تحليلات أسبوعية

تحليل إخباري | صحافة بدون زعيم

عامان على رحيل صاحب "الحقيقة الضائعة"

لكل إنسان تاريخ ميلاد وتاريخ للوفاة، لكن الراحل مصطفى العلوي توفي في نفس اليوم الذي ولد فيه، يوم 28 دجنبر، مع فارق يقدر بـ 83 سنة، كانت كفيلة بصنع أبرز صحافي مستقل في عهد ثلاثة ملوك، بل إن الصحافة الورقية كانت تكتسب طعما آخر مع الراحل، وكل تجربة كان لها مذاقها الأصيل، من “المشاهد”، إلى “الأسبوع الصحفي”، مرورا بـ”أخبار الدنيا”، و”دنيا الأخبار”، و”الدنيا بخير”، و”ستة أيام”، و”أطياف”، و”الكروان”، ويومية “المساء”، و”بريد المغرب”، و”فلاش ماغازين”، و”الكواليس”، و”تورف”، و”الأسبوع الصحفي والسياسي”..

 

إعداد : سعيد الريحاني

تتمة المقال بعد الإعلان

 

    الصحافة كانت بمثابة معطف حرص الراحل على ارتدائه حسب الفصول، فالتأقلم، والفهم الجيد للمرحلة كان أبرز سمات الراحل مصطفى العلوي، الذي يشهد له مقربوه بعشقه للصحافة، لدرجة أنه كان يتذكر قراءه حتى ولو كان على فراش المرض، فإيصال الخبر إلى القارئ كان يستحق كل التضحيات بالنسبة لهذا النوع من الصحافيين، الذين يجمعون بين “أصالة الأمس” وخفة دم “أولاد اليوم”.

لم تنته الرحلة مع القيدوم رغم الظلم، ورغم أن للمدرسة أعداءها في كل زمن، حيث كان الراحل يؤدي ثمن مواقفه(..)، ولكن الرحلة مع “المؤسس”، أطول مما يمكن أن يعتقده أي صحفي آخر، لأنه كان يصنع حياة أخرى لا تنتهي، عبر تجوله في دروب التاريخ، لذلك فمتعة قراءة “الحقيقة الضائعة”، أو مقالات أخرى، لم تكن لتنتهي بوفاة صاحبها، بل إن الصحافي هنا، يصبح بـ”مثابة الزعيم المرشد”.

تتمة المقال بعد الإعلان

اليوم تعيش الصحافة الورقية أصعب أيامها، لكن الحديث عن القيدوم المؤسس للنقابة الوطنية للصحافة، ارتبط بمجد هذه الصحافة، وخاصة المستقلة منها، حيث كانت جرائده تمثل حال “لسان الشعب” وصوت الأغلبية الصامتة، التي تحدث عنها في كتاب مستقل، بل إن الراحل كان صحفيا وطنيا، وظل يخط على الجانب، كتبا تحت عنوان: “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية”، وفي كل مرة كان يقدم لقرائه طبقا تحت عنوان، من قبيل “مولاي حفيظ.. سلطان الجهاد”، “الجهاد الأكبر”، أو “محمد الخامس”، ولأنه كان يمارس نوعا من الصحافة الفاخرة، فقد كان من الطبيعي أن تضم خزانته كتبا ألفها حول “ما يجري ويدور بقصور السلاطين”.

لكي تفهم الراحل مصطفى العلوي، صاحب السبق، عليك أن تقرأ التاريخ، فمقالاته محرجة حتى للمؤرخين، الذين يتلاعبون بالتاريخ، وما أكثر المتلاعبين، حيث يقول على سبيل المثال: ((غريب أن المؤرخين المغاربة وقفوا عند موت الملك العظيم، الحسن الأول، وكسروا أقلامهم، وأخرسوا ألسنتهم، وأكيد أن كل المفكرين والرجال الواعين، تركوا الكتابة لحمل السلاح، بعد أن أحاط الأعداء بالمغرب من كل جانب، وبعد أن طفح كيل المناورات الأجنبية لتمزيق السيادة المغربية، ولكن ما هو أكثر حدة من هذا التأكيد، هو ككل الضغط الذي أناخ على الشعب المغربي، بعد موت الملك العظيم سنة 1894، حين جاءت فلول العساكر الفرنسية، وضباطها المشبعون بالروح الاستعمارية، وضربوا بالسوط الحديدي على ظهور المغاربة مباشرة أو بواسطة جلاديهم، من جزائريين، أو علماء مغاربة.. وما عرفه الشعب المغربي قبل الاستقلال من نفي ملكهم الرافض للاستعمار، جلالة محمد الخامس، إلا إعادة للسيناريو الذي دخلوا عبره للمغرب ابتداء من سنة 1900)) (المصدر: كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية/ الجهاد الأكبر” 1900).

الراحل مصطفى العلوي أيام الشباب يستجوب عبد الله إبراهيم رئيس أول حكومة اتحادية في المغرب

متعة القراءة رفقة الراحل مصطفى العلوي، لا توجد في كتبه فقط، بل يمكن استشعارها أيضا في رحلته الدائمة عبر عمود “الحقيقة الضائعة”، وقد كانت إحدى حقائق العلوي، هي حديثه عن “حقيقة الاستعمار”، والحكاية كما رواها تقول: ((قديما.. وفي زمن الحشمة والاحترام، وهما نموذجان لما كان يسمى قديما الأخلاق، التي قال عنها الشاعر: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت.. فإن هُمْ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.. في ذلك الزمان، كان أجدادنا طيب الله ثراهم، يقولون: “من أجل الكتاب تُباس الجلدة” ومن بين حكايات الاحترام، وعدمه، قصة ذلك العسكري الفرنسي الصلف، أيام الاستعمار، وكانوا ينظرون إلى المغاربة نظرة الكلاب إلى البشر، حين توقفت مجموعة عسكرية من ضباط الجيش الفرنسي مدججين بالأسلحة.. واستوقفوا سيارة على أطراف شاطئ تمارة، يركبها ثلاثة شبان مغاربة.. ويسوقها شاب معروف مؤكدا بأنه ينتمي للقصر الملكي، مادامت السيارة تحمل بدل رقمها رسما لنجمة خضراء.. عرف واحد من الضباط الفرنسيين أن سائقها هو الأمير مولاي الحسن، ابن الملك محمد الخامس، فتقدم رئيس الضباط الفرنسيين بعجرفة بادية وقال للأمير: “واحمد (هكذا) انزل من السيارة” سنأخذها لنذهب بها للبحث عن ضباط طيارين فرنسيين سقطت بهم الطائرة في شاطئ تمارة وهم في خطر، فأجابه مولاي الحسن: إني أرفض. وربما رفض الأمير، لأن العسكري بدل أن يتأدب معه ناداه وهو يعرفه بكلمة: واحمد، واتضحت سوء نية الضابط الفرنسي فيما بعد، واسمه تراييت، حين كتب تقريرا مؤرخا بـ 25 يوليوز 1945 إلى الإقامة العامة، يقول فيه: “إن الأمير مولاي الحسن الذي كان يركب سيارة تابعة للقصر الملكي، رفض إعطاء سيارته لإنقاذ حياة ضابطين فرنسيين سقطت بهما الطائرة فوق شاطئ تمارة، ولقد صدمت، كما صدم كل الفرنسيين الحاضرين، بانعدام الرغبة عند هذا الأمير في إنقاذ حياة ضابطين فرنسيين” (تقرير الضابط تراييت/ أرشيف للإقامة العامة).

تتمة المقال بعد الإعلان

لم يذكر التقرير شيئا عن قلة أدب الضابط الفرنسي الذي سمى الأمير باسم احمد، وكانوا أيام الاستعمار يحتقرون المغاربة جميعا، ولكن الصحافة الفرنسية سارعت لشن حملة شعواء على الأمير: “صاحب السمو الملكي لا تهمه حياة الناس المهددة” (جريدة لورور باريس/ عدد 29 يوليوز 1947)) (المصدر: “الأسبوع” عدد 28 أبريل 2011/ “الحقيقة الضائعة” بعنوان: “شياطين الأنظمة”).

بين الاستعمار والملكية، حكايات كثيرة، يتم فيها الحديث عن الشعب أيضا.. فمن هو الصحفي الذي سيكتب اليوم عنوانا من قبيل: “الملكية الثانية.. حتى لا يفلت العرش من العلويين”، من سيكون شجاعا حتى يقدم النصيحة للنظام، من قلب النظام، ودون الارتماء في أحضان أجندات أخرى(..)؟ بل إن سند الراحل كان هو التاريخ، ((فعندما خاف الملك الحسن الثاني على العرش، في سنوات ملكه الأولى، من فوضى الأحزاب السياسية، في زمن كانت فيه الأحزاب هي التي تحرك الفوضى، وبثمنها تشتري الاستقرار.. أعلن رحمه الله حالة الاستثناء، ليشمر على ذراعيه، أما الأطروحة المبررة لحالة الاستثناء التي طالبت بها الجماهير المتظاهرة، عبر رغبتها في تغيير الدستور، وإسقاط الحكومة وإغلاق البرلمان، فقد قدمها واحد من كبار العلماء المغاربة، والعلماء كانوا دائما ضامنين للبيعة(…)، وهو الأستاذ الباحث مستشار الفقه الإسلامي في مجمع جدة(…)، أحمد الريسوني، والذي دعا الملك محمد السادس إلى إعلان الملكية الثانية انطلاقا من أن: “ثورة الملك والشعب الأولى أعلنها الملك محمد الخامس وثورة الملك والشعب الثانية، يجب أن يقودها الملك محمد السادس، وأننا بحاجة ماسة إلى الدخول في عهد الملكية الثانية”، وإذا كان بعض المخربقين(…) دعاة الاستمرار والتمديد لزمن الأكل والتمخميخ(…) وحياكة المؤامرات وأساليب الانتقام من كل من يلمح إلى الإصلاح، سيقولون أن الفقيه الريسوني يحكي روايات المتطرفين(…)، فإن دبلوماسيا مغربيا سابقا من الجيل الذي لم يدخل مجالس الفقهاء(…)، علاء الدين بنهادي، أيد فكرة الملكية الثانية في المغرب، في زمن أسماه زمن “القيامة الصغرى” التي انطلقت علاماتها وشراراتها من تونس ومصر، وهزت أركان الحكم في اليمن والجزائر والأردن وليبيا والبحرين.. ثورات ترفض الخوض أو الدخول في أي مفاوضات أو حوار إلا بعد سقوط النظام، إلا أن إعلان ميلاد الدولة العلوية الثانية(…) بقيادة الملك محمد السادس، بمضمون جديد ومنظور وفلسفة سياسية تتجاوز التحديات، هو الكفيل بضخ دم جديد، لأن هدف التغيير اليوم ليس إسقاط نظام حكم، وإنما إسقاط أسلوب النظام في الحكم، لعجزه عن محاربة الفاسدين)) (المصدر: “الحقيقة الضائعة”/ 10 مارس 2011.).

صورة من أيام الحسن الثاني وقد أحاط بسيارته حشد من الأقطاب، الوزير محمد الشرقاوي، والمحجوبي أحرضان، ويوسف بلعباس، والدكتور الخطيب وقد وقف خلفه مدير “الأسبوع” مصطفى العلوي.

مثل هذه المواضيع، لن تجدها إلا عند الراحل مصطفى العلوي، أو إذا شاءت الأقدار، أن يلعب صحفي آخر نفس الدور، وقد تميز الراحل بمحاربته لكذب الحكومة، حيث قال ذات يوم: “كفى من الكذب على هذا الشعب”: فقد ((علمنا أساتذتنا أن حبل الكذب قصير، ولكن هذا الحبل هذه الأيام أصبح طويلا، طويلا.. لا أول له ولا آخر، نحن إذن، في زمن أصبح فيه الكذب هو القاعدة والأخلاق هي الاستثناء.. قديما، كان الناس يكذبون، ويكذّبون وتحمر وجناتهم كلما كذبوا، وكانت لعنة الله على الكاذبين، فإذا بالكذب يصبح بالدرجة الأولى أساس السياسة، وفي بعض الحالات أو أغلبها، أساس الدولة، ويخيل إلى المتعمق في خبايا الأمور، أن الكذب أصبح من الميزات المشترطة في المكونات الأساسية للوزراء، وأستحضر مثال الوزير الذي قال لنا في التلفزيون، أن المغاربة سنة 1960 كانوا يسكنون في الأشجار والأحجار، بينما – ولست من عائلة غنية – كنت أسكن سنة 60 في فيلا ممتازة بحي بطانة بسلا، بجانب فيلا المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، ذلك الحي الذي كان تحفة السكن الهادئ والراقي قبل أن يصبح في أردإ أحواله الآن في عهد الوزير الكذاب.. فقد انتشر وباء الكذب وأصبح أداة معترفا بها قانونيا كوسيلة لممارسة السرقة بالعلالي، وخاصة بواسطة الإذاعة والتلفزيون.. ولم ينس الرأي العام المغربي أن أول كذبة في تاريخ المغرب المستقل، كانت هي وعد الحزب العتيد للجماهير المغربية، بأن الفوسفاط سيوفر لكل مغربي عشرة دراهم في اليوم، إن كنتم تذكرون)) (المصدر: “الحقيقة الضائعة”/ 18 أبريل 2003).

تتمة المقال بعد الإعلان

بين الأمس واليوم، قدم الراحل مصطفى العلوي نموذجا للصحفي الذي يطور نفسه باستمرار، فهو ليس صديق عبد الحليم حافظ فقط كما يعرف بذلك الجميع، بل إنه كان يسمع أغاني شباب اليوم، وقد كتب عنهم قائلا: ((كم أنا سعيد بأن الزمن وحده تولى كشف أخطاء بعض الناس(…)، أولئك الذين خططوا لشغل الشباب بالراب والمهرجانات الراقصة، وصرف الملايير على استقدام أقطاب الرقص ذوي الشعور المتدلية، والحلق المعلق في الآذان.. وهم يقولون لقد شغلنا الشباب بالرقص والهز وحتى بإغماض العين عن شيوع المخدرات في الثانويات، لينقلب عليهم أولئك الشباب بـ”الفايسبوك”، ويخرج من بينهم من ربطوا الراب و”الفايسبوك” بالثورة، وها هم أولئك السادة الأعزاء(…) يضربون ألف حساب لمهرجان الموسيقى، وهم عاجزون عن منع فرق “الكازا كرو”.. وأقطاب “الشحط مان” من ترديد شعارات تهز عواطف الشبان: “الناس فاقو.. وعاقو.. والشي القديم ما يخصوش يبقا.. الدراري ما بقاوش باغيين يتفرجوا فالبلاد غادية للهاوية.. شي وحدين نهبوا البلاد وخربوها.. والشعب يتفرج)) (المصدر: “الحقيقة الضائعة”/ عدد 7 أبريل 2011).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى