ملف الأسبوع | فاتح ماي.. ما بعد نهاية النقابات في المغرب
تعودت النقابات العمالية في فاتح ماي من كل سنة، على جعل هذا اليوم عيدا لها تخرج فيه إلى الشوارع من أجل استعراض عضلاتها، ورفع مطالبها دفاعا عن الشغيلة، ومع اقتراب الأول من الشهر القادم الذي أصبح يطلق عليه عيد الطبقة العاملة، تنتظر الشغيلة المغربية كما هو حال باقي دول المعمور، عرضا حكوميا مقابل مطالبها، في ظل ارتفاع الأسعار وغلاء المواد الأولية والاستهلاكية التي أثرت بشكل كبير على القدرة الشرائية للمواطنين.
أعد الملف: سعد الحمري
تتطلع النقابات العمالية بالمغرب إلى فاتح ماي، حيث تتوقع أن تحشد العمال والمستخدمين التابعين لها من أجل الاحتجاج ضد الحكومة إذا لم تتجاوب مع مطالبها وتسرع في تفعيل مضامين اتفاق 20 أبريل 2022، لكن الأمر يحتاج إلى وقفة على وضعية وواقع النقابات بالمغرب، وخصوصا أداءها خلال هذه السنة، وعلاقتها ببعضها.. هل هي قادرة على أن تكون ناطقة باسم الشغيلة ومترجمة لنبض الشارع، أم أن وضعها يزداد سوء وتقهقرا كحال الأحزاب السياسية المشكلة للحكومة والمعارضة ؟
خرجات وسلوكات غريبة للنقابات هذه السنة
إن ما يمكن ملاحظته، هو أن المشهد النقابي بالمغرب يزداد تشرذما وانقساما سنة بعد أخرى، فعند مقارنة هذه السنة مع السنة الماضية، يلاحظ أن السنة الجارية فريدة من نوعها، وتختلف عن سنة 2022 اختلافا كبيرا، حيث يسجل استمرار عدم الانسجام بين النقابات الأكثر تمثيلية ومواقف مفاجئة من بعض النقابات، إضافة إلى غياب التنسيق بين بعض النقابات كما حدث خلال السنة الماضية.
كما أن أول ما يلاحظ خلال هذه السنة مقارنة مع السنة الماضية، هو غياب التنسيق والانسجام بين النقابات التي كانت متحالفة خلال السنة الماضية ونفذت إضراب 20 يونيو 2022، ويتعلق الأمر بالنقابات الثلاث: المنظمة الديمقراطية للشغل (ODT) والكونفدرالية العامة للشغل (CGT) وفيدرالية النقابات الديمقراطية (FSD)، حيث التأمت المركزيات النقابية المذكورة في إطار “تنسيق نقابي” موحد خلال السنة الماضية.
فقد أجمع زعماء النقابات الثلاث خلال اجتماع 16 يونيو الماضي، على السياق الذي جاء فيه ذلك الإضراب، مستحضرين الذكرى 41 للانتفاضة الشعبية ليوم 20 يونيو 1981 الشهيرة، والمعروفة باسم “انتفاضة الكوميرا”، مؤكدين أن “اللحظة الحالية هي شبيهة بالأمس، وكل المؤشرات تسير في اتجاه الانفجار الاجتماعي أمام استقرار هش غير واضح المعالم”.
وقد جاء توحيد الجهود بين النقابات الثلاث، حسب ما خلص له اجتماع 16 يونيو 2022، ((في إطار العمل المشترك والتنسيق من أجل فعل نضالي موحَّد يهدف إلى إعادة الاعتبار للممارسة النقابية الجادة والمسؤولة، بعيدا عن الرتابة والتسويف وترسيخ ثقافة الانتظارية)).
أما خلال هذه السنة، فالملاحظ هو غياب التنسيق بين النقابات الثلاث التي كانت متحالفة فيما قبل، رغم أن الأوضاع الاقتصادية خلال هذه السنة أكثر صعوبة من العام الماضي، حيث بلغت أسعار المواد الغذائية مستويات قياسية، كما بلغ التضخم مستويات لم يبلغها منذ سنة 1990، ولحد الآن لم يعلن التنسيق النقابي المذكور عزمه القيام بأي إضراب وطني.. فهل يتعلق الأمر بعدم الرغبة في استمرار التنسيق بينهم، أم أنه سيكون هناك حديث آخر بعد فاتح ماي، أي بعد العرض الحكومي المرتقب؟
ومن غرائب هذه السنة في المشهد النقابي، أنه منذ مدة طويلة، أي منذ حكومة عباس الفاسي، لم نشهد ذراعا نقابيا لحزب مشارك في الحكومة ينتقد الحكومة بشدة كما هو الحال بالنسبة للنعم ميارة، عضو اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال ورئيس مجلس المستشارين والأمين العام لنقابة الاتحاد العام للشغالين، الذي انتقد الحكومة التي يشارك حزبه فيها خلال تجمع نقابي بقلعة السراغنة أواسط مارس الماضي، حيث نقل عنه أنه قال ((حشومة ماطيشة كدير 2 دراهم عند الفلاحة ونجدها بـ 12 درهما في السوق، إيلا كانوا هاذ المضاربين مكيحسوش أنهم مغاربة، فأنا أقول لهم هاذوا ماشي مغاربة…))، وتابع تصريحه قائلا: ((نقول للحكومة مبغيناش ضبط الأسعار في التلفزيون، نريدها على أرض الواقع ويحسوا بها المغاربة.. حضيو ريوسكم، لن نستمر في الصمت، راه سكوتنا معناه أننا ضد المغاربة الذين صوتوا عليكم بأغلبية ساحقة ومنحوكم الثقة، لكن بعد تصاعد موجة الغلاء فالصبر كيضبر.. متنساوش اللي طلعكم.. راه العيب هو أن المسؤول السياسي ينسى أن القاعدة اللي مشات صوتات هي اللي طلعتو))، وأضاف: ((إيلا حشمنا وسكتنا وكنا مزيانين داخل الاتحاد العام ووقعنا على اتفاق 30 أبريل، فالحكومة خاص تحشم على عرضها شوية. توقيعنا على اتفاق الحوار الاجتماعي ليس شيكا على بياض للحكومة باش دير فينا ما بغات)).
وقد أغضبت هذه التصريحات أعضاء داخل الأغلبية، إذ قال مصدر من الأغلبية: ((هذه التصريحات كانت مفاجئة من شخص يشارك حزبه في التحالف الحكومي))، مضيفا أن ((هذا الأمر غير مقبول، وسيتم التعامل معه بالشكل المناسب)) (المصدر: هسبريس 22 مارس 2023).
كما أثارت هذه التصريحات المفاجئة المعارضة كذلك، حيث علق الموقع الإلكتروني لحزب العدالة والتنمية بالتالي: ((السؤال الحقيقي والمهم في هذه النازلة، لمن يوجه ميارة كلامه بالتحديد؟ وكيف يسمح بجرة لسان أن يمحو ما اقترفته يداه من توقيع على أسوأ الاتفاقات الاجتماعية في تاريخ المغرب، وأن ينسى موقعه وموقع حزبه في كل الكوارث التي لا تنتهي لهذه الحكومة المصرة على إذلال الشعب المغربي إلى الرمق الأخير؟ هل يتعلق الأمر باستباق الكارثة التي تلوح في الأفق جراء التدبير العبثي للحكومة، ومحاولة القفز من السفينة قبل الغرق الشامل، أم هو اللعب على الحبلين ومسايرة حماسة الشغيلة والضحك على ذقون الكادحين؟ كيفما كان الحال، فإن كلام ميارة هو من قبيل “شهد شاهد من أهلها” وأن بينات الواقع التي تفقأ العيون لا يمكن تغطيتها بغربال التضليل والتزييف إلى ما لانهاية)) ((المصدر: PJD.ma بتاريخ 21 مارس 2023)).
ومن بين غرائب هذه السنة، ما يحدث مع نقابة الاتحاد المغربي للشغل، حيث أثار تصويت مستشاري نقابته بالغرفة الثانية على مشروع قانون رقم 83.21 المتعلق بالشركات الجهوية متعددة الخدمات نقاشا في صفوف العديد من المهنيين في قطاع الماء، المنضوين تحت لواء النقابة المذكورة.
فقد أربك تصويت فريق الاتحاد المغربي للشغل بمجلس المستشارين المهنيين المنضوين تحت لواء الجامعة الوطنية للماء الصالح للشرب التابعة للاتحاد، وخلف نقاشا فيما بينهم، خصوصا وأن التصويت جاء تزامنا مع احتجاج المستخدمين أمام البرلمان تزامنا مع جلسة المصادقة على مشروع القانون. وللإشارة، فقد جاء هذا الموقف الغريب من هذه النقابة قبل أيام من الاحتفال بعيد العمال.
ومن الأشياء المثيرة للانتباه في هذه السنة، أنه بالتزامن مع اقتراب عيد الشغل، استبقت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل هذا الحدث، لتعلن عزمها تنفيذ إضراب وطني يوم 18 أبريل، والملاحظ أنه لم تلتحق بها أي نقابة لتعلن مشاركتها في الإضراب، لتبقى وحيدة في الميدان، وفعلا وفت بوعدها ونفذت الإضراب في اليوم المحدد، غير أن هذه الخطوة لقيت انتقادات حول توقيت الإضراب، والنتائج التي حققها.. فقد كتب الموقع الإلكتروني “أنفاس بريس” تعليقا على نتائج الإضراب، ما يلي: ((إذا كانت الكونفدرالية الديمقراطية للشغل قد أوفت بوعدها وخاضت الإضراب الوطني في الوظيفة العمومية يوم الثلاثاء 18 أبريل 2023، فإن هذه الخطوة أثارت الكثير من الجدل في صفوف بعض النقابيين، على اعتبار أن توقيت الإضراب الوطني في الوظيفة العمومية لم يكن مناسبا، كما أن هذا الإضراب لم يحرك شعرة في حكومة أخنوش)).
وأضاف نفس المصدر، بناء على تصريح لمصدر نقابي، أن ((نسب المشاركة لم تكن في المستوى المطلوب، كما أن توقيت الإضراب الوطني في الوظيفة العمومية في هذا التوقيت، لم يكن موفقا من قبل المكتب التنفيذي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، حيث لم يكد يشعر أحد بأن هناك إضرابا في الوظيفة العمومية، وأكد أنه ليست هناك أي نتيجة ترجى من الإضراب الذي خاضته نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، لأنه لم يكن له الأثر الكبير في الساحة)) (المصدر: أنفاس بريس، 19 أبريل 2023).
هل تحل التنسيقيات محل النقابات؟
لا يمكن بأي حال من الأحوال القول بأن تراجع دور النقابات بدأ خلال هذه السنة فقط، بل إن ما وقع من أحداث هذه السنة هو مثال على تدهور دور النقابات في المغرب، فالأزمة بدأت منذ عقدين تقريبا، نظرا لعدة أسباب، من بينها التحولات التي شهدها المغرب خلال العقدين المنصرمين نتيجة المتغيرات العميقة التي يرتبط جزء منها بالعولمة وعجز النقابات عن مجاراتها، في حين يرتبط جزء آخر باختلال ميزان القوى بين السلطة والمؤسسات الوسيطة، وتراجع قدرة الأحزاب الكبرى على توظيف أذرعها النقابية لتحسين شروط التفاوض مع السلطة، بعدما اندمجت في بنيات هذه الأخيرة، وخصخصة القطاعات الاجتماعية الحساسة، وتفقير فئات واسعة من الطبقة الوسطى الحضرية.
إضافة إلى أسباب أخرى حصرها الكاتب علي أنوزلا كالتالي: ((السبب الأول: يكمن بالدرجة الأولى، في الأزمة البنيوية التي يعرفها العمل النقابي في المغرب، عندما تخلى عن القيم والمبادئ التي من أجلها وجد، والثاني: تفشي ثقافة البيروقراطية والانتهازية داخل قيادات هذه النقابات، والثالث: تشتت العمل النقابي وتشرذم الطبقة العاملة، والرابع: الطابع الفئوي الذي بات يتخذه العمل النقابي المفروض فيه أن يكون أداة للتوازن الطبقي لحفظ السلم الاجتماعي)).
لقد أفضى انحسار فاعلية النقابات إلى ظهور فاعلين جدد في ظل الإجهاز الذي بدأت تتعرّض له المكتسبات الاجتماعية التي حازتها الطبقة الوسطى نتيجة السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة، وشكلت التنسيقيات أبرز فاعل في هذا الصدد، إذ نجحت، في سنوات قليلة، في التحول إلى رقم أساسي في حركة الاحتجاج الجديد، ولا سيما بعدما أخفقت النقابات في التصدي لحزمة الإصلاحات الهيكلية التي قادتها السلطة في السنوات الأخيرة، والمتمثلة أساسا في إصلاح أنظمة التقاعد وإعادة هيكلة الوظيفة العمومية، وإذا كانت قواعد اللعبة تأبى استيعاب هذه التنسيقيات في الحقل المؤسسي الرسمي، بسبب خطابها الاجتماعي المتحرّر من الحسابات الحزبية والنقابية، فإن استمرارها في بناء أشكال جديدة من التعبئة الاجتماعية، ينبئ بتحولات داخل الحقل الاجتماعي يصعب التكهن بمآلها، خصوصا بعدما أصبح العزوف السياسي يتوازى مع عزوف نقابي متنامي، يتمثل في امتناع شرائح واسعة من الموظفين والأجراء عن الانضمام للنقابات، بعدما أضحت تتبنّى خطابا اجتماعيا ليبراليا، يختبئ خلف شعارات ملتبسة، مثل ”الشراكة الاجتماعية” و”الحوار الاجتماعي”.
وقد بدأ يظهر بوضوح دور التنسيقيات خلال السنوات الأخيرة، غير أن الجديد في الموضوع هو بداية الصراع بين التنسيقيات والنقابات، والمثال الواضح على ذلك، هو عندما قُوبلت مخرجات الاجتماع الأخير بين النقابات التعليمية الأربع الموقعة على اتفاق 14 يناير 2023 مع الحكومة بانتقاد شديد من لدن عدد من أعضاء التنسيقيات الممثلة لنساء ورجال التعليم، وذهب بعضهم إلى اتهام النقابات بـ”التواطؤ” مع وزارة التربية الوطنية في عدم تنفيذ الاتفاقات الموقعة بين الطرفين يوم 14 يناير 2022.. فهل تقبل السلطة التنسيقيات كفاعل جديد ووسيط بين الدولة والمجتمع، أم سيكون للنقابات رأي آخر ؟