن رفضه لها، بل وكانت سببا في تأجيله “قمة النقب” لأكثر من مرة.
ومن هذا المنطلق، يحاول هذا الملف استعراض تاريخ انتقاد المغرب للممارسات الإسرائيلية فوق الأراضي الفلسطينية خلال المراحل التي تكون فيها العلاقة بين المملكة المغربية والدولة العبرية متقاربة، لتوضيح أن المغرب لم يضع في يوم من الأيام مصالحه الخاصة فوق حقوق الفلسطينيين الثابتة.
1977-1986.. بحث عن سلام دائم بين العرب وإسرائيل وإدانة قوية للممارسات الإسرائيلية في حق الفلسطينيين
من الجيد استعراض ما وقع ما بين سنتي 1977 و1986، لأنه يعتبر محطة بارزة في العلاقات المغربية-الإسرائيلية.. فقد كانت سنة 1977 أول مناسبة أعلن من خلالها المغرب عن نيته نهج سياسة جديدة مع إسرائيل، عندما أعلن الرئيس المصري أنور السادات عن عزمه القيام بزيارة رسمية إلى إسرائيل والدخول معهم في مفاوضات من أجل السلام بالمنطقة، وكانت المملكة المغربية الدولة العربية الوحيدة التي أيدت هذا التوجه المصري، وبعد ذلك، دخلت مصر وإسرائيل في مفاوضات طويلة انتهت بتوقيع “اتفاقية كامب ديفيد” خلال أواخر سنة 1978، وكانت المحاور الرئيسية للمعاهدة تتعلق بـ”إنهاء حالة الحرب” و”إقامة علاقات ودية بين مصر وإسرائيل”، و”انسحاب إسرائيل من سيناء” التي احتلتها سنة 1967.
وبعد هذه التطورات، وخصوصا “اتفاقية كامب ديفيد”، وجد الملك الحسن الثاني نفسه في مأزق حقيقي.. فقد ظهر أن أنور السادات كان يسعى فقط للتفاوض من أجل مصر لا عن القضية العربية، وهو خلاف ما كان يدافع عنه الحسن الثاني، ومما زاد الوضع تأزما، أن أنور السادات لما كان عائدا من كامب ديفيد، نزل في المغرب واستقبله الملك، وبعد ذلك، أظهر الملك شبه تبنيه لبنود “اتفاقية كامب ديفيد”، غير أنه بعد “معاهدة السلام” المصرية-الإسرائيلية، انضم المغرب إلى الدول العربية التي قطعت علاقاتها مع مصر، وكانت آخر دولة عربية أقدمت على هذه الخطوة.
لم يكد يمر الكثير من الوقت على قطع المغرب علاقاته مع مصر، وابتعاده عن محاولة تقريب وجهات النظر بين العرب وإسرائيل، حتى قام البرلمان الإسرائيلي باتخاذ قرار يقضي بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وبعد هذا القرار، ثارت الدول العربية منددة بهذا القرار إلا الحكومة المصرية، وعلى هذا الأساس، وجه الملك الحسن الثاني رسالة إلى الرئيس المصري أنور السادات يوم 26 يوليوز 1980، رغم العلاقات المنقطعة بين البلدين، ناشده من خلالها باتخاذ موقف حازم من هذا القرار.. فقد ذكره بأن مصالح الدولة تذوب أمام مصالح الأمة، ومما جاء في الرسالة: ((إنني أناشدك كرئيس للجنة القدس وسليل من أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وباسم الماضي المشترك، وبحق الدماء الزكية التي امتزجت على أرض المعركة، وباسم الشعب المغربي، وباسم المسلمين الصادقين في مشارق الأرض ومغاربها الذين عهدوا إلي بالدفاع عن القدس، باسم هذا كله.. أناشدك أن توقف هذا التحدي الإسرائيلي عند حده، وذلك باتخاذ موقف حازم)).
وتابع الملك كلامه قائلا: ((إن العالم الإسلامي ينتظر من مصر ورئيسها رد فعل في مستوى دورها الإسلامي والإنساني في الماضي والحاضر، رد فعل يزيد العرب والمسلمين قوة على قوتهم، ويمكننا جميعا من أن نعانق مصر وشعبها ورئيسها، لأن هذه القطيعة هي مبعث ألم كل مسلم وكل عربي ليست في مصالح مصر، ولا في صالح القضية الفلسطينية المقدسة، ولا في مصلحة تحرير القدس الشريف وباقي الأراضي العربية المحتلة))، ثم ختم الملك الراحل رسالته بالتالي: ((لنا اليقين أن مصر المسلمة لن تخيب الآمال المعلقة عليها من طرف إخوانها المسلمين، وبالأخص الذين لا يزالون أوفياء للتراث المشترك)).
كان وقع قرار إسرائيل بضم القدس الشرقية ما يزال قويا في أرجاء العالم العربي، وبعد ذلك بسنتين، أي سنة 1982، أقدمت سلطات الاحتلال على حل المجالس البلدية التي انتخبها الفلسطينيون واعتقلت العديد من الشباب الفلسطيني، ما جعل الشعب الفلسطيني يطلق حملة من الاحتجاجات استنكارا للخطوات الإسرائيلية المستفزة، وكان المغرب حاضرا بقوة من أجل الوقوف في وجه التجاوزات الإسرائيلية.. فقد بعث الملك الحسن الثاني على إثر هذه التطورات، يوم 24 مارس من نفس السنة، برقية إلى كل من الحبيب الشطي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والشاذلي القليبي الأمين العام لجامعة الدول العربية، وخافيير بيريز دي كويلار الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة، والرئيس الكيني عرب موي رئيس منظمة الوحدة الإفريقية، عبر الملك من خلالها عن استنكاره لما تقوم به إسرائيل من أعمال عدائية، كما طالبهم بحكم مناصبهم ومسؤولياتهم، بأن يعملوا على إيقاف العدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وبعد ذلك بيوم، أصدر الحسن الثاني أمرا بتوقيف العمل بالإدارات والمصالح عن العمل لمدة ساعة تضامنا مع الشعب الفلسطيني.
كانت سنة 1982 حافلة بالعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، ولعل أبرز ما وقع هو مذبحة بيروت، وهذه المرة راسل الملك الحسن الثاني الرئيس الأمريكي رونالد ريغن، يوم 19 شتنبر 1982، طالبه بالتدخل وإيقاف المجزرة، كما طالب أمريكا بأن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية علما أن الجيش الأمريكي كان هو المكلف بتوفير الحماية للبنانيين والفلسطينيين، ومما جاء في الرسالة: ((يتعين على الولايات المتحدة من الوجهة الخلقية والسياسية على السواء، أن تمحو عنها هذه الوصمة التي لحقتها، وذلك باللجوء إلى كل الوسائل بما في ذلك الوجود العسكري في لبنان، وجود يتسم بالمصداقية والفعالية من أجل الدفاع عن الضعفاء والعزل))، ثم عاد مرة أخرى وأمر يوم 21 شتنبر من نفس السنة، بإصدار أمر جديد يقضي بالتوقف عن العمل استنكارا لوحشية وصهيوينة إسرائيل، ورغم انتقادات الحسن الثاني الحادة للممارسات الإسرائيلية خلال هذه المرحلة، إلا أنه بعد ذلك بأربع سنوات، استقبل شمعون بيريز الوزير الأول الإسرائيلي، سنة 1986 بالقصر الملكي بإفران، من أجل التباحث حول عملية السلام.
هكذا وقف المغرب في وجه الممارسات الإسرائيلية سنة 1995 بعد تنظيم “قمة النقب” في الصيغة الأولى
تعتبر محطة سنة 1994 هامة، لأنها تشبه اليوم من حيث المعطيات والمواقف المغربية من الممارسات الإسرائيلية.. فقد كانت هذه السنة على موعد مع توقيع إسرائيل اتفاقية سلام مع الأردن في وادي عربة، وكذلك دخول قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى الأراضي الفلسطينية تنفيذا لـ”اتفاق أوسلو” بين قيادة المنظمة وإسرائيل، ثم فتح المغرب مكتب اتصال إسرائيلي لم يرق لمرتبة سفارة كما هو الحال اليوم، وكان الملك الحسن الثاني واضحا في تحديد الهدف من فتح مكتب الاتصال الإسرائيلي بالمغرب، حيث اعتبر أن مكاتب الاتصال بصفة عامة ليست لها صفة دبلوماسية، وليس لها وضع دبلوماسي، وهو ما تنص عليه سواء “اتفاقية لاهاي” أو “اتفاقية نيويورك”، واعتبر أن علاقة المغرب مع إسرائيل لها وضع خاص، وهو أن المغرب البلد العربي الوحيد الذي له جالية تفوق ستمائة ألف يهودي من أصل مغربي، وأن هدف مكاتب الاتصال هو تمكين هذه الفئة من زيارة ذويهم وأقاربهم.
وفي نفس السنة، نظم المغرب فعاليات المؤتمر الاقتصادي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمدينة الدار البيضاء، ما بين 30 أكتوبر وفاتح نونبر 1994، والذي عرف مشاركة 2500 مشارك يمثلون 61 دولة واستمرت أشغاله 3 أيام، معظمهم من رجال الأعمال، بالإضافة إلى ممثلين عن جميع الدول العربية باستثناء سوريا ولبنان اللتين قاطعتا المؤتمر، وشاركت فيه الولايات المتحدة والدول الأوروبية والآسيوية.
ورغم مساهمة المغرب بشكل قوي في التقارب بين العرب وإسرائيل خلال سنة 1994 وتنظيمه للقمة الاقتصادية، إلا أن ذلك لم يمنعه من الدفاع عن حقوق الفلسطينيين والدفاع عنهم بعد ذلك.. ففي سنة 1995، أثار قرار إسرائيل الاستيلاء على 53 هكتارا من أملاك العرب بمدينة القدس الشرقية غضبة قوية في العالم الإسلامي واستياء عميقا في جميع الدول التي كانت تتطلع بلهفة إلى إقامة سلام عادل وشامل في منطقة الشرق الأوسط، وقد كان في طليعة المستائين والمستنكرين لهذا الابتزاز التعسفي الإسرائيلي، الملك الحسن الثاني، رئيس لجنة القدس، الذي كتب إلى الوزير الأول الإسرائيلي إسحاق رابين، وبيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، وبوريس يلتسن رئيس فيدرالية روسيا، ورؤساء الدول الأعضاء في مجلس الأمن، رسائل يلفت فيها النظر إلى خطورة القرار الإسرائيلي ويطالب بإلغائه محافظة على مسيرة السلام المتعثرة.
ومما جاء في الرسالة التي بعثها الملك إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي يوم 4 ماي 1995، أن ((استلاب إسرائيل 53 هكتارا من الأراضي العربية بالقدس كان له وقع القنبلة في أرجاء العالم كله))، وجاء ضمن نفس الرسالة، أن ((المغرب والملك الحسن الثاني آلمهم هذا القرار، لأنه يقدر خطورة العواقب التي ستكون له على إسرائيل وشعوب المنطقة))، وذَكر الملك رئيس الوزراء الإسرائيلي بـ((إننا عملنا بصبر وأناة منذ ما يزيد عن عقدين متحدّين سوء الفهم، ومواجهين أحيانا حتى مناهضة من كان من شأنها أن تهدد موقعنا داخل الأمة العربية، وقد سعينا باستمرار إلى تيسير التقارب اليهودي العربي، وإلى خلق الظروف الملائمة والمناخ الأجدى لتستطيع دول المنطقة أن تعيش في سلام ووفاق))، وتابع الملك كلامه قائلا: ((لكن، ها هو استلاب الأملاك العربية سيدفع رأسا إلى دخول نفق مسدود قد يصعب الخروج منه.. إننا حللنا وضعكم في الظروف الخاصة التي تعيشها إسرائيل وما يمثله دائما اقتراب الاستشارة الشعبية من استحقاق ذي بال بالنسبة لأي مسؤول سياسي، ومع ذلك، فمهما كانت جسامة انشغالاتكم الانتخابية، فلا يمكنها مطلقا أن تبرر استلاب الأراضي الذي هو إجراء خطير لا يقره أحد، فضلا عن إهانته لكرامة الآخرين)).
وختم الحسن الثاني رسالته بالتالي: ((إننا إذ نحتج بكل قوانا احتجاجا حادا على هذا الإجراء، يحدونا لذلك من جهة، دفاعنا عن مصلحة السلام نفسه، ومن جهة أخرى، استرعاء انتباهكم للمخاطر التي تعرض إسرائيل نفسها لها، وهي تجازف مجازفة فاحشة بسلام هش لا يزال يبحث عن وسائل تدعيمه)).

الخلاف المغربي-الإسرائيلي لن يؤثر على القرار الأمريكي بخصوص مغربية الصحراء
ظل موقف المغرب ثابتا من القضية الفلسطينية على عهد الملك محمد السادس.. فقد عبرت المملكة في العديد من المناسبات عن استنكارها للانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، وتبقى المحطة الأهم، خلال سنة 2017، عندما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل وعزمها على نقل سفارتها إليها، عندها أرسل الملك محمد السادس رسالة بصفته رئيسا للجنة القدس إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يدعوه من خلالها إلى التراجع عن هذا القرار، ولم يتأخر الرئيس الأمريكي في الرد على رسالة الملك، فقد أجابه بعد شهر وهو ما اعتبر أن الرد الأمريكي على رسالة الملك محمد السادس بصفته رئيسا للجنة القدس، يعد تأكيدا على مكانة المغرب ووزنه في محيطه العربي والإسلامي، وتقديرا لما يلعبه المغرب في هذا المستوى، وأن التوضيحات التي حملتها رسالة ترامب إلى الملك، من قبيل أهمية القدس بالنسبة لمختلف الديانات، تعكس أن المغرب يسعى إلى المرافعة في هاته القضية المحورية في سياسته الخارجية، وتعكس أهمية التحرك المغربي في هذا الصدد.
وخلال توقيع الاتفاق الثلاثي بين المغرب وأمريكا وإسرائيل، أكد المغرب على أنه سيستمر في الدفاع عن الحقوق المشروعة والعادلة للشعب الفلسطيني، واليوم، دخلت المملكة في سياسة الشد والجذب مع إسرائيل، حيث يتشبث المغرب بموقفه الثابت في دعم القضية الفلسطينية بالتزامن مع العدوان الإسرائيلي الأخير، في حين تسعى إسرائيل إلى لعب ورقة الصحراء المغربية من أجل حمل المملكة على التخفيف من لهجتها تجاه إسرائيل.
وبناء عليه، يطرح السؤال: ما هو موقف الولايات المتحدة الأمريكية من المغرب، خاصة وأن الاتفاق الثلاثي تم توقيعه تحت رعايتها؟ وهنا لا بد من استحضار عدة معطيات تؤكد أن الموقف الأمريكي في هذه اللحظة منسجم مع الموقف المغربي، ومن ضمنها الاتصال الهاتفي الأخير الذي جرى يوم 14 ماي الماضي بين وزير الخارجية الأمريكي ونظيره المغربي، والذي أكد على دور المملكة في تعزيز السلام الإقليمي، وخصوصا بين فلسطين وإسرائيل، وأكد الجانبان على أهمية الالتزام الكامل بوقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة يوم 13 ماي الماضي.
أما خلال الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على جنين، والتي كثف المغرب على إثرها من انتقاداته وتنديده بالاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين، فإن موقف أمريكا يبدو في توافق تام مع المغرب كذلك، حيث انتقد الرئيس الأمريكي أكثر من مرة الممارسات الإسرائيلية، آخرها خلال اجتماع حلف شمال الأطلسي الأخير، ما جعل أحد المسؤولين الإسرائيليين يرد عليه ويؤكد أن إسرائيل ليست جزء من أمريكا.