تحليلات أسبوعية

ملف الأسبوع | تشكيل محور “مدريد الرباط” لمواجهة محور “باريس الجزائر”

يقول موحد الأمة الألمانية، أوتو فون بيسمارك (1 أبريل 1815/30 يوليوز 1898): “كل شيء قابل للتغيير إلا الحدود المشتركة”، والحقيقة أن الجار هو الشيء الوحيد الغير قابل للتغيير والاستبدال، وإذا تأملنا في حدود المغرب مع جيرانه، فإننا يلاحظ أنه يعيش في جزيرة محاصرة بلغة الأستاذ عبد الله العروي، حيث له حدود على طول الشرق من الشمال إلى الجنوب مع الجزائر، أما شمالا فتحده إسبانيا، ومنذ حصول المغرب على استقلاله، ظلت علاقاته مع جيرانه مطبوعة بالتوتر وعدم البناء على الجوار سياسيا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا وأمنيا، من أجل إنجاز مشاريع للاستفادة من الثروات المشتركة للدخول في برامج تنموية مشتركة، رغم الإمكانيات الهائلة.

أعد الملف: سعد الحمري

    إذا كانت العلاقات مع الجزائر من الصعب، إن لم نقل مستحيل على المدى القريب والمتوسط، جعلها طبيعية، والدخول في مشاريع تنموية مشتركة، فإن الوضع بدأ يتغير مع الجارة الشمالية، المملكة الإيبيرية، وذلك انطلاقا من إقرار هذه الأخيرة، قبل ما يقارب السنة من الآن، بدعم مخطط الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب كحل لأزمة الصحراء.. فهل يتعلق الأمر بثورة في العلاقات بين بلدان الاتحاد الأوروبي وشمال إفريقيا؟ فبعدما كان هناك حديث عن محور “باريس الرباط” في مواجهة محور “مدريد الجزائر”، هل تنقلب المعطيات رأسا على عقب ويصبح الحديث عن محور “الرباط مدريد” في مواجهة محور “باريس الجزائر”؟

هذا ما يحاول هذا الملف طرحه.

نهاية محور “مدريد الجزائر” بعد ثلاثة عقود من الزمن

    بدأ محور “مدريد الجزائر” منذ ثلاثة عقود، وظل صامدا طوال هذه المدة من أجل عرقلة وإضعاف المغرب، والغريب في الأمر، أن هذا المحور بدأت بوادره وإرهاصاته الأولى بين البلدين في المغرب، وذلك يوم 25 يوليوز 1999، خلال جنازة الملك الراحل الحسن الثاني، التي حضرها الرئيس الجزائري الجديد آنذاك، عبد العزيز بوتفليقة، الذي بدأ مهامه قبل أشهر أي يوم 27 أبريل 1999، إلى جانب رئيس الوزراء الإسباني خوسيه ماريا أثنار، وخلال السير في جنازة الملك الراحل، حدث أول لقاء بين الرجلين، وذلك عندما نادى الرئيس الجزائري مخاطبه الإسباني قائلا: “يا حفيد صاحب أفضل خطاب في الأمم المتحدة”، وكان يقصد وزير الخارجية الإسباني السابق، الذي ألقى خطابا خالدا منددا بالعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 بمقر الأمم المتحدة.

ومنذ تلك اللحظة، بدأت العلاقات بين الرجلين تتطور بقوة بفعل قاسم مشترك بينهما، وهو العداء للمغرب، ومنذ تلك اللحظة، عمل الرجلان على إضعاف المغرب عبر خلق محور “الجزائر مدريد”، وكانت كلمة السر حينها هي الغاز الجزائري، على اعتبار أن الجزائر كانت مصدر الغاز الطبيعي لشبه الجزيرة الإيبيرية.

ولم يمر وقت طويل على العلاقة القوية بين الرجلين، حتى تمت ترجمتها على أرض الواقع، حيث وقع البلدان بالعاصمة الإسبانية مدريد، خلال شهر أكتوبر 2002، على معاهدة “حسن الجوار”، والتي نصت على ((تعزيز الحوار السياسي بين البلدين على جميع المستويات، وتطوير التعاون في المجالات الاقتصادية والمالية والتعليمية والدفاعية، إضافة إلى احترام القانون الدولي، والمساواة في السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرفين، وكذا الامتناع عن اللجوء إلى القوة أو التهديد باستخدامها عند أي خلاف، ثم تسوية المنازعات بالوسائل السلمية، والتعاون من أجل التنمية، بالإضافة إلى احترام البلدين لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للشعبين، والعمل على تنمية الحوار  بينهما)).

كما ألزمت المعاهدة الطرفين، بـ((تعزيز التعاون بين قواتهما المسلحة، مع إيلاء اهتمام خاص لتبادل الوفود، وعقد دورات التدريب والتحسين، وتنظيم التدريبات المشتركة)).

ومنذ التوقيع على هذه الاتفاقية، تعمقت العلاقات بين البلدين، وخصوصا العداء تجاه المغرب بشأن قضية الصحراء المغربية، حيث ظل رئيس الوزراء الإسباني بمثابة ناقل وجهة نظر الرئيس الجزائري إلى الرئيس الأمريكي جورج بوش، بخصوص قضية الصحراء، من أجل فرض حل آخر غير الحل الذي كان قد بدأ الحديث عنه خلال مطلع الألفية الثالثة، وهو مخطط الحكم الذاتي.

كما دعمت الجزائر كثيرا إسبانيا، وخصوصا نزاع هذه الأخيرة مع المغرب حول سبتة ومليلية المحتلتين، واستمر الأمر على ما هو عليه إلى أن قررت إسبانيا مطلع العام الماضي، تغيير موقفها جذريا من قضية الصحراء المغربية، عندما أعلنت عن دعمها الصريح لمخطط الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب كحل لهذا النزاع المفتعل الذي عمر لعقود.

وقد جعل هذا الأمر الجزائر تقدم على خطوة كانت بمثابة الطلاق العلني بين الحليفين اللذين عملا على محاصرة المغرب لسنين طويلة، حيث أعلنت الرئاسة الجزائرية، في شهر يونيو 2022، عن تعليق معاهدة “الصداقة وحسن الجوار والتعاون” التي أبرمت عام 2002 مع إسبانيا بعد تغيير موقفها بشأن الصحراء المغربية لدعم موقف المغرب، وعلى إثر ذلك، قالت مصادر دبلوماسية إسبانية: ((إن الحكومة الإسبانية تأسف لإعلان الرئاسة الجزائرية))، مضيفة أن ((إسبانيا تعتبر الجزائر دولة مجاورة وصديقة وتكرر استعدادها الكامل للاستمرار في الحفاظ على علاقات التعاون الخاصة بين البلدين وتنميتها))، غير أن السلطات الإسبانية لم تقدم منذ تلك المرحلة على أي خطوة من أجل التقارب مع الجزائر ولو بشكل محتشم.

 

ماكرون في الجزائر

 

بوادر تشكل محور “الرباط مدريد”

    مع انتهاء محور “مدريد الجزائر”، بدأت ملامح محور “الرباط مدريد” في الظهور تدريجيا بعدما كانت محتشمة في البداية، حيث كان الموقف الإسباني خلال اجتماع مجلس الأمن الأخير حول الصحراء المغربية، مناقضا للموقف المعبر عنه في شهر أبريل 2022، ما جعل وزير الخارجية الإسباني يوضح دوافع الموقف الإسباني من القضية خلال اجتماعات مجلس الأمن، وأكد أن موقف مدريد هو المعبر عنه يوم 7 أبريل الماضي.

ثم ظهر أن محور “مدريد الرباط” أصبح واقعيا وحتميا، واتضح ذلك عندما اصطفت إسبانيا إلى جانب المغرب ضد فرنسا، التي تحركت داخل أروقة الاتحاد الأوروبي لاستصدار قرار إدانة للمغرب على خلفية ما أسموه “وضعية الصحافة بالمملكة المغربية”، حيث صوت 17 نائبا من الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، الذي يقوده رئيس الحكومة بيدرو سانشيز، ضد قرار البرلمان الأوروبي في حق المغرب.

ولم يقتصر موقف الجارة الشمالية فقط على تصويت نوابها ضد قرار البرلمان الأوروبي، بل تعدى الأمر ذلك.. ففي اليوم الذي صوت فيه البرلمان الأوروبي على القرار، صرح وزير الخارجية الإسباني خوسي مانويل ألباريس، الذي كان يقوم بزيارة إلى نيجيريا، بأن بلاده مهتمة بخط أنابيب الغاز الذي تطوره نيجيريا مع المغرب، في رسالة واضحة للاتحاد الأوروبي، بأن حل أزمة الغاز على المستوى البعيد هو عن طريق المغرب وليس غيره، وأن إسبانيا ستمضي قدما في سبيل هذا المشروع، وجاء هذا التصريح في اليوم الذي قامت فيه رئيسة الوزراء الإيطالية بزيارة إلى الجزائر من أجل بحث رفع هذه الأخيرة من حجم صادراتها من الغاز إلى إيطاليا، للمساهمة في حل أزمة الغاز.

وهكذا استمرت الرسائل الإسبانية القوية لفرنسا.. فبعد يوم واحد من قرار البرلمان الأوروبي الذي يدين وضعية حرية الصحافة في المغرب، التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، برئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، وخلال المؤتمر الصحفي الذي جمع الطرفين، أكد سانشيز أن علاقات بلاده بالمغرب في صحة جيدة، وقال في المؤتمر الصحفي: ((لم يشارك الاشتراكيون الإسبان في قرار البرلمان الأوروبي مع بقية أعضاء البرلمان كما يحدث عادة))، وأضاف أن ((القمة المنتظرة بالمغرب مهمة جدا لإسبانيا، كما أن علاقاتنا الثنائية هي بصحة جيدة))، وبناء عليه، يمكن اعتبار هذا التصريح رسالة من إسبانيا إلى فرنسا وأوروبا بأن القمة المشتركة العليا المرتقبة مع المغرب ستكون منعطفا حقيقيا في تاريخ العلاقات بين البلدين، وأيضا يمكن التقاط إشارة أخرى، وهي عندما قال أمام الرئيس الفرنسي بأن العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا بصحة جيدة، فإنه كان يقصد بأن القرار الأوروبي تقف وراءه فرنسا التي لها علاقات ليست جيدة مع المغرب، وعلى هذا الأساس، لا يمكن حشر إسبانيا في تصفية حسابات سياسية بين المغرب وفرنسا.

لم تتوقف الرسائل الإسبانية عند هذا الحد، بل استمرت، وهذه المرة تغير توجيه الخطاب من فرنسا إلى أوروبا مجتمعة، فبعد يوم واحد من لقاء رئيس الوزراء الإسباني والرئيس الفرنسي، جدد وزير الخارجية الإسباني التأكيد على أهمية المغرب بالنسبة لإسبانيا أولا ثم أوروبا ثانيا، وذلك خلال تصريح أدلى به للإذاعة الوطنية الإسبانية، حيث قال: ((إن إسبانيا وأوروبا والمغرب يتقاسمون مصالح حيوية))، مؤكدا أن ((المملكة المغربية جار وشريك استراتيجي لإسبانيا ولأوروبا))، وأضاف: ((نتقاسم مع المغرب إدارة وضبط الهجرة السرية، ومكافحة الفكر الجهادي، والالتزام بالتنمية المشتركة والاهتمام بإفريقيا))، وأشار رئيس الدبلوماسية الإسبانية إلى أنه ((بدون تعاون المغرب، لا يمكن لإسبانيا وأوروبا تفكيك الخلايا الجهادية والقبض على الإرهابيين)).

أما بخصوص العلاقات المغربية الإسبانية، فقد سجل نفس المتحدث أن ((الاجتماع رفيع المستوى المقبل بين المغرب وإسبانيا، سيشكل لحظة مهمة للغاية في العلاقات بين البلدين، لأن الرباط ومدريد دخلتا مرحلة جديدة بقواعد أكثر متانة))، وأردف: ((لدينا العديد من المصالح الحيوية التي يجب تدبيرها بشكل مشترك، ويندرج الاجتماع رفيع المستوى في إطار خارطة الطريق الإسبانية المغربية التي تم اعتمادها في شهر أبريل الماضي بمناسبة زيارة رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز إلى المغرب))، موضحا، أنه منذ ذلك الحين، تم تشكيل جميع مجموعات العمل الثنائية.

نفس الخطاب كرره رئيس الحكومة الإسبانية أياما بعد ذلك، عند حلوله بجلسة للكونغريس الإسباني يوم 25 من الشهر الماضي، حيث اعترف بأنه ((من الملائم لإسبانيا وللاتحاد الأوروبي الحفاظ على أفضل العلاقات مع المغرب للسيطرة على تدفقات الهجرة))، كما بعث ثلاثة رسائل أساسية: أولها، أن الشراكة مع الرباط كان لها أثر كبير على المبادلات التجارية (ارتفاع التجارة مع المغرب إلى حوالي 10.000 مليون يورو، بزيادة 33 في المائة مقارنة مع العام الماضي)، وثانيها، تراجع نسبة الهجرة غير النظامية بين البلدين (تراجعت طريق الهجرة السرية من المغرب الى إسبانيا بنسبة 25.6 في المائة) والثالثة، أن هذه العلاقات ساعدت في الحد من التهديد الإرهابي (التنسيق لتفكيك خلية إرهابية تابعة لداعش تنشط بين البلدين).

ويبدو أن إصرار إسبانيا على مخاطبة أوروبا بأهمية المغرب بالنسبة لها، أعطى أكله بسرعة كبيرة، فقبل يوم من انطلاق اجتماع اللجنة العليا المشتركة بين المغرب وإسبانيا، أعلن المفوض الأوروبي المكلف بسياسة الجوار والتوسع، أوليفر فاريلي، عن قيامه بزيارة رسمية إلى المملكة المغربية يوم 20 فبراير الجاري، من أجل التأكيد على استمرار التنسيق بين المغرب والاتحاد الأوروبي في مجالي الهجرة وحسن الجوار.

 

لوكورنو وزير الدفاع الفرنسي رفقة شنقريحة

 

هل نشهد ميلاد محور “الرباط مدريد” مقابل محور “باريس الجزائر” ؟

    ومن جهة أخرى، يسود تفاؤل كبير داخل الأوساط الرسمية الإسبانية، وتعقد آمال كبيرة على هذا الاجتماع الثنائي المنعطف في تاريخ العلاقات بين البلدين.. ففي كلمته أمام أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد في بلاده، قال العاهل الإسباني عن هذا الاجتماع: ((إنه سيتيح تعميق علاقاتنا الثنائية واسعة النطاق من أجل العمل معا على أسس أكثر متانة))، كما اعتبر وزير الخارجية الإسباني قبل أسابيع أنه ((سيبلور المرحلة الجديدة للعلاقات الثنائية التي بدأت بعد اعتماد الإعلان المشترك ربيع العام الماضي))، وإضافة لذلك، وصفت مصادر حكومية إسبانية الاجتماع بأنه ((تاريخي، ويمكن أن يختم علاقة ثنائية تقضي إلى الأبد على الأزمات الدبلوماسية)).

قد توحي هذه التصريحات المتفائلة من الجانب الإسباني بأن المملكة الإيبيرية ستحقق منه مكاسب تاريخية على حساب المغرب، خاصة وأنه تسربت عدة نقاط تبدو في مصلحة الجانب الإسباني، وهي أن الجارة الشمالية رفضت التخلي عن مراقبة المجال الجوي في الصحراء المغربية لمصلحة المغرب رغم إعلانها عن دعم مخطط الحكم الذاتي، إلى جانب تصريح وزير خارجيتها علنا بأن سبتة ومليلية المحتلتين مدينتان إسبانيتان، وأنهما سيتحولان إلى مركزين جمركيين بين البلدين، ومعناه إضفاء الطابع الإسباني على المدينتين.

غير أنه ساد صمت رهيب من الجانب المغربي، خاصة وأنه مجرد تصريح بسيط حول وضعية المدينتين سابقا، معناه أزمة دبلوماسية بين البلدين.. فلماذا هذا الصمت من الجانب المغربي؟ هل لأن مكاسبه أكبر مما ستحققه إسبانيا؟ وما هي هذه المكاسب؟ وما مدى قدرة هذا الاتفاق على ضمان تجاوز الخلافات الدورية؟ وهل من شأن هذا الاتفاق أن يخلق محورا قويا اسمه “الرباط مدريد”؟

لا شك أن الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة عن هذه الأسئلة.

ومن جانب آخر، هل تسير الأمور في اتجاه محور “باريس الجزائر”؟ فظاهريا قدمت الجزائر تنازلات كثيرة لباريس.. حتى أن هناك حديثا عن أن الجارة الشرقية ستشتري الأسلحة الفرنسية عوض الأسلحة الروسية في صفقات قياسية، وهو الأمر الذي يبدو أنه أغضب موسكو التي نشرت وزارة خارجيتها خريطة المغرب كاملة على موقعها الإلكتروني.. فهل نشهد موقفا فرنسيا جذريا من قضية الصحراء المغربية؟ لا يمكن استبعاد أي فرضية في ظل تحولات وانقسامات أعمق يعيشها الاتحاد الأوروبي، خاصة بين قطبيه فرنسا وألمانيا، ثم أضيفت إسبانيا كقوة صاعدة جديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى