تحليل إخباري | الصيف الفرنسي يحاكي تجربة “الربيع العربي”
التواطؤ الإعلامي الفرنسي يمهد للدكتاتورية

على غرار “طحن مّو”، وهي العبارة التي كادت أن تسبب ثورة في المغرب، بعد ربطها بوفاة الشاب بائع السمك، محسن فكري، سنة 2016(..)، عاشت فرنسا أسوء أيامها خلال الأسبوع الماضي، بعد أن اندلعت شرارة الاحتجاجات داخل البلاد تحت عنوان “ثورة البؤساء”، مباشرة بعد مقتل شاب يبلغ من العمر 17 سنة يدعى نائل، على يد الشرطة الفرنسية التي أطلقت عليه الرصاص، لكن، وبخلاف تعامل الإعلام الفرنسي مع الأحداث التي تقع في المغرب، فهو لا يرى في الملايين التي خرجت إلى الشارع سوى مجموعة “مخربين” و”محتجين”، بينما كان يوصف المحتجون في المغرب بـ”الثوار”، وكل ذلك ضمن الخط التحريري للآلة الإعلامية الغربية التي باتت اليوم مفضوحة بشكل كبير.
إعداد: سعيد الريحاني
إن “ميدان التحرير” الذي اتخذ كذريعة لإسقاط النظام في مصر، هو نفسه “ساحة الكونكورد” وسط باريس، والتي تم إخلاؤها بعد استدعاء جيش كامل من رجال الشرطة بلغ عددهم 45 ألف عنصر، فإذا كان عدد رجال الشرطة الـ 45 ألفا قد تم تجنيدهم كقوات إضافية لمواجهة موجة الشغب، كم يبلغ عدد المتظاهرين؟ كيف نؤمن بصدق رسالة الإعلام والفرنسي وهو يصف “ثورة حقيقية” لها “شهيدها” بمجرد “أعمال عنف متواصلة”(..)؟
لنتصور مثل هذه الأحداث في أحد البلدان النامية.. هل كان الإعلام الفرنسي سيصفها بأعمال عنف؟ هل يمكن لوزير الداخلية على غرار وزير الداخلية الفرنسي أن يخطب في الإعلام العمومي، قائلا: “إن الآباء لا يهتمون بأطفالهم.. ولا يعرفون أين يذهبون؟”، في معرض تعليقه على مشاركة القاصرين في هذه الاحتجاجات، وكيف يقبل هذا الإعلام استغلال الأطفال في “الاحتجاجات العربية” ويصفهم بالمحتجين، وعندما يتعلق الأمر ببلادهم يصفونهم بالأطفال، ويهددون عائلاتهم بالسجن، وهو ما فعله وزير الداخلية الفرنسي علانية؟
وفاة الشاب نائل برصاص الشرطة الفرنسية، يجعل الحالة شبيهة بحالة “البوعزيزي” التونسي الذي تسببت وفاته في إسقاط النظام التونسي، ولكن التواطؤ الإعلامي الفرنسي هو الذي يعطي للحكومة الفرنسية هامشا للمناورة، وممارسة مزيد من “التسلط” و”الشطط” و”الوعيد في حق المتظاهرين”.. لماذا لم تطل علينا المنظمات الفرنسية والمنظمات الحقوقية الغربية عموما، لتدعو الدولة الفرنسية إلى “ضبط النفس” و”احترام حقوق المتظاهرين السلميين”؟
إن “التواطؤ الإعلامي الفرنسي هو الذي منح للحكومة فرصة الدعاية إلى بعض المغالطات، مثل وصف الضحية نائل بأنه من أصل مغربي بينما هو من أصل جزائري(..)، فضلا عن الترويج لإجراءات خطيرة وكأنها إجراءات عادية، ومنها استعمال الطائرات المروحية والمدرعات، وهي نفس الإجراءات التي كان يسوق لها الإعلام الفرنسي بأنها “هجوم عسكري على المدنيين”، إذا حصل نفس الأمر في أي دولة عربية..
في فرنسا يقولون: ((إن الرئيس الفرنسي ماكرون طلب من منصات التواصل الاجتماعي إزالة لقطات الشغب الأكثر حساسية من صفحاتها وإبلاغ السلطات بهوية المستخدمين الذين يحضون على ارتكاب العنف.. والتقى وزير الداخلية جيرالد دارمانان بممثلين عن شركات “ميتا” و”تويتر” و”سناب شات” و”تيك توك”، وقالت شركة “سناب شات” أنها “لا تتهاون مطلقا مع المحتوى الذي يحض على العنف”))، بينما كانت نفس الإجراءات ستصنف من طرف الإعلام الفرنسي بأنها إجراء لخنق حرية التعبير لو حصل نفس الأمر في دولة أخرى مثل المغرب.
دار الزمان دورته، وها هو “شهيد الثورة الفرنسية” المفترضة يظهر في فرنسا نفسها، وهي الدولة التي اعتاد إعلامها الحديث عن “الثورات الملونة” في بلدان أخرى، والواقع أن حوادث اصطدام الشرطة بالمدنيين، وخاصة المهاجرين، غالبا ما كانت معروفة لدى المجتمع الفرنسي، ولكن الإعلام يرفض تصنيفها كتصرفات عنصرية.. لماذا لم تبادر الدول التي تنتمي إليها الجاليات المقيمة في فرنسا إلى دعوة مهاجريها إلى ضرورة توخي الحيطة والحذر(..) على غرار ما كانت ستفعله فرنسا مع أي دولة يوجد فيها رعايا، بمن فيهم الذين يقيمون فوق تراب بلدان عربية، ويصوتون على الأحزاب التي تدعو إلى طرد المهاجرين(..)؟
في فرنسا، بدأت الدعاية إلى ضرورة حظر مواقع التواصل الاجتماعي لمواجهة الاحتجاجات التي اندلعت في باريس ومارسيليا وليون ومدن أخرى، بينما كانت ستقوم نفس الدولة الفرنسية وإعلامها بالتنديد بأي محاولة للمس بمواقع التواصل الاجتماعي باعتباره مسا بحرية التعبير، إذا حصل نفس الأمر في دولة مثل المغرب..
في فرنسا، لا حديث عن مقولة “الشعب يريد” رغم أن الشعب في الشارع(..)، وكل ما يحصل هو الترويج لبعض الإجراءات الدعائية، من قبيل “جلب جدته للإدلاء بتصريحات للصحافة تدعو فيها إلى تهدئة الأوضاع(..)”، أو القول بأن “الشرطي الفرنسي الذي قتل الشاب نائل، اعتذر لأسرته(..)”، وهو التصريح الذي ورد على لسان المحامي فقط، وليس على لسان المتهم، وقد يزيد الطين بلة إذا عرفنا أن حملة مريبة جمعت في ظرف يومين ما يناهز مليون يورو للدفاع عن الشرطي المتهم بقتل الشاب نائل(..).
وتقول وسائل الإعلام: ((بعد يومين فقط من وفاة نائل البالغ من العمر 17 عاما، أطلق جان ميسيها، المتحدث السابق باسم حملة اليميني المتطرف إريك زمور، صندوق تبرعات عبر الأنترنيت لدعم عائلة الشرطي، معتبرا أنه قام بعمله ويدفع اليوم ثمنا باهظا.. وتحت عنوان “دعم عائلة شرطي نانتير”، استطاع هذا الصندوق جمع أكثر من مليون يورو في أقل من أسبوع، حيث تبرع أكثر من 50 ألف شخص بمبالغ تتراوح بين 3 و5 آلاف يورو، الأمر الذي أثار حفيظة وغضب نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة الأحزاب اليسارية.. وفي ما يبدو أنها مواجهة سياسية بين الأحزاب، لم يقتصر تأييد هذا الصندوق على اليمين المتطرف فقط، فعلى سبيل المثال، أعلن رئيس الحزب الجمهوري إريك سيوتي، عن تأييده الصريح للتبرعات لصالح أسرة الشرطي..)) (المصدر: وكالات).

إذن، هو مشكل سياسي وأعمق من مجرد حادث عارض لا زال معروضا على القضاء، والقضاء الفرنسي مطالب بأن يكون في مستوى تطلعات الشعب بعد هذا الحادث المحزي(..)، فقد ((أثار مقتل المراهق الفرنسي من أصل عربي نائل المرزوقي، صاحب الـ 17 ربيعا، حالة من الفوضى التي تشبه كرة الثلج تكبر وتتسع، إذ شهدت مدن فرنسية مختلفة حالة من الاضطرابات والتي على إثرها وفي محاولة لتقويض حركة الاحتجاجات، اعتقلت وزارة الداخلية الفرنسية خلال الأيام الخمس لاندلاع الأزمة، قرابة الـ 2000 مواطن، فضلا عن إصابة 79 شرطيا على خلفية وقوع 31 هجوما ضد مراكز الشرطة، وكذلك 11 هجوما ضد ثكنات قوات الدرك.. كما أضرم المحتجون النيران في 1350 سيارة، وعلاوة على ذلك، تعرض 234 مبنى للحرق أو التخريب، ووفقا لصحف فرنسية محلية، أضرم قرابة الـ 2560 حريقا على الطرقات العامة، وفي أعقاب 4 أيام متتالية من الأزمة، بدأت الأمور تأخذ مجراها فيما يمكن وصفه بالهدوء النسبي..)) (عن موقع “المصري اليوم”).
قصة الشاب نائل، التي تردد صداها في الإعلام العربي والدولي تقول: ((في الساعة الـ 7:45 صباحا، انطلق نائل برفقة صديقيه في جولة حول مدينة نانتير، قبل أن يجتمع هو وصديقيه، أعطى نائل قبلة لوالدته أمونيا قبل ذهابها إلى العمل صباح يوم مقتله، واختتم حديثه معها بعبارة “أحبك يا أمي”، ولم تتخيل الأم أن تكون القبلة قبلة الوداع، وأن يكون السلام هو سلام مودع.. استقل نائل سيارة ماركة “مرسيدس” وتواصل مع صديقيه، واتفقوا على أن يقوموا بجولة حولة نانتير، يقول الشاب الذي نجح في الهروب أثناء عملية إطلاق النيران من قوات الشرطة تجاه السيارة ماذا حدث من الألف إلى الياء كما ذكر في مقطع الفيديو الذي نشره عبر مواقع التواصل الاجتماعي.. ويقول رفيق رحلة الموت: “أنا ونائل وصديق ثالث، استعرنا سيارة مرسيدس وقررنا الذهاب في جولة حول نانتير في باريس، ولم نكن تحت تأثير أي كحول أو مخدرات، خلال السير في الطريق، لاحظنا وجود دراجات نارية تابعة للشرطة تتبعنا وتطالبنا بالتوقف، بعد أن توقفنا على جانب الطريق، اقترب أحد الضباط من الشباك وطلب من نائل أن يطفئ السيارة مهددا بإطلاق النار عليه، ومن ثم انهال عليه فورا بالضرب بكعب البندقية، فيما واصل الضابط الثاني الذي كان برفقته، التهديد لنا جميعا بأنه في حال تحركنا بالسيارة سوف يطلق علينا النار فورا وفي الرأس.. لوهلة، فقدنا تركيزنا من هول الموقف، إلا أن الضابط كسر حالة الذهول بضرب نائل للمرة الثانية بكعب البندقية، ومن هول الصدمة تحررت قدم نائل عن الفرامل وهنا قرر الضابط الثاني إطلاق النار فورا، لتخترق الرصاصة صدر نائل”.. ويحكي صديقه الذي حضر الواقعة: “بعد أن اخترقت الطلقة صدر نائل، تحركت السيارة بضع مترات، ومن ثم اصطدمنا، في ذلك الوقت، كان نائل يتألم ويرتجف، ومن شدة خوفي سارعت بالهروب من السيارة خوفا من أن يتم إطلاق الأعيرة النارية تجاهي، كان الخوف مسيطرا علينا جميعا ولم نعرف سببا لبدء إطلاق الأعيرة النارية تجاهنا في وقت لم نقم فيه بأي ردة فعل”)) (المصدر: ملخص الأحداث عن موقع “المصري اليوم”).
التاريخ وحده يمكن أن يحدد مصير حادثة الشاب نائل، لكن عبرة الأمور تكون بخواتمها، فالجانب “العنصري” الذي أثارته هذه الحادثة، وازدواجية معايير الإعلام الفرنسي في التعاطي مع هذا النوع من الحوادث، يطرح على بلاد الأنوار تحديات جديدة، بين الأحزاب والحكومة، وحتى داخل النظام نفسه، ذلك أن شعارات الأمس ربما لم تعد صالحة اليوم، وما كان يروج بأنه يوجد عند الآخرين فقط، أصبح جزء من فرنسا نفسها.