تحليلات أسبوعية

تحليل إخباري | الحاج ثابت كان يقرأ القرآن ويقول إن جنيا أحمر كان يسكنه

عائد من الإعدام يحكي لأول مرة.. عملية قتل بنجلون كان فيها تواطؤ بين إسلاميين ويساريين

رفض المعتقل السياسي أحمد الحو، تقديم تفاصيل كثيرة عن عملية اغتيال عمر بنجلون، التي ستعرف بعض تفاصيلها انتشارا خلال الأيام المقبلة، بعد نشر كتابه الجديد: “عائد من المشرحة” (يحكي عن سنوات الرصاص)، ولكنه مع ذلك قال بشكل مقتضب:”إن عملية اغتيال الزعيم الاتحادي كان فيها نوع من التواطؤ بين إسلاميين ويساريين”، وهي “جريمة سياسية” من منظوره(..).
لم يقدم الحو، الذي قضى بالسجن خمسة عشر سنة (من 1983 إلى 1998)، بعد تورطه في نشر كتابات حائطية ضد نظام الحسن الثاني سنة 1983(..)، ولكنه فضل أن يحكي عن تلك المرحلة بشكل مقتضب في انتظار صدور كتابه، حيث يقول إن كتابه المنتظر تحت عنوان “عائد من المشرحة”، ((هو في نفس الآن محاكمة لشخوص وأحداث سنوات الرصاص وما ترتب عنها فيما بعد، شملت مختلف مكونات الطيف السياسي،التيار الإسلامي واليسار، خصوصا منه الراديكالي، ابتداء من قضية اغتيال الزعيم الاتحادي من خلال ما راكمه في البحث، ومن خلال ما أتيحت له من قرائن))، كما أنه سيتطرق إلى ((حركات إسلامية مغربية شغلت الساحة الوطنية وما تزال، من قبيل حركة الشبيبة الإسلامية والعدل والإحسان، والجماعة التي لن يكون حزب العدالة والتنمية إلا وليدها الشرعي)).

إعداد : سعيد الريحاني

    من غرائب كتاب “عائد من المشرحة”، أن بعض النشطاء والحقوقيين، اهتموا به قبل صدوره، كما هي حالة الباحث المعطي منجب، المعتقل حاليا بتهم ثقيلة(..)، هذا الأخير كتب عن مذكرات “عائد من المشرحة” وصاحبها ما يلي: ((إنه عنوان كتاب شيق وشهادة شخصية، بل وفي بعض جوانبها حميمية.. هذه الشهادة وهي بالغة الأهمية التاريخية والإنسانية، حررها أحمد الحو.. إنه مغربي في الستين من عمره وهو أحد الناجين أو العائدين من سنوات الجمر والرصاص التي طبعت مغرب الحسن الثاني، إذ يستحضر الكاتب في شهادته هذه السنوات المريرة عبر مساره الشخصي. فقد حكم عليه بالإعدام بسبب كتابته شعارات نارية، وهو شاب يافع مسالم، ضد نظام الحسن الثاني، فتم اعتقاله وتعذيبه بشكل وحشي… قضى الكاتب بالسجن خمسة عشر سنة (1983 ـ 1998). كان يرى رفاق محنته يغادرون السجن واحدا تلو الآخر، أما هو، فقد عوقب لرفضه طلب العفو الملكي ولمساهمته الدائمة في تنظيم مقاومة معتقلي الرأي بالسجن عبر العديد من الإضرابات عن الطعام والتي تجاوزت أحيانا الشهر. سيوزع الكتاب بالمغرب، وأحمد الحو مثقف وفاعل مدني يتموقع بين الاتجاه الإسلامي واليسار كبعض قدماء الإسلام السياسي الذين اقتنعوا أو عمقوا اقتناعهم بالديمقراطية وقيمها وهم بالسجن، بسبب أن أغلب من دافع عنهم بالداخل والخارج هم حقوقيون وديمقراطيون لا يشاركونهم نفس الاعتقادات ولا الأهداف السياسية، ولكن والحق يقال، كان أحمد الحو من السباقين بين الشباب الثوري-الإسلامي أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، إلى محاولة العمل ضد النظام يدا في يد مع مناضلي اليسار)).

ورغم أن أحمد الحو يفضل انتظار صدور مذكراته، لكي يشرح معنى “التواطؤ” بين إسلاميين ويساريين في مقتل الزعيم الاتحادي عمر بنجلون، إلا أنها المرة الأولى التي يطرح فيها هذا النوع من الربط، في جريمة محسوبة على “التيار الإسلامي”، وطالما ارتبطت فضاعتها بتنظيم “الشبيبة الإسلامية”، الممنوع في المغرب، وكل ما هو معروف حتى الآن، مشهد الجريمة حيث كان يهم بالدخول إلى سيارته عندما امتدت إليه أيادي غادرة لترديه قتيلا يوم 18 دجنبر 1975(..).

تعايش مع الموت

    لا تخلو مذكرات أحمد الحو من مشاهد قاسية، لا سيما في صراعه مع الموت، إذ يقول بوصفه أحد نزلاء حي “الإعدام” سابقا، أن كتابه هو ((عصارة تجربة أليمة ستلقي به في مواجهة الموت الذي بقي كظله لا يفارقه طيلة أكثر من عقد من الزمن، حيث أدين سنة 1984 بحكم الإعدام إثر تضامنه وثلة من رفاقه مع ما أسماها آنذاك وزير الداخلية القوي، إدريس البصري “انتفاضة شهداء الكوميرا”، ليبدأ رحلته الطويلة إلى مقبرة الأحياء “حي الإعدام”، وهو الشاب الذي لم يتجاوز عمره الـ 24 سنة، كان لما يمعن النظر في حي “باء” وفي ساكنته، ويرى أن “حي الموت” هذا الذي يشبه الهلالية في تصميمه والذي يحتله صمت رهيب، كان دائما يحيره السؤال: ماذا يصنع هنا؟ وهو الذي لم يسفك دما وجرمه الوحيد أنه كتب شعارات منددة بالنظام، ويطيل النظر في المشرحة، فلا يجد إلا جرائم الدم المشفوعة بالتشديد: فهناك من قتل أكثر من اثنين، أو قتل وأحرق الجثة، أو قتل واغتصب ووو… كان دائما يجاور الموت وفي سجال جدلي معه، في كل حركة مفتاح أو دبيب خطى حارس، وفي كل همسة وسكنة وفي دياجير الليل وفي واضحة النهار، ساحاته وزنازنه كأنها تنطق جهارا بكل الذين زاروه وسيقوا إلى ساحة السجن، أو غابة المعمورة لينفذ فيهم الإعدام رميا بالرصاص، قافلة من الشهداء والقتلة زارته من كل حدب وصوب، من مقاومين تظاهروا أيام الاستعمار في غشت 1953، ومن معارضين سياسيين وقوافل من الشهداء من أمثال عمر دهكون ورفاقه، وإدريس الملياني وانقلابيي قصر الصخيرات والطائرة الملكية، كالملازم كويرة والكولونيل محمد اعبابو، وذكريات مع مغتصبين للأطفال والنساء من شاكلة المتشوق والحاج ثابت.. إنها بالجملة مشرحة لا تشم فيها إلا رائحة الموت الزؤام، وكان لزاما على كاتب “المشرحة” أن لا ينهزم أمام الموت المحدق به، عليه أن يقارعه في موطنه، أن يحدق فيه بعينين حادتين، لدرجة أنه في كثير من الأحيان يستنجد بالموت لمقارعة الموت، ولذلك، فلا غرابة إن كان يدخل في إضرابات مميتة لدرجة أن الأطباء المتابعين لوضعه الصحي لم يترددوا ذات مرة في الإعلان عن موته وتسجيل شهادة وفاة له، يقينا منهم أنه من المستحيل أن يعود للحياة، وكان الهجوم على الموت في عقر داره هو الذي يمنحه في كثير من الأحايين تحدي الموت والهروب من مخالبه)) (المصدر: عن الكاتب أحمد الحو).

صورة تاريخية تؤرخ للجريمة البشعة لمقتل الزعيم الاتحادي عمر بنجلون

قصة إعدام الحاج ثابت

    سبق لعدة مواقع وشهادات أن تطرقت لنهاية الكومسير ثابت، لكن أحمد الحو، ورغم الفرق في كونه معتقلا سياسيا، بينما ثابت متورط في جرائم من نوع آخر(..)، إلا أنها المرة الأولى التي يعلق فيها معتقل سياسي على الأيام الأخيرة لآخر الذين نفذ فيهم حكم الإعدام.. وتنفرد “الأسبوع” فيما يلي بنشر جزء من مذكرات أحمد الحو، كما كتبها هو بنفسه عن ثابت:

((السيد محمد مصطفى ثابت، المدعو بـ”الكومسير الحاج ثابت”، كان يشغل منصب رئيس الاستعلامات العامة للأمن الوطني بالحي المحمدي بالدار البيضاء، وبعبارة أخرى، فهو كان المسؤول الأمني عن معتقل درب مولاي الشريف السيء الذكر، التابع لنفس المنطقة، وبذلك فهو يدخل في المجال الترابي التابع له، وكانت تناط به مهام أمنية وطنية غاية في الأهمية، من قبيل الإشراف المباشر على وضع الشيخ عبد السلام ياسين تحت الإقامة الإجبارية بمدينة سلا.. كان متزوجا بامرأتين وله من الأبناء خمسة، وعرف عنه أنه كان منذ نعومة أظافره يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وكان يحرص على أداء الصلاة بالمسجد، كما أدى مناسك الحج عدة مرات. بدأت ذيول قضية الكومسير ثابت تتكشف، في سنة 1990، عندما تقدمت سيدة بشكاية لدى مصالح الأمن بالحي المحمدي، تتهم فيها شخصا باستدراجها وبرضاها إلى شقة خاصة، لكنها اكتشفت أنه كان يسجل كل ممارساته الجنسية معها، وبعد فتح تحقيق في الأمر من طرف شرطة الحي المحمدي، تبين أن الجاني ليس سوى رئيسهم السيد ثابت، مما حدا بهم إلى محاولة طمس القضية والتستر عن الأمر، عبر محاولة إجراء الصلح بين الطرفين… وستأخذ القضية منحى تصاعديا عندما رأى أحد الشخصيات النافذة بالمهجر شريطا إباحيا، ليكتشف فيه أن أخته كانت من ضمن النساء اللواتي يظهرن في أوضاع مخلة بالحياء في الشريط، ليتم إبلاغ الراحل الملك الحسن الثاني بالأمر، الذي أمر رجال الدرك بالتحقيق في النازلة، وقد صرح الملك الراحل وقتئذ أنه يعرف كل الشخصيات المتورطة، لتظهر التحقيقات أن المدعو الحاج ثابت كان يتوجه نحو المدارس والثانويات والكليات وبالشارع العام، ويعرض على ضحاياه مرافقته في سيارته والذهاب معه إلى شقته الخاصة بشارع عبد الله ياسين بالدار البيضاء.. كثيرات من كن يمارسن الجنس معه برغبتهن، وأخريات كان يجبرهن على ذلك، كما أنه كان في بعض الأحيان يمارس الجنس مع الأم وبنتها في سرير واحد.. والغريب، أنه واصل ممارسة مغامراته الجنسية رغم الشكاية المقدمة ضده في سنة 1990، لتستمر ثلاث سنوات بعد ذلك، مما يطرح سؤالا محيرا: من كان يحمي مغامراته الجنسية وهو يتقلد مسؤوليات كبرى في جهاز الأمن؟ خصوصا وأنه كان يسجل كل ممارساته الشاذة مع ضحاياه، وقد تم العثور بشقته على أزيد من 118 شريطا مصورا توثق لمشاهد جنسية لأزيد من 1600 امرأة وقاصر، وقد كان يوثقها ويحتفظ بها في شقته، ويجعل منها تجارة تذر عليه الأرباح الجمة، والمثير، أن هناك أشرطة قد تم استبعادها من النازلة وكان يحتج على أسباب عدم إثباتها في المحاضر المنجزة، وظل المتهم يطالب بعرضها خلال المحاكمة، وخصوصا الشريطان رقم 24 و32، وحسب شهود عيان، فقد كان يصيح أثناء إعدامه: أين هي الأشرطة المستبعدة من التحقيقات؟ ويقال أنها كانت تشمل فضائح لشخصيات سياسية بارزة في البلاد صورها الجاني لابتزازها، ولا يخفى على أحد أن الأجهزة الأمنية تسجل العديد من فضائح الشخصيات النافذة وتحتفظ بها، بغية شراء صمتها ورفع الورقة الحمراء في وجهها إذا تجرأت على الاحتجاج على الأوضاع السياسية…

توبع الحاج ثابت ومن معه بترسانة من التهم، على رأسها تهم الاغتصاب والاحتجاز والاتجار في البشر والفساد والخيانة الزوجية، وقد صرح أمام المحكمة أنه تعرض للتعذيب الوحشي، وأنه يُحاكم من أجل أفعال يقوم بها الجميع، وكان يطالب أثناء الجلسات بأن يعرض على طبيب مختص مرددا بالحرف أمام القاضي: أريد أن يتيقن أبنائي أن ما قمت به ليس عن طيب خاطر أو بإرادتي، بل لأنني شخص مريض، كما كانت ابنته بالمهجر تبكيه بحرقة، وتشهد أن أباها كان من أحن الناس وأطيبهم…

أحمد الحو: كنت أستنجد بالموت لمواجهة الموت

وفي ليلة 15 مارس 1993، أصدرت غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، حكم الإعدام في حقه، وأحكاما في حق ثلاثة عُمداء شرطة وبعض الأطباء والمدنيين، وقد توبعوا بتهم كسر الأختام والتستر على جرائم وخيانة الأمانة، وتراوحت الأحكام بين العشرين سنة والخمس سنوات، وكانت آخر كلمة له أمام المحكمة صرح فيها أن: جنيا أحمرا يسكنه، يحول له الألوان إلى لون أحمر، وأن ذلك الجني هو من كان يمارس الجنس العنيف على ضحاياه، وقد برر لجوءه إلى التصوير بأنه كان يريد التعرف على الجني الذي كان يسكنه، والغريب أن المحكمة أصدرت قرارا بإتلاف الأشرطة المسجلة بسرعة، دون انتظار ممارسة الجاني لحقه في الطعن.

وفي زوال يوم 15 غشت 1993، كنت شاهد عيان على أول حالة تنفيذ حكم إعدام في حياتي، وبما أنني كنت بمصحة السجن في فترة النقاهة بعد إضراب طويل عن الطعام، فقد لمحت وأنا قريب من مدخل باب المصحة، جمعا غفيرا من الحراس يقودون العميد الممتاز ثابت من داخل حي “دال”، وهو الحي المقابل لحي المصحة وهو مخصص للعزلة، وقد وضع فيه الحاج ثابت لعزله تماما عن كل السجناء، إلا أن بعض رفاقي تمكنوا من الحديث معه داخل الحي المذكور أياما قبل إعدامه. لقد كان الرجل دائم الصلاة، وعندما سئل: كيف تصلي وقد قمت بكل جرائم الاغتصاب البشعة؟ فكان يجيب بأنه فعلا مذنب، لكن لم يكن لوحده.. ويختم حديثه بهذه الآية:”إن الله لا يغفر أن يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء”.

 في زوال يوم شديد الحر، لمحته وهم يحملونه إلى حتفه.. كان من عادته كلما نودي عليه للزيارة أن يمشي بخُيلاء وعنجهية، قاسي النظرة قوي الشكيمة، لكنه في يوم إعدامه، كان لا يكاد يمشي على رجليه، ويكاد يسقط رغم قوة بنيته، ولم يصدق كل ما قيل له عن أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تنْقيل روتيني. أحسست يومها كأني أنا المساق إلى الموت، لا أكاد أشم إلا رائحتها من حولي، لم يعد بعد ذلك اليوم أمان، فقد أعدم يوم عطلة أسبوعية، وهو يوم الأحد، وفي عز النهار، وهو ما يعني أن الموت لم يعد زائرا منتظرا في الليل فقط، بل أيضا في عز النهار، ولم يعد الإعدام خاصا فقط بقاطني حي الإعدام، بل يكفي أن تكون محكوما بالإعدام ولا يهم أي حي سجن تقطنه، وحتى في أوقات الراحة والعطل، كانت الحركة تتوقف في أيام السبت والآحاد وفي العطل، ومع سكون الحركة تهدأ النفوس.. لكن بعد إعدام الحاج ثابت، انقلبت كل المعايير، بل إنه حتى مزاعم أن المغرب الذي لم يعد ينفذ عقوبة الإعدام بعد سنة 1981، قد تبخرت، فعاد الموت يرفرف علينا بأجنحته بقوة وأكثر مما مضى، ومرت علينا ليال وشهور قاسية، حيث إنه بعد إعدام الكومسير المذكور، لم يعد للنوم أو الأكل طعم، فكل الآمال تبخرت وأصبح الموت قريبا بعد أن كان بعيدا عن “حي الإعدام” وعن المحكومين بهذه العقوبة بأي سجن أو بأي حي كانوا به…

وُوري جثمان الحاج ثابت الثرى بمقبرة الرحمة بالدار البيضاء، وقد منعت عائلته عن القيام بمراسيم الجنازة، وكلفت بذلك عناصر الدرك الملكي، أما زوجاته وأبناؤه، فقد تعرضوا لأبشع المضايقات والممارسات، حيث طردوا من السكن الوظيفي وتركوا بلا مأوى، وتم الحجز على أموالهم وممتلكاتهم، وحرموا من تقاعده، خصوصا وأنه كان يشتغل بسلك الأمن لمدة تجاوزت الثلاثين سنة، وأيضا حرموا من التأمين على الحياة الذي كان يؤديه، بل زعم خصومه رفاق الأمس، أنه كان يملك الملايير، ولما افتحصوا حسابه البنكي لم يجدوا سوى بضعة ملايين تعد على رؤوس الأصابع)).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى