
يشهد الاقتصاد العالمي حاليا مشكلة اللايقين، حيث لا يعلم أحد إلى أين يتجه الاقتصاد العالمي، فبعد موجة التضخم الحادة التي ضربت العالم والتي توقع كل الخبراء والأبناك المركزية عبر العالم، أنها لن تتعدى سنة، إلا أنه بدأ ينظر إلى أن التضخم سيستمر على المدى الطويل، ثم ظهرت مشكلة انهيار أبناك كبرى في كل من أمريكا وسويسرا، ليختلط المشهد الاقتصادي العالمي، ويزيد الوضع غموضا.
وقد كان المغرب كباقي دول العالم، ينظر إلى أزمة التضخم على أنها ظرفية وستنتهي على المدى القصير، إلا أن الإجراءات المتخذة أثبتت فشلها في ظل ارتفاع الأسعار، الأمر الذي جعل بنك المغرب يقر بأن التضخم مستمر في المغرب، كما اتخذ خطوة جديدة للحد منه، وهي الرفع من سعر الفائدة مجددا.. فهل تنجح هذه الإجراءات، أم أن المشكلة عالمية ؟
أعد الملف: سعد الحمري
فشل رفع سعر الفائدة خلال سنة 2022 في التحكم بنسبة التضخم
بدأ التضخم على المستوى العالمي ابتداء من سنة 2020، بفعل ضخ الولايات المتحدة الأمريكية سيولة مالية بلغت حوالي 3.3 ترليون دولار في البورصة وسوق العملات المشفرة.. حينها خرج البنك الفيدرالي الأمريكي ليطمئن الرأي العام بأن التضخم مرحلي فقط، وسيكون على المدى القصير، وفي مقابل ذلك، رفض البنك الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة، ومن تم بدأ التضخم يعم مختلف دول العالم تدريجيا.
ثم جاءت موجة أخرى من التضخم ناتجة عن تبعات الحرب الروسية الأوكرانية، عندها رفعت معظم الأبناك المركزية عبر العالم من سعر الفائدة، ورغم ذلك، ظل الاعتقاد السائد هو أن التضخم على الصعيد الدولي سيستمر على المدى القصير، أي لا يتعدى سنة على الأكثر، حيث كانت كل التوقعات تقول بأنه بحلول نهاية سنة 2023، سيتعافى الاقتصاد العالمي وستعود الأسعار إلى مستوياتها الطبيعية.
أما على الصعيد الوطني، فقد كان الوضع كما هو الحال في مختلف دول العالم، حيث بدأت الموجة الأولى للتضخم خلال الأشهر الأخيرة من حكومة سعد الدين العثماني، بارتفاع أسعار الزيوت، التي وصلت إلى مستويات قياسية، إضافة إلى بعض المواد الاستهلاكية الأخرى.. حينها ربطت الحكومة السابقة ارتفاع الأسعار بالسوق الدولية.
ثم تطور الأمر بعد ذلك مع البداية الأولى لحكومة عزيز أخنوش، حيث استمرت الأسعار في الارتفاع بسبب بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وقد همّ هذه المرة ارتفاع أسعار المواد البترولية، التي أثرت على ارتفاع أسعار مختلف المواد الاستهلاكية، وهنا تدخل بنك المغرب للحد من التضخم الذي وصل نهاية السنة الماضية إلى 6.6 في المائة، وفي أعقاب آخر اجتماعين فصليين برسم السنة المالية 2022، أقر مجلس البنك المركزي زيادتين متتاليتين في سعر الفائدة الرئيسي ليستقر في 2.5 في المائة عند شهر دجنبر 2022، بعد أن كان في مستوى 1.5 في المائة في يونيو 2022.
وبعد هذا الإجراء، الذي كان من المنتظر أن يقلل من نسبة التضخم ويعيد الأسعار إلى طبيعتها، بدأت التوقعات الاقتصادية للتحكم في نسبة التضخم على المستوى الوطني لسنة 2023، بعد رفع سعر الفائدة إلى 2.5 في المائة من طرف بنك المغرب.. فقد شهدت مختلف المؤسسات الوطنية المعنية بالأمر، تباينا في التوقعات، غير أنها كانت متفائلة بشأن التحكم في نسبة التضخم، حيث توقعت وزارة المالية انخفاضا في نسبة التضخم إلى اثنين في المائة، وهو المستوى الطبيعي الذي ظل لمدة ثماني سنوات، وجاءت الأرقام التي توقعتها الحكومة متقاربة مع تلك التي قدمتها المندوبية السامية للتخطيط ضمن تقريرها الأخير، وخصوصا في الجانب المتعلق بالتحكم في نسبة التضخم، حيث أشارت المؤسسة المعنية إلى أن نسبة التضخم من المتوقع أن تعود إلى مستوياتها الطبيعية في سنة 2023، وتستقر عند نسبة 1.9 في المائة.
وإذا كانت المؤسستان قد اتفقتا على التوقع بأن تنخفض نسبة التضخم خلال هذه السنة (2023) إلى نسبة اثنين في المائة، أي العودة إلى النسبة الطبيعية قبل الحرب الروسية الأوكرانية، فهناك مؤسسة وطنية ثالثة ذهبت إلى خلاف ذلك، وهي بنك المغرب، الذي توقع أن تنخفض نسبة التضخم إلى 3.9 في المائة، وهو ما يمكن اعتباره تضاربا في الأرقام، ليأتي البنك الدولي ويدعم الرقم الذي قدمه بنك المغرب، ويعلن ضمن توقعاته، أن نسبة التضخم في المغرب ستنخفض إلى 3.9 في المائة.
رفع سعر الفائدة من جديد.. هل يكون حلا أم مشكلة ؟
غير أن الذي حصل، هو أنه رغم تدخل بنك المغرب والتفاؤل بخصوص انخفاض نسبة التضخم، فإن بداية السنة الجارية شهدت موجة غلاء كبيرة همت بالدرجة الأولى الخضر والفواكه واللحوم والدواجن، وباقي المواد الغذائية، أي أنها مست مخرجات مخطط زراعي (المخطط الأخضر)، والذي كان رئيس الحكومة الحالي، عزيز أخنوش، يشرف عليه شخصيا حين كان يشغل مهمة وزير الفلاحة في الحكومات السابقة.
لقد جعل هذا الأمر الحكومة في مأزق، حول كيفية حل معضلة استمرار ارتفاع الأسعار، وعندما جندت وزارة الداخلية العمالات لتقوم بجولات تفتيش في أسواق الجملة والتقسيط من أجل ضبط ارتفاع الأسعار، يومها تهكمت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي التي قالت إن الأسعار انخفضت فقط في الإعلام العمومي، الذي واكب هذه الحملات التي كانت تنفذها العمالات في مختلف مناطق المملكة، وبعد فشل هذا الإجراء، بدأ الحديث عن إمكانية أن يلجأ بنك المغرب إلى رفع سعر الفائدة مرة أخرى قصد التحكم في نسبة التضخم، وتوقعت معظم الهيئات المالية الدولية أن يتوجه البنك المركزي إلى هذا الإجراء مرة أخرى، وبالفعل أعلن يوم الثلاثاء الماضي عن قرار البنك المركزي برفع سعر الفائدة الرئيسي إلى 3 في المائة بعدما كان 2.5 في المائة منذ شهر دجنبر الماضي، وبرر البنك قراره بـ”تفادي حدوث دوامات تضخمية قائمة، ولتعزيز تثبيت توقعات التضخم بغية تيسير عودته إلى مستويات تتماشى مع هدف استقرار الأسعار”.
كما تراجع بنك المغرب عن توقعاته بشأن نسبة التضخم التي قال سابقا أنها ستكون في حدود 3.9 في المائة، وأقر بأن التضخم سيظل في مستويات مرتفعة على المدى المتوسط، حيث سيصل إلى 5.5 في المائة خلال العام الجاري، نتيجة الارتفاع الحاد لأسعار بعض المنتجات الغذائية، على أن ينخفض قليلا إلى 3.9 في المائة العام المقبل، لكنه يبقى مرتفعا مقارنة بمتوسط السنوات العشر الماضية الذي بلغ 1.5 في المائة، وذكر البنك، في بلاغ صحافي عقب اجتماع مجلسه يوم الثلاثاء، أن التضخم بلغ العام الماضي 6.6 في المائة، وهو أعلى نسبة مسجلة في المملكة منذ سنة 1992.. فهل معنى هذا أن الإجراء الذي تم اتخاذه سيؤدي إلى تراجع الأسعار؟ الملاحظ أنه رغم رفع سعر الفائدة في نهاية السنة الماضية، إلا أن الأسعار ظلت مرتفعة، كما أن ارتفاع الأسعار همّ هذه المرة المواد الغذائية التي ينتجها المغرب، والتي لا تحتاج لرفع سعر الفائدة، بل لإجراءات حكومية من أجل محاربة الاحتكار.
انطلاقا مما سبق، يمكن القول أن رفع سعر الفائدة من جديد سيؤثر بشكل مباشر وبالدرجة الأولى، على بعض القطاعات، على رأسها قطاع البناء والعقار، الذي قد يعاني ركودا بفعل الرفع المرتقب للأبناك من نسبة الفائدة عند الاقتراض من أجل شراء السكن، وهو القطاع الذي يعاني أصلا من مشاكل كثيرة أولها ارتفاع أسعار مواد البناء على الصعيد الدولي.
السندات الأمريكية.. معضلة أخرى أمام المغرب
بعد رفع سعر الفائدة يبقى السؤال المطروح: كيف الحل للخروج من هذا المأزق الذي يضرب الاقتصاد العالمي وليس المغربي؟ ويقول بيتر شيف، كبير الاقتصاديين والاستراتيجي العالمي في Euro Pacific Capital، معلقا على الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية: “لا نستطيع إخراج التضخم من الاقتصاد بدون أزمة مالية كبيرة وفشل كثير من البنوك.. الجميع سيخسر الأموال، وسيكون هناك ركود مشابه لركود عام 2008، وكل ذلك من أجل احتواء التضخم، وهو أمر لا يمكن تجنبه”.
وهكذا، تخيم حالة من الهلع على تداولات الأسواق العالمية منذ مطلع الأسبوع الحالي رغم تطمينات البنوك المركزية منذ مساء الأحد 19 مارس، بعد إتمام صفقة استحواذ بنك “يو. بي. إس” على منافسه الأصغر “كريدي سويس”، وهبوط أسواق الأسهم الأمريكية والأوروبية، وكذلك الخليجية والمصرية، وسط توقعات بأن يعيش العالم أزمة أعمق من التي عاشها سنة 2008، وذلك بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية من جهة، وكذلك تداعيات جائحة “كورونا”، التي ما زالت تنخر الجسد الاقتصادي والاجتماعي للعالم من جهة ثانية.
ورغم أن الأزمة الحالية ضربت القطاع البنكي أساسا، وخلقت حالة من عدم اليقين، إلا أن تأثيرها بطريقة مباشرة، يبقى بعيدا عن المغرب، على اعتبار أن المملكة تظل بعيدة عن هذه التداعيات بحكم عدم خضوعها لنفس النمط النقدي والمالي، خاصة وأن النظام المصرفي والمالي متحكم فيه ولا يخضع لنفس القواعد.
ورغم أن الأزمة التي تضرب الأبناك العالمية الكبرى حاليا بعيدة عن المغرب، إلا أن من شأن ذلك أن تكون له تداعيات على الاقتصاد الوطني على المدى القريب، حيث أنه لا يجب إغفال جانب مهم، وهو أن المغرب يستثمر، إلى جانب العديد من الدول العربية، نسبة كبيرة من احتياطاته المالية في سندات الخزانة الأمريكية، أي الدين العام الحكومي للولايات المتحدة الأمريكية، مع الإشارة إلى أن المغرب إلى جانب العديد من الدول العربية، كان يتمسك بهذه السندات كاحتياطات استراتيجية، بوصفها استثمارات آمنة على المدى الطويل، حيث يحتل المغرب المرتبة السابعة عربيا في شراء سندات الدين العام الأمريكي باستثمارات تقارب قيمتها 3.7 ملايير دولار.
غير أن الاقتصاد الأمريكي بصفة عامة وليس فقط القطاع البنكي، يعرف أزمة منذ مدة، حيث تواجه الولايات المتحدة الأمريكية أزمة أخرى تتمثل في احتمال عدم سداد ديونها.. ففي السادس من شهر فبراير 2023، حذر بريان موينيهان، المدير التنفيذي لثاني أكبر مصارف الولايات المتحدة الأمريكية، “بنك أوف أميركا”، من أن “احتمال تخلف الولايات المتحدة الأمريكية عن سداد ديونها، بات احتمالا لا يمكن تجاهله”، وعلى هذا الأساس، اعتبر موينيهان، أن “بلدانا أخرى حول العالم يفترض أن تستعد لسيناريو تعليق سداد سندات الخزانة الأمريكية”، في إشارة مباشرة إلى مخاطر هذا الأمر على اقتصاداتها.
وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، كانت أكثر دقة في حديثها عن هذه المشكلة، حين أشارت بشكل مباشر إلى أن “الولايات المتحدة قد تتخلف عن الوفاء بالتزاماتها في أقرب وقت في شهر يونيو 2023، إذا لم تتم معالجة أزمة بلوغ الدين العام الأمريكي سقفه القانوني”.
أما نتيجة هذا الحدث المحتمل، فلن تكون – حسب الوزيرة يلين – أقل من “أزمة مالية عالمية جديدة”، وفي الوقت الراهن، تحاول وزارة الخزانة تأخير هذا الاحتمال قدر المستطاع، عبر “إجراءات استثنائية” تسمح بمواصلة دفع الفواتير إلى حين معالجة الأزمة.
بمعزل عن كل هذه التوقعات، من الأكيد أن الأزمة الراهنة ألحقت حتى هذه اللحظة الكثير من الأضرار بسوق سندات الخزانة الأمريكية، وبالمستثمرين في هذه السندات، ومنهم الدول العربية، فهذه الأزمة أدت عمليا إلى اهتزاز الثقة بالدين السيادي الأمريكي، الأمر الذي أدى إلى فقدان سندات الخزانة الأمريكية لـ 13 في المائة من قيمتها اليوم مقارنة مع بداية العام الماضي، وبذلك، خسر المغرب إلى جانب الدول العربية التي استثمرت في هذه السندات، جزءً من استثماراتها، نتيجة تراجع القيمة السوقية للسندات.
أما الصدمة الأكبر، فستحدث في حال توقف الولايات المتحدة عن سداد السندات، سواء خلال هذه السنة إذا لم يتم رفع سقف الدين القانوني، أو خلال السنوات المقبلة إذا جرى رفع هذا السقف وتكررت المشكلة مجددا، ففي هذه الحالة، من المتوقع أن تخسر سندات الخزانة الأمريكية الجزء الأكبر من قيمتها السوقية، بعد أن يتهافت المستثمرون على التخلص من هذه السندات ومحاولة بيعها، وفي حال تعليق سداد السندات، فإنه من المتوقع أن يجري تجميد دفع فوائدها أيضا، مما سيكبد المغرب إلى جانب الدول العربية التي تستثمر في هذه السندات، خسائر أكبر.