
يحل اليوم العالمي للمرأة هذه السنة على وقع فتح ملف مراجعة مدونة الأسرة التي كانت وما زالت أحد أهم المطالب الرئيسية للحركات النسائية بالمغرب، حيث شهد الحقل السياسي عدة تطورات، أهمها هجوم حزب العدالة والتنمية على عبد اللطيف وهبي، أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة ووزير العدل، بسبب تصريحاته المتكررة التي اعتبرها الحزب الإسلامي مؤيدة لمطالب الحركة النسائية، في حين نأى حزب التجمع الوطني للأحرار بنفسه عن الانخراط في النقاش وأكد أنه حزب محافظ، ويحاول هذا الملف مناقشة هذه المستجدات بالموازاة مع تخليد اليوم العالمي للمرأة.
أعد الملف: سعد الحمري
صعود الحكومة الحالية عجل بفتح ملف مراجعة مدونة الأسرة
بعد تعافي المغرب كباقي دول العالم من جائحة “كورونا” مع مطلع سنة 2022، بدأت الحياة تعود إلى وضعها الطبيعي على جميع الأصعدة، ومنها القضايا الحقوقية والتشريعية، حيث شهدت البلاد خلال السنة الأولى من عمر الحكومة الحالية، نقاشا متزايدا أكثر من السابق حول ضرورة مراجعة بعض مواد مدونة الأسرة، وخاصة خلال النصف الأول من السنة الماضية، ما جعل العديد من المنابر الإعلامية الوطنية تنبه لهذا النقاش الذي تحول إلى صراع دخلت فيه الأحزاب السياسية أيضا، فقد أشارت جريدة “الأسبوع” لهذا الأمر، وكتبت مقالا بعنوان: “عودة الصراع حول مدونة الأسرة.. تسابق خطير بين الأحزاب والنقابات”، وأكدت في هذا الإطار أنه: ((بعد الحركات النسائية وهيئات المجتمع المدني المطالبة بتعديل المدونة، قررت أحزاب سياسية، في المعارضة والأغلبية، تبني مطلب مراجعة مدونة الأسرة من خلال الفرق البرلمانية، وتنظيم اللقاءات، حيث أصبح التنافس كبيرا بين أحزاب الأغلبية والمعارضة للدفاع عن المساواة بين المرأة والرجل، ومناقشة قضايا الطلاق، وتزويج القاصرات، والإرث، وغيرها من الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية، وقد برز هذا الصراع خصوصا بعدما قرر وزير العدل عبد اللطيف وهبي، تبني ملف المساواة وتعديل مدونة الأسرة، حيث يسعى لكي يحسب له هذا الأمر باستجابته للهيئات النسائية المطالبة بمقاربة النوع)) (المصدر: الأسبوع الصحفي، 24 يونيو 2022).
وقد اتضح فيما بعد أن النقاش جاد وقوي حول مطلب تعديل مدونة الأسرة، وتجسد ذلك من خلال خطاب العرش الماضي، حيث دعا الملك محمد السادس إلى تعديل مدونة الأسرة، وقال: ((بصفتي أمير المؤمنين، فإنني لن أحل ما حرم الله ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية))، وقد لقيت دعوة عاهل البلاد ترحيبا حقوقيا، لكن مراقبين توقعوا أن تفتح الخطوة صراعا جديدا بين المحافظين والحداثيين على المدونة التي تثير نصوصها حساسية كبيرة في المملكة.
مؤشرات صراع جديد بين المحافظين والحداثيين حول مراجعة مدونة الأسرة
استقبلت معظم الأحزاب السياسية والهيئات الحقوقية والحركات النسائية الخطاب الملكي بارتياح كبير، فقد عبر الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، عن سروره بهذا الخطاب عبر صفحته على “الفايسبوك”، وتم اعتبار أن الملك انتصر للمرجعية الإسلامية في حسم الصراع في قضية إصلاح مدونة الأسرة، كما فعل لحظة الصراع بين مسيرتي الرباط والدار البيضاء سنة 2002، وبعد ذلك، أعلنت الأمانة العامة لـ”البيجيدي” – عبر بيان صدر في بداية شهر غشت الماضي – عن الانخراط في ورش مراجعة مدونة الأسرة، وقالت: ((إن حزب العدالة والتنمية سينخرط في ما قد تقتضيه مراجعة بعض بنود مدونة الأسرة إذا اقتضى الحال ذلك، وذلك في حرص تام على واجب الاحترام الكامل للشريعة الإسلامية ونصوصها القطعية، باعتبار الإسلام دين الدولة)).
وعلى غرار ذلك، ثمنت معظم الأحزاب الخطاب الملكي، حيث ثمن حزب التجمع الوطني للأحرار – في بلاغ له – عاليا مضامين الخطاب الملكي السامي الموجّه إلى الشعب المغربي بمناسبة عيد العرش المجيد، أما حزب الاستقلال، فقد أعلن عن تكوين لجنة من قياديي الحزب، ومن أطره المتخصصة في المجالات ذات الصلة، من أجل إعداد تصور للتنظيم المتعلق بمدونة الأسرة والنهوض بالمشاركة الفاعلة للمرأة في التنمية، ثم تبعه الحزبان المتبقيان من التحالف الحكومي، وهما حزب التجمع الوطني للأحرار وحزب الأصالة والمعاصرة، حيث أعلنا عن بداية العمل من أجل إعداد توصيات ومقترحات للتعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة، وكشف الحزبان بشكل متزامن، عن انكباب نسائهما على إعداد تصورات حول المراجعة التي ستهم القوانين التي تُعنى بقضية المرأة، إذ كشفت نساء التجمع الوطني للأحرار عن إعدادهن لـ”كتاب أبيض” يتضمن التوصيات، فيما كشف عبد اللطيف وهبي، الأمين العام للأصالة والمعاصرة، عن إعداد نساء الحزب لتصورهن في هذا الشأن.
وفي الجهة المقابلة، لم تكن الخرجتان الإعلاميتان لحزبي “الحمامة” و”الجرار” لتمرا مرور الكرام دون أن يعلن عبد الإله بن كيران، زعيم حزب “المصباح” عن موقف حزبه من هذا التحرك المتزامن.. فقد استغل هذا الأخير لقاء تواصليا في إطار الانتخابات الجزئية بدائرة غرسيف، ليتهم جهات لم يسمها، بالسعي إلى خراب البلاد – حسب قوله – عبر إحداث تغييرات في عدد من القوانين، كما اعتبر بن كيران أن الخطر الداهم حاليا ليس هو فقط ارتفاع الأسعار، لكن هناك ما هو أخطر، موضحا أن استقرار الأسرة المغربية صار مهددا من طرف جهات(..) حيث قال: ((هادو بغاو يعاودو يزيدو يخربقو القضية))، وأوضح أن كلامه يتعلق بمطالب تعديل مدونة الأسرة: ((إنهم يريدون تحطيم الأسس التي تنبني عليها المدونة الحالية والمستمدة من الشرع، وتغيير أحكام الإرث بادعاء تحقيق المساواة))، معتبرا أن هذه التعديلات ستحدث خللا في المجتمع إذا مُرّرت.
عبد اللطيف وهبي: الحكومة الحالية حكومة حداثية وستقارب مدونة الأسرة بهذا الفكر
مع مطلع السنة الجارية، وبعد مرور أربعة أشهر على الخطاب الملكي، تجدد الجدل من جديد حول مراجعة مدونة الأسرة.. فقد استضاف البرنامج الحواري “نقطة إلى السطر” الذي تبثه قناة “الأولى”، عبد اللطيف وهبي وزير العدل والأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة، المشارك في الحكومة، وهذا الأخير صرح بالتالي: ((جئنا من أجل إصلاح مدونة الأسرة بفكر حداثي وجئنا للحكومة بعد مرور المحافظين))، مشيرا إلى أنه ((سيكون هناك صراع بين الفكر الحداثي والفكر المحافظ حول مدونة الأسرة المراد إحداث بعض الإصلاحات داخلها)).. فهل تحدث الرجل باسم حزبه فقط، أم باسم الحكومة ككل؟ حيث حل عبد اللطيف وهبي على البرنامج بصفته وزيرا للعدل، ويفهم من كلام الرجل أن الحكومة الحالية بكل مكوناتها حداثية، عكس الحكومة السابقة، التي كان يقودها حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، والتي كان مشاركا فيها حزب التجمع الوطني للأحرار قائد الائتلاف الحكومي الحالي.
لقد جعل هذا الأمر حزب العدالة والتنمية يهاجم عبد اللطيف وهبي دون الحكومة الحالية، وخصوصا فيما يتعلق بتصريحاته حول التعديلات المرتقبة للقانون الجنائي، فقد كتب الموقع الإلكتروني للحزب ما يلي: ((عبر منتدى الزهراء للمرأة المغربية، عن استغرابه الكبير بخصوص التصريحات المتكررة لوزير العدل حول التعديلات المرتقبة للقانون الجنائي دون الإعلان عن أي وثيقة في الموضوع، وهو ما يعني أن الحكومة قامت بسحب مشروع القانون الجنائي من البرلمان وضمنه المقتضيات الجديدة المتعلقة بالإجهاض والتي كانت محل تشاور وطني وصدر بصددها بلاغ للديوان الملكي، دون أن يتم طرح أي مشروع أو مسودة للنقاش العمومي، وطالب المنتدى بالإسراع باعتماد المنهجية التشاركية وتفعيل آليات التشاور العمومي قبل الإعلان عن أي تعديلات جديدة تتعلق بمشروع القانون الجنائي)) (المصدر PJD .ma بتاريخ 7 فبراير 2023).

ردا على تصريح وهبي كون “التجمع الوطني للأحرار حزب محافظ”
وفي خضم هذه المواجهة التي أصبحت مباشرة بين عبد اللطيف وهبي وحزب العدالة والتنمية، جاء “إعلان الرباط” الصادر عن المناظرة الوطنية حول موضوع “المغرب بالمؤنث.. مدونة الأسرة بين استعجالية الإصلاح والمقاومات الثقافية والاجتماعية”، والذي صدرت عنه توصيات، وهو الأمر الذي جعل حزب العدالة والتنمية يعقد اجتماعا استثنائيا يوم 24 فبراير 2023، تدارس خلاله ما قال إنه ((مستجد خطير يتعلق ببعض الدعوات التي بدأت تطلع علينا في الآونة الأخيرة بخصوص مدونة الأسرة، والتي تجرأ بعضها على الدعوة الصريحة إلى المناصفة في الإرث ضدا على النص القرآني الصريح المنظم للإرث))، وأصدر الحزب بيانا أدان هذه الدعوات، في المقابل، ثمن الحزب ((النقاش العمومي والحوار المسؤول الذي يميز عمل مجموعة من الفاعلين الذين يقاربون إصلاح مدونة الأسرة في احترام تام للثوابت الجامعة للأمة المغربية وللإطار الذي حدده جلالة الملك لهذا الإصلاح)).
وقد خلف بيان حزب العدالة والتنمية صداما قويا مع الحركة النسائية، حيث صرحت الناشطة في الحركة النسائية، بشرى عبدو، لموقع “الحرة” الأمريكي بما يلي: ((لن يرهبنا أحد من أجل التعبير عن مواقفنا أو السكوت عنها أو حذفها من مطالبنا، كموضوع الإرث أو مواضيع أخرى))، وأضافت أن ((الحركة النسائية في إطار نضالها، تطرح هذا الموضوع إلى جانب مواضيع أخرى))، مستغربة رفض حزب العدالة والتنمية للنقاش والحوار كلما طرحت هذه القضية، وتابعت الناشطة الحقوقية، أن ((الدستور المغربي في الفصل 14، يحث على المساواة في جميع المجالات، وهناك اتفاقيات دولية وقع عليها المغرب، وحان الوقت من أجل ملاءمة قانون الأسرة معها، كي نحقق هذا المطلب، وهو مطلب إنساني وواقعي)).
ثم عاد الأمين العام لـ”البيجيدي” ليوجه سهام نقده نحو المطالب التي ترفعها الحركة النسائية بخصوص المساواة في الإرث، في كلمة له ضمن اللقاء الخاص بمستشاري حزبه يوم 26 فبراير الماضي، قائلا أن أحكام الإرث منظمة في القرآن الكريم ولا حاجة للاجتهاد بخصوصها، وبعدما اعتبر أن “المطالب التي يتم رفعها تعد تخربيق”، شدد على أن النصوص القرآنية في أحكام الميراث قطعية، مؤكدا أن ((الأحكام قطعية منصوص عليها بشكل قطعي في كتاب الله، وفي آيات لا تقبل الجدال والنقاش)).
وفي نفس يوم إصدار حزب العدالة والتنمية لبيانه، أدلى حزب التجمع الوطني للأحرار بدلوه في تصريحات عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، حول تعديل القانون الجنائي، ومدونة الأسرة، وذلك من خلال مصطفى بايتاس، الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان الناطق الرسمي باسم الحكومة، الذي حل ضيفا على “مؤسسة الفقيه التطواني” بسلا، حيث أكد أن ما يجمع حزبه بحزب الأصالة والمعاصرة هو اجتماعات القوانين والمراسيم التي تتم المصادقة عليها داخل المجلس الحكومي، ولم يتردد بايتاس في وصف حزب التجمع الوطني للأحرار بـ”المحافظ، الحريص على المرجعية الإسلامية”، مؤكدا أن حزب الاستقلال ليس وحده محافظا داخل الحكومة، في رد صريح على تصريحات وهبي لقناة “الأولى” والتي وصف من خلالها الحكومة بأنها “حداثية”.
من جهة أخرى، كشف مصدر قيادي من حزب التجمع الوطني للأحرار، في حديث مع “هسبريس”، أن ((الحزب لا يؤيد التصريحات التي يدلي بها وزير العدل حول مدونة الأسرة وبعض مقتضيات القانون الجنائي))، وأضاف: ((نحن حريصون على المحافظة على المرجعية الدينية للمجتمع، ولا يمكن أن نهدم ما بناه المغاربة منذ أزيد من 12 قرنا))، مشددا على أن ((القضايا الهوياتية ليست من أولويات المغاربة الآن، كما ذكر القيادي ذاته بما تضمنه بيان المجلس الوطني لحزب التجمع الوطني للأحرار في دورته الأخيرة، من تأكيد على محورية قضايا حقوق المرأة المرتبطة بالعدالة والتمكين الاقتصادي في إطار الأسرة المغربية كنواة مجتمعية صلبة، كمدخلين أساسيين لتثمين أدوارها الاجتماعية والاقتصادية والدفع بعجلة التنمية)) (المصدر: هسبريس: 24 فبراير 2023).
لقد اتضح أن ما عبر عنه مصطفى بايتاس هو توجه حزب التجمع الوطني للأحرار الرسمي، وذلك من خلال الكلمة الافتتاحية لرئيس الحزب، عزيز أخنوش، ضمن فعاليات القمة الثانية للمرأة التجمعية التي انعقدت بمراكش، حيث حدد القضايا التي ينظر حزبه إليها ضمن مدونة الأسرة، وهي زواج القاصرات، والولاية الشرعية للأطفال، والملاحظ أن الحزب نأى بنفسه عن قضية الإرث، التي أغضبت حزب العدالة والتنمية.
كما أكد رئيس الحكومة، أن هذه القضايا يجب أن تعالج ضمن إطار إمارة المؤمنين، وعبر عن ثقته في أن ((الاجتهاد الفقهي المغربي الذي أبان عن تفرده في إطار إمارة المؤمنين، سيبدع مجددا إصلاحات تواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وترتقي إلى مستوى الطموحات الحقوقية))، ليخلص إلى أن ((الحصيلة الإيجابية لـ 20 سنة من الممارسة في إطار مدونة الأسرة، تستدعي التفكير في الجيل الجديد من الإصلاحات التي يجب اعتمادها في الصيغة الجديدة من المدونة، تماشيا مع طلب الملك)).
مازال حزب العدالة والتنمية يصر على عدم المساس بنظام الإرث، وخصوصا القضايا التي فيها نصوص قطعية، وهو ما اتضح من خلال بيان جديد صدر يوم 7 مارس، كما أن حزب التجمع الوطني للأحرار أكد أنه محافظ.. فهل ستفتح هذه التطورات مجال الصراع بين حزب العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة دون غيره، أم أن التضامن الحكومي يفرض على حزبي الاستقلال والتجمع الوطني للأحرار مساندة شريكهما في الحكومة ؟