تحليلات أسبوعية

تحليل إخباري | المحكمة التي حاولت التسلل إلى المغرب وسقطت أمام بوتين

على هامش مبادرة السلام الصينية في أوكرانيا

إعداد: سعيد الريحاني

    أعلنت المحكمة الجنائية الدولية، الأسبوع الماضي، عن قرار غير متوقع، لكنه مفهوم(..)، تمثل في إصدار مذكرة توقيف في حق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نظرا لما سمته مسؤوليته في ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا(..)، ورغم أن الصحافة العالمية ركزت على صدور المذكرة في حق شخص واحد هو الرئيس بوتين، إلا أن نفس المذكرة شملت أيضا ماريا أليكسييفنا لفوفا بيلوفا، وهي المفوضة الرئاسية لحقوق الطفل في روسيا، وفي حيثيات القرار، قال مصدروه، أن الدائرة التمهيدية الثانية في المحكمة الجنائية الدولية، وقفت على ما يفيد أن الرئيس بوتين يُفترض أنه مسؤول عن جريمة الحرب المتمثلة في الترحيل غير القانوني لسكان (أطفال) والنقل غير القانوني لسكان (أطفال) من المناطق المحتلة في أوكرانيا، إلى الاتحاد الروسي”، وفي إطار “الافتراض” و”الاعتقاد”(..)، قالت المحكمة إن هناك “أسبابا معقولة للاعتقاد بأن فلاديمير بوتين مسؤول شخصيا عن الجرائم المذكورة أعلاه”.

وبغض النظر عن الصياغة القائمة على “الاحتمال” من طرف مؤسسة يفترض فيها أنها لا تترك تقدير الأمور على عواهنه، وحيث لا يفترض أن يكون هناك مجال للرأي أو الاعتقاد، الذي يندرج في إطار الشك(..)، فقد كشف هذا القرار عمليا، بداية نهاية المحكمة الجنائية الدولية على أرض الواقع، بل إن “ورطة المحكمة” في الحرب باتت أكبر من ورطة أوكرانيا، فلكي يصدق مثل هذا الكلام، على روسيا أن تخرج منهزمة من الحرب، وأن تنتهي عملية انسحاب الجيش الروسي من أوكرانيا باعتقال المسؤولين العسكريين الروس، بينما يؤكد العكس، حيث أصبح الجميع يعتقد أن “صراع القوى الغربية وحلف الناتو مع روسيا سيستمر حتى هلاك آخر مواطن أوكراني”.

إن تفسير قرار المحكمة الجنائية الدولية لا يجد سنده في قائمة الافتراضات المدرجة في تأويل القرار(..)، بل إن المحكمة حاولت من خلال قرارها الجديد، التشويش على زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لموسكو، وانظروا لحالة الشرود عند المحكمة الجنائية الدولية.. كيف يمكن أن يكون هناك أثر لهذا القرار في هذا التوقيت بالذات؟ هل يعقل أن الرئيس الصيني لا يعي ما يفعل؟ هل يعقل أن هذا البلد العملاق سيغامر برئيسه الكبير في مغامرة غير محسوبة العواقب؟

إن هذه الزيارة في هذا التوقيت بالضبط لأكبر دليل على بداية تراجع مشروع الهيمنة الغربية، وكذلك بداية نهاية الوسائل الغربية للتحكم في العالم، ومن بينها المحكمة الجنائية الدولية، التي ولدت عاجزة وستظل كذلك(..).

الرئيس الأمريكي بايدن ورئيسة المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة التي عاقبها ترامب

ولا داعي للتذكير بأن المحكمة الجنائية الدولية التي لا تعترف بها روسيا، شأنها شأن أمريكا ودول أخرى، قد سبق أن عجزت عن فتح تحقيق في “مزاعم ارتكاب جرائم إبادة” في أفغانستان من طرف القوات الأمريكية، بل أكثر من ذلك، فإن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أصدر عقوبات في حق مسؤولي هذه المحكمة عندما فكروا في فتح تحقيق فيما يجري في أفغانستان، ولم يتم طي الصفحة إلا مؤخرا في عهد الرئيس الحالي جو بايدن، حيث كتبت الصحافة بأن “إدارة الرئيس جو بايدن أعلنت عن رفع عقوبات فرضتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، على قضاة وموظفي المحكمة الجنائية الدولية”. وكانت واشنطن قد فرضت عقوبات على مدعية المحكمة، فاتو بنسودة، التي ترغب في إجراء تحقيق في جرائم حرب في أفغانستان وأشارت إلى تورط جنود أمريكيين في ارتكابها.

أقل ما يمكن أن يقال، هو أن القرار الأخير للمحكمة الجنائية الدولية، لا يخرج عن محاولة رد الشكر للرئيس الأمريكي جو بايدن، على رفعه للعقوبات الصادرة في حق موظفي المحكمة الجنائية الدولية، والتي وصلت إلى حد معاقبتهم ماليا، بعد وصفهم بـ”محكمة الكنغر”(..)، علما أن الرئيس الأمريكي كان أول المرحبين بقرار المحكمة القاضي بالدعوة إلى اعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بخلاف الصين، التي علقت على القرار قائلة: “إنه يتوجب على المحكمة الجنائية الدولية احترام حصانة قادة الدول والمسؤولين”، بل إن المتحدث باسم الخارجية الصينية وانغ وينبين، قال للصحافيين: “على المحكمة الجنائية الدولية اعتماد موقف موضوعي وغير منحاز واحترام حصانة رؤساء الدول أمام القضاء، وتفادي التسييس وازدواجية المعايير”.

وتبقى قمة الإحراج للمحكمة الجنائية الدولية والمعايير الغربية في التعاطي مع القضايا الدولية، هي أن “مذكرة توقيف بوتين” التي لا سبيل لتحققها على أرض الواقع، تزامنت مع زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ لموسكو، هذا الأخير لم يصل إلى قيادة بلاده إلا عبر أصعب السلالم في العالم، وهو “معيار الكفاءة والاستحقاق”(..).

فزيارة الرئيس الصيني تدخل في إطار “زيارة سلام”، أي أن الصين تعرض خبرتها لإيقاف الحرب في أوكرانيا، لكن أمريكا تدفع الدول الغربية لرفض جميع مقترحات إيقاف الحرب، بدعوى أن توقف الحرب يعني بشكل مباشر انتصار بوتين(..)، لذلك، فإن أول عقبة في وجه “السلام الصيني” هي أوكرانيا نفسها، التي تفضل الاستمرار في الحرب، واستجداء العطف من الدول الأوروبية لمدها بقطع السلاح والطائرات، لمواصلة المعركة.. فأي فهم عسكري هذا، بلد لا يملك الأسلحة ويريد محاربة إحدى أكبر القوى العسكرية في العالم(..)؟

إن مؤسسة دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية هي إحدى وسائل الترهيب العالمي، بسبب خروجها عن الأهداف المسطرة لها، فهي تخصصت منذ البداية في إدانة الأنظمة الإفريقية مقابل تجنب كامل للاصطدام مع الولايات المتحدة الأمريكية، لماذا لم تجرؤ هذه المحكمة على فتح تحقيق في الجرائم الأمريكية في العراق؟ لماذا تحاكم العشرات في إفريقيا ولا تقترب مما يقع في فلسطين؟.. إن الحديث عن بوتين كمطلوب دوليا من طرف المحكمة الجنائية الدولية، هو مسمار في نعشها، بل إن الدول الإفريقية ستجد اليوم مساندين كبار لها في مواجهة هذه المحكمة، وفي مقدمتهم دول لا تعترف بها مثل روسيا والصين، ماذا سيفعل قضاة هذه المحكمة عندما تتوالى التحقيقات المفتوحة ضدهم في عدة بلدان(..)؟

إن وسيلة “ترهيبية” مثل المحكمة الجنائية الدولية، لا تجد سندا لتدخلاتها إلا بعد أن تتسرب للقوانين الجنائية المحلية، لذلك لا تعترف بها الدول الكبرى، بينما يتم الضغط على الدول النامية للمصادقة عليها، وحسنا فعلت دولة مثل المغرب، عندما أوقفت مسلسل المصادقة على هذه المحكمة التي حاولت التسرب إلى القوانين الوطنية، بهدف المس الخطير بالنظام المغربي في وقت من الأوقات(..)، والشاهد على ذلك ما وقع أيام “أزمة الريف” عندما شرع بعض محاميي المعتقلين في طرق أبواب المنظمات الدولية لإدانة المغرب دوليا، وقتها قال بعض رموز الدفاع الذين كانت لهم حسابات أخرى(..): “نحن مستعدون للذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية حول الخروقات الإنسانية التي يتعرض لها المعتقلون، وحول الجرائم ضد الإنسانية التي يتعرض لها هؤلاء المعتقلين..”، بل إن التشويش وصل وقتها إلى حد الخلط بين “محكمة العدل الدولية” باعتبارها أداة من أدوات الأمم المتحدة، تهم كل الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وهي المختصة بالنزاعات بين الدول(..)، وبين المحكمة الجنائية الدولية التي تنظر في الجرائم الجسيمة التي تكون موضوع اهتمام دولي، مثل حالات ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.. ألم يقل بعض المحامين المندسين في الدفاع، إنهم على تواصل دائم مع الأمم المتحدة؟

بالنسبة لبلد مثل المغرب، ورغم أنه صادق على معاهدة روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، في عهد الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، بتاريخ 8 شتنبر 2000، إلا أنه لم يصادق بعد على نظامها الأساسي، ولا يمكنه أن يسير في هذا الاتجاه، بسبب التزاماته الإفريقية، حيث تحولت المحكمة الجنائية الدولية إلى “محكمة جنائية إفريقية”، وهو ما يفسر توالي الانسحابات منها.. ومع ذلك، فقد كانت هناك محاولات لمنحها فرصة للتدخل في شؤون المملكة عبر تسريب مقتضيات خطيرة إلى نصوص القانون الجنائي في عهد رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران، لكن عيون المغرب التي لا تنام، فطنت إلى الأمر(..)، فقد كانت ولاية بن كيران الحكومية قد شهدت في الكواليس صراعا حول مقتضيات خطيرة في ما يتعلق بمشروع القانون الجنائي، وصلت إلى حد إدراج “نصوص في مشروع القانون الجنائي تمس الملك والجيش والأجهزة الأمنية”، ما يعني عمليا محاولة اختراق المغرب من باب التشريع الجنائي، أو باستعمال نصوص القانون الجنائي على المستوى الدولي.. وسبق لـ”الأسبوع” أن نبهت إلى خطورة مسودة القانون الجنائي حول العقوبات التي تهم عناصر الجيش الملكي، والملك، والأجهزة الأمنية، فقد نصت المادة “1-448” على أنه: “يعد مرتكبا لجريمة الإبادة الجماعية ويعاقب بالإعدام، كل من ارتكب قتلا عمديا لأفراد جماعة قومية أو إثنية أو عرقية بصفتها هاته، بقصد إهلاكها كليا أو جزئيا”، ونصت المادة “3-448” على أنه: “يعد مرتكبا لجريمة ضد الإنسانية ويعاقب بالإعدام، كل من ارتكب قتلا عمديا في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد مجموعة من السكان المدنيين”، كما نصت المادة “6-448” على أنه: “يعد مرتكبا لجريمة حرب ويعاقب بالإعدام، كل من ارتكب قتلا عمديا ضد الأشخاص في إطار خطة أو سياسة عامة، أو في إطار عملية ارتكاب واسعة النطاق”.. فمثل هذه النصوص الفضفاضة هي التي تمنح لمحكمة مثل المحكمة الجنائية الدولية، فرصة للتدخل، بعد المصادقة عليها بالكامل، وكم من دولة إفريقية صادقت على هذه المحكمة فوجدت نفسها أمام “حالة اعتقال الرئيس” (تفاصيل: “الأسبوع” / عدد 23 يونيو 2016).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى