ملف | لماذا صفقت الحكومة لمديرة البنك الدولي ونسيت نصائح جطو ؟
صفق كثير من المتتبعين للخبر السار الذي أعلنت بمقتضاه وزارة الصحة عن تخفيض 2700 دواء الأكثر استعمالا عند المغاربة، غير أن أحد المواطنين من الذين صدقوا هذه الحكاية، ذهب عند الصيدلي ليطلب الدواء لزوجته، بعد شهر من إعلان هذا القرار، فلم يجد العلبة المطلوبة، فأخبره الصيدلي بأن مختبرات الأدوية توقفت عن إنتاج الأدوية المعنية بقرار التخفيض، وأن بعض المختبرات تقترح بدلا عن ذلك إنتاج أدوية جنيسة.
طيب ما العمل؟ يتساءل هذا المواطن الذي طرق أبواب “الأسبوع” ليحكي حكايته للصحفيين، يوم الإثنين الماضي، ويجيبه الصيدلي بأن الإنتاج لن يتم استئنافه إلا خلال شهر يونيو المقبل، وأن جل الصيدليات لا تتوفر على أي مخزون استراتيجي.
هكذا إذن، يتضح أن وزارة الصحة اتخذت قرارها، وبالمقابل ستعتمد شركات الدواء على “شرع ايديها”، طالما أن هذه الشركات بمثابة أخطبوط قادر على ليِّ ذراع أي وزير في الحكومة، وقبلها أعلنت الحكومة عن شروعها في إصلاح نظام المقاصة، غير أن الانتقال إلى تنفيذ الوعود مازال بعيدا.
وقبل أيام صفق الوزراء المغاربة للمديرة العامة لصندوق النقد الدولي، “كريستين لاغارد” التي أعلنت عن تجديد الثقة في المغرب كأحد البلدان التي يمكنها الاستفادة من خط ائتماني يقدر بـ6.2 ملايير دولار.. وكانت قد عقدت قبل ذلك لقاءات مع رئيس الحكومة، عبد الإله بن كيران ووالي بنك المغرب عبد اللطيف الجواهري، غير أنها شددت على ضرورة أن يتخذ المغرب مساعي إضافية لتحقيق نتائج أفضل.
ما الذي يجعل المغرب رهينا لإملاءات البنك الدولي، رغم أن الكل يصرح بأننا لم ندخل مرحلة التقويم الهيكلي؟ نصف الجواب على ذلك يوجد في تقرير المجلس الأعلى للحسابات والذي صدر خلال بداية شهر يناير سنة 2014، غير أن المسؤولين المغاربة فضلوا الاستماع لمغازلات البنك الدولي، الذي يعتبره خصومه إحدى أدوات تطويع الدول وشعوبها(..).
الرباط: سعيد الريحاني
———————————–
الحلول توجد داخل المغرب وليس خارجه | الملايير الضائعة.. وحكاية “فلوس اللبن يديهم زعطوط”
كان يمسك سبحته في يده وإلى جانبه صديقه عبد الله باها(..) أخذ وضعية مريحة فوق الأريكة، يوم الجمعة الماضي، وأطلق العنان لضحكته، وهو يسمع تلك التصريحات المطمئنة التي أطلقتها رئيسة البنك الدولي كريستين لاغارد، والتي أكدت من خلالها أن المغرب أن المغرب وظف “بذكاء وتبصر” كبيرين الخط الائتماني الذي وضعه صندوق النقد الدولي رهن إشارته، في حين أن المغرب لم يستعمل هذا الخط الائتماني قط(..).
ولعل الأمر لا يدعو إلى الافتخار بهذا الشكل عندما نعرف أن الحكومة لجأت لأسلوب الخط الائتماني، وهو عبارة عن قرض احتياطي يتم اللجوء إليه لمواجهة المصاريف الطارئة، والتخفيف من عجز الميزانية، ولن تكون هناك فرصة لاستثماره في عملية منتجة مدرة لدخل جديد.
في النهاية، ما قامت به الحكومة هو الاستدانة من الخارج ومن طرف مؤسسة لها ذكريات سيئة مع المغرب (برنامج التقويم الهيكلي الذي تم العمل به في سنوات الثمانينيات كان على حساب القطاعات الاجتماعية)، ولا تحظى بالرضى لدى جل المحللين الاقتصاديين، فـ”البنك الدولي هو بنك كباقي الأبناك يبيع ويشتري، ولديه رؤوس أموال يريد توظيفها، ومادام المغرب يؤدي فوائد تلك القروض، فالبنك سيظل راضيا عنه، أما أسئلة من قبيل: هل الظرفية الداخلية للمغرب أو الدولية ملائمة؟ أو هل ستستعمل تلك القروض في تحسين الوضع الاقتصادي للدولة وتحسين الوضع الاجتماعي للمواطنين؟ وهل ستكون لها مردودية إيجابية؟ فتلك أسئلة لا تهمه في شيء”، حسب ما يؤكده الخبير الاقتصادي نجيب أقصبي، فأين تكمن الحلول إذن.
لا شك في أن الحل الذي لم يعد بالإمكان تأجيله هو الشروع في إصلاح نظام المقاصة، ولعل الملاحظات التي وردت في تقرير المجلس الأعلى للحسابات الصادر خلال شهر يناير 2014 بناء على طلب من رئيس مجلس النواب مؤرخ بتاريخ 18 يوليوز 2013، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الحل موجود داخل المغرب وليس خارجه، شرط الشروع في إصلاح نظام المقاصة، حسب توصيات إدريس جطو.
————————–
تاريخيا يمكن الحديث عن تجربة صندوق المقاصة ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي، أي منذ إحداث “المكتب الشريف للحبوب والقطاني”، وقد كانت لهذه المنظومة وظيفة اجتماعية تتجلى في الحفاظ على القدرة الشرائية للساكنة، بالحد من ارتفاع أسعار بعض المواد في السوق الأسواق العالمية على الصعيد الوطني، عبر تحديد أثمان بعض المواد الفلاحية كالشمندر السكري، وقصب السكر، والقمح الطري.. وتأمين المردودية لفائدة الشركات العاملة في بعض الأنشطة.. “بيد أن التطورات اللاحقة التي عرفتها جعلتها تنحرف عن غايتها من خلال توظيفها كوسيلة، لدعم تنافسية المقاولات، بل أداة لتغطية عجزها نظرا لعدم تنافسيتها، وبالتالي، أصبحت منظومة المقاصة تعمل على حجب حقيقة تكاليف بعض المنتجات الصناعية أو استعمالها كبديل لمراجعة أسعار الكهرباء”، (مقتطف من تقرير المجلس الأعلى للحسابات سنة 2014).
المصاريف التي تقف وجه الاستثمارات
يؤكد المجلس الأعلى للحسابات أن تكاليف المقاصة اتخذت منحى تصاعديا وانعكست سلبا على توازن الميزانية والحسابات العمومية، إذ ارتفعت بين سنتي 2002 و2012 من 4 ملايير درهم، إلى أكثر من 56 مليار درهم، وخلال الفترة ما بين سنتي 2009 و2013، بلغت تكاليف المقاصة ما مجموعه 194 مليار درهم موزعة على الشكل التالي: المواد البترولية 162 مليار درهم، السكر: 19 مليار درهم، الدقيق 13 مليار درهم.
هذه التكلفة الثقيلة والأرقام الخيالية، تقف حجرة في وجه أي مشروع للنهوض أو التنمية، “منذ بضع سنوات أصبحت هذه التكلفة تمثل إشكالية كبرى بالنسبة لتوازن المالية العمومية، إذ يؤثر العبء الذي يترتب عنها سلبا في عجز الميزانية، وبالتالي يقلص الهامش المتاح لتمويل الاستثمار العمومي ويؤدي إلى بطء وتيرة تنفيذ الأوراش المهيكلة للاقتصاد الوطني”.
هذا الوضع لا يمكن أن يستمر بالتأكيد، لذلك كان على الحكومة أن تلجأ إلى بعض الحلول لكنها ظلت ترقيعية، فنظام المقايسة الجزئية لأثمنة البترول والكازوال لم يكن كافيا، لسد العجز الحاصل، لذلك أصبح من المفروض طرح الأسئلة التالية: من هم المستفيدون من الدعم المقدم في إطار نظام المقاصة الحالي؟ وما هي المخاطر التي يمكن أن تنتج باستمرار عن النظام القائم؟ وما هي الآليات البديلة التي يمكن تبنيها في حالة حذف الدعم عن بعض المواد؟ ثم ما هي الاختيارات التي يمكن اعتمادها من أجل ترشيد منظومة المقاصة أخذا بعين الاعتبار غايتها الاقتصادية والاجتماعية، حسب التقرير.
وتبقى إحدى أكثر الجزئيات إثارة للجدل في هذا التقرير هو حديثه عن الصعوبات التي واجهها المجلس الأعلى للحسابات وهو بصدد إعداد تقرير عن “تقييم منظومة المقاصة”، وهي غياب المعلومات لدى الهيئات المتدخلة لتدبير نظام المقاصة، ليطرح السؤال: عن أي إصلاح تتحدث الحكومة في غياب المعلومات؟
بين المهمة النبيلة والضغط الضريبي
يتولى صندوق المقاصة عمليا مهمة: “تنفيذ السياسة الحكومية بشأن استقرار الأسعار”، لكن في سنة 2012 تجاوزت تكاليف المقاصة لأول مرة نفقات الاستثمار بما يقارب نسبة 16 في المئة، أي ما يناهز 6 ملايير درهم، وأصبحت تعادل مداخيل السياحة بكاملها بنسبة وصلت إلى 96.6 في المئة، بهذا الشكل يمكن للمقاصة أن تؤثر في بنية الدولة، حسب ما يؤكده تقرير المجلس الأعلى للحسابات، لا سيما عندما تصل هذه المبالغ إلى نسبة 12.6 في المئة من إجمالي المصاريف، فيما بين سنة 2005 وسنة 2012 مقابل نسبة 3.4 في المئة عن الفترة الممتدة من 2001 إلى 2004. وبالنسبة للناتج الداخلي الخام، فقد ارتفعت هذه التكاليف بشكل حاد، خلال السنوات الأخيرة، لتمثل نسبتي 6.8 في المئة سنة 2012، و5.1 في المئة سنة 2013.
كل هذه الأرقام تفترض التساؤل عن مبلغ الدعم الذي تحصل عليه كل أسرة من الاعتمادات المخصصة للدعم، والجواب الذي يوجد داخل تقرير المجلس الأعلى للحسابات يفيد بأن عدة ملايين أسرة بدون سيارة تستفيد من مبلغ دعم سنوي يصل إلى 2181 درهما، أي ما يعادل 182 درهما شهريا، بالمقابل أن تستفيد الأسرة المالكة للسيارات من مبلغ دعم سنوي يقدر بـ4996 درهما أي 417 درهما شهريا، علما أننا نتحدث عما مجموعه حوالي 6.8 ملايين أسرة منها نسبة 1.8 في المئة يتوفرون على سيارة سياحية.
ورغم ما يمكن قوله من ارتفاع لتكاليف الدعم إلا أن الضغط الضريبي على المواد المدعمة يشكل بدوره عبئا كبيرا على صندوق المقاصة، “حيث ينعكس ذلك على الكلفة الإجمالية التي تتحملها الدولة، خاصة على مستوى الضريبة على القيمة المضافة، ومن بين المواد التي يتم دعم أسعارها بواسطة إمدادات ميزانية الدولة، تخضع بعض المنتوجات، بالإضافة إلى الضريبة على القيمة المضافة، إلى اقتطاعات جبائية تزيد من تكاليف هذه المواد وبالتالي تؤدي إلى تفاقم كلفة المقاصة.
المغرب بدون مخزون احتياطي
فشل الدولة في تطبيق نظام صارم للمقاصة يمكن الوقوف عليه بشكل جلي من خلال الملاحظات الواردة بشأن دعم المواد البتورلية، “تتسم سلسلة المواد البترولية، التي تعرف تدخلا كبيرا للدولة عن طريق دعمها لهذه المواد، بضعف التحكم فيها على مستوى أعلى هذه السلسلة، ذلك أن النظام الحالي يمنح المبادرة في استيراد المواد المذكورة للشركات الخاصة دون تمكين السلطات العمومية من الاطلاع على شروط التزويد.. ومما يزيد هذا الوضع حدة كون الدعم يتم على أساس الكميات المستوردة وليس على أساس ما يتم استهلاكه فعليا”، (مقتطف من تقرير المجلس الأعلى للحسابات، ص: 21).
ولكم أن تتصوروا حجم التبذير عندما تعرفون أن الموانئ المعدة لاستقبال المواد البترولية، تتوفر على قدرات لا تسمح برسو بواخر من النوع الكبير، مما يشكل عائقا لنجاعة الاقتناءات ولا يمكن من تقليص نفقات النقل.. وقد ترتب عن هذه الوضعية تحمل ميزانية الدولة لمبالغ متعلقة بالغرامات عن كل تأخير في التفريغ بلغت خلال الثلاث سنوات الأخيرة ما يلي: 31.5 ملايين درهم (سنة 201)، و29.1 مليون درهم (سنة 2011)، و36 مليون درهم (سنة 2012).
ليس هذا فحسب بل إن تقرير المجلس الأعلى للحسابات يكشف أمرا في غاية الخطورة وهو عدم الالتزام بالمقتضيات التي تفرض الحفاظ على مخزون احتياطي بترولي، يمكن أن يقي من الأزمات التي قد تؤثر في التزود العادي للبلاد من هذه المنتجات، حيث تشترط الوكالة الدولية للطاقة على الدول توفير مخزون احتياطي يعادل 90 يوما.
أما في المغرب فإن القانون يفرض الاحتفاظ باحتياطٍ من البترول الخام يصل إلى 30 يوما بالنسبة لكل المصافي، “كما يجب على الموزعين الاحتفاظ بالنسبة لكل منتوج بمخزون يعادل 60 يوما من مبيعاته في السوق المحلية، أما بالنسبة لمراكز تعبئة البوتان، فإن المخزون الذي يجب تكوينه يعادل كذلك 60 يوما من الكميات المعبئة والموزعة في السوق الداخلي.. لكن المعطيات تؤكد أن الآليات التي تم وضعها لحث الفاعلين على توسيع طاقات التخزين وإنشاء المخزونات الاحتياطية لم يتم استعمالها بكيفية مرضية، حسب تقرير المجلس الأعلى للحسابات.
المكتب الوطني للكهرباء نموذج للملايير الضائعة
يقول المثل “فلوس اللبن يديهم زعطوط”، ذلك ما ينطبق على المكتب الوطني للكهرباء والماء، والذي يستنزف مالية الدولة بشكل كبير، وصل إلى حدود 7.2 ملايير درهم خلال سنة 2012 أي ما يفوق قيمة الدعم المخصص لكل من الدقيق والسكر.. وكانت أرقام الدعم المخصصة لهذا المكتب قد عرفت ارتفاعا مهولا في السنوات الأخيرة، منذ سنة 2008 نتيجة التأخر في إنجاز البرنامج الخاص بهذا المكتب الذي أعلنه منذ سنة 2005 ولم ير النور بعد، حيث تحولت المحطات الحرارية التي صرفت على إنجازها الملايير إلى محطات دائمة في حين أنها كانت مجرد محطات مؤقتة.
الوضعية المالية المزرية لهذا الصندوق تعكسها الفقرة الواردة في تقرير المجلس الأعلى للحسابات، والتي تقول: “سجلت حسابات المكتب في الفترة الممتدة ما بين سنة 2008 و2012 عجزا متراكما يقارب 15 مليار درهم، وذلك بعد إدراج مبلغ 19 مليار درهم المتعلق بدعم الفيول كمدخول في هذه الحسابات، وإذا لم يتم اعتبار الدعم المقدم من طرف المقاصة، فقد كان العجز المتراكم سيبلغ 34 مليار درهم، ولا تلوح في الأفق أية بوادر لتحسين هذه الوضعية فبالنسبة لسنة 2013، يتوقع عجز صاف، يقارب 3 ملايير درهم، وذلك بالرغم من أن مبالغ الدعم المتعلقة بالفيول تقدر بحوالي 4.2 ملايير درهم(..).