تحليلات أسبوعية

تحليل إخباري | الفراغ السياسي خطر على الملكية والشعب

إعداد: سعيد الريحاني

لا جديد من الناحية السياسية.. حزب العدالة والتنمية الذي صوت عليه بعض المغاربة في إطار معادلة “التغيير في ظل الاستقرار”، و”صوتك فرصتنا لمواصلة الإصلاح”، يواصل حصد المكاسب والامتيازات دون إحداث أي تغيير ملموس، وحزب التجمع الوطني للأحرار الذي يقدم نفسه كبديل محتمل، يواصل التعبئة بوسائل تقليدية أكل عليها الدهر وشرب، من خلال تجميع أكبر عدد من “الدجاج” و”الأكباش” لإقامة ولائم فاخرة لمرتادين وزوار قد لا تكون لهم أي علاقة بالعمل السياسي.. وبينما تتسع الهوة بين الأحزاب السياسية والشعب، تواصل قنوات “اليوتيوب” و”الفيس بوك” الدعاية الضخمة لغضبة شعبية كبرى، لم يأخذها المسؤولون لحد الآن على محمل الجد، في ظل استمرار تنفيذ بنود مشروع “إعدام الصحافة الوطنية”، ولا أحد يعرف كيف ستخرج عاقبة الأمور؟

“عاش الشعب” شعار بدأ يكتسح الشارع، وتتحدث عنه القنوات الفضائية، وهي تهمز بأن الجمهور يغني “عاش الشعب” بدل “عاش الملك”، ولزيادة الخل على الخميرة، تفاعل ملايين المواطنين مع أغنية أطلقها ثلاثة شبان عبر “اليوتيوب”، عنوانها “عاش الشعب”، فتحولت إلى لازمة في جل مدرجات ملاعب كرة القدم، ومثل الصيد في الماء العكر، بالتزامن مع انتشار الأغنية، تمت الدعاية لاعتقال أحد مغنيها واسمه “الكناوي”، لتوضح بلاغات الأمن الوطني بأثر رجعي، أن اعتقال الكناوي لا علاقة له بالأغنية المذكورة، وقد كتبت المواقع الإخبارية أن ((اعتقال الكناوي، جاء بسبب شريط فيديو نشره عبر تقنية البث المباشر سابقا، تضمن سبا وقذفا في أعراض رجال الشرطة وزوجاتهن، كما تضمن الشريط توجيه تهديدات بالاعتداء على رجال أمن بسبب خلاف معهم))، وحسب المصدر ذاته، فإن ((الرابور المذكور، هو عسكري سابق، كان قد اعتقل بسبب تورطه في قضايا سرقة، كما قضى 7 أشهر بالسجن)) (المصدر: اليوم 24/ 1 نونبر 2019).

بغض النظر عن حكاية تحول جندي إلى مغني للراب(..)، فـ”الكناوي” ليس سوى واحدا من فريق يتكون من ثلاثة أشخاص أطلقوا أغنية “عاش الشعب”، التي وصل صداها إلى الإعلام الدولي الذي تساءل عن سبب انتشار هذه الأغنية في ظرف قياسي، فعلق بعضهم كما يلي: ((رسائل نقد قاسية موجهة للسلطة، كانت تلك التيمة الكبرى لأغنية اختارت لازمة “عاش الشعب” عنوانا لها، وهي لازمة تكررت في السنوات الأخيرة، في مواجهة لازمة “عاش الملك”، التي كثيرا ما رفعت في احتفالات وحتى خلال مطالب يوجهها جزء من الشعب للمؤسسة الملكية.. وتجاوزت الأغنية في ظرف ستة أيام حاجز 8.5 ملايين مشاهدة، أداها ثلاثة شباب معروفون بألقاب: لكناوي، لزعر، ولد لكرية، واختار كل واحد منهم أن يركز على شق معين، فـ”لزعر” ركز على معاناة عدة طبقات اجتماعية في المغرب وعلى حجم “الفساد” في البلاد، بينما ركز “لكناوي” على تجربته الخاصة مع الفقر، فيما أرسل “ولد لكرية” نقدا صارما للسلطة)) (المصدر: دوتشه فيلييه الألمانية).

الاكتساح الذي حققته الأغنية، والجمهور المستهدف بها، كان له أثر مباشر على مدرجات كرة القدم، حيث تلقفتها الجماهير لتعيد ترديدها وفق لازمة “عاش الشعب، وعاش اللي درويش”، ففي فاس، غنى آلاف المشجعين “مصاوي مصاوي.. الحرية للكناوي”، ثم تابع جمهور المغرب الفاسي “عاش الشعب عاش الشعب.. عاش اللي درويش”، ونفس الأمر حصل في طنجة والرباط.. وتكررت اللازمة في مدن أخرى.. ألا يعني هذا أن جمهور كرة القدم قد يكون في مقدمة ثورة؟ ماذا لو انتقل الاحتجاج من المدرجات للشارع العام؟ الأكيد أن التعزيزات الأمنية ليست حلا، بقدر ما يفترض الأمر امتلاك وسائل تواصلية ناجعة(..). انتشار أغنية “عاش الشعب” على مدرجات الملاعب، ليس سوى تكريسا لانتشار لازمة أخرى، لها حمولتها أيضا، فقد اعتادت الجماهير أن تغني في الفترة الأخيرة، أغنية “في بلادي ظلموني”، وهي النشيد الاحتجاجي الذي أطلقه فريق الرجاء البيضاوي، بلازمة خطيرة تقول: “عايشين فغمامة، طالبين السلامة، انصرنا يا مولانا.. فلوس البلاد كاع كليتوها.. للبراني عطيتوها..”.

في ظل الفراغ السياسي، يحاول المغرب حتى الآن، اجتياز منطقة مضطربة، بداية بنزول التلاميذ إلى الشارع، واحتجاجات الريف، واحتجاجات عمال المناجم.. وصولا إلى الإضرابات القطاعية، في ظل تراجع دور الطبقة المتوسطة، التي أصبحت منشلة بأداء أقساط الأبناك والضرائب المباشرة وغير المباشرة.. ولازمة الاستثناء المغربي تمر من أحلك أيامها، فإذا كان صعود الشعبويين أمثال بن كيران وشباط والعماري.. قد شكل موجة مضادة لرياح الثورة القادمة من بلدان مشابهة لنا، فإن الفراغ السياسي اليوم يساهم في دعم الموجة الجديدة التي تحاول صناعة حشد منظم انطلاقا من ملاعب كرة القدم.

حالة الجمهور المغربي، باتت تفرض أكثر من أي وقت مضى الانتباه إلى ما يحصل في المدرجات الرياضية، بعد حمل راية “داعش” في السنوات الأخيرة (المصدر: جريدة الأحداث المغربية/ عدد 14 يوليوز 2014)، وترديد نشيدها(..)، وبغض النظر عن الأحداث التخريبية، فالموجة الاحتجاجية الأولى للجمهور المغربي التي أسدل عنها الستار قبل سنتين، جعلت بعض الإلتراس يتباهون بصورهم في بلدان شهدت موجة الربيع العربي، وربما لن ينسى كثيرون المشاهد المؤسفة لـ”الخميس الأسود” في الدار البيضاء لبعض المحسوبين على الجمهور ((عندما استخدمت ميليشيات القاصرين كل شيء في أعمال التخريب والتحطيم، عندما جاؤوا محملين بالحجارة، وأغلبيتهم تتأبط سيوفا وأسلحة بيضاء، ومفاتيح، وبراغي، فعاثوا فسادا في السلع، وكل ما وجدوه أمامهم، وفي غضون دقائق خلق هؤلاء خسائر تقدر بالآلاف)) (جريدة الصباح/ عدد 22 أبريل 2013).

الجمهور ليس وحدة متجانسة، ولكن نتيجة تسيسه قد تكون كارثية، وربما ما يحصل اليوم، ليس سوى نتيجة لصراع السياسيين على هذا الجمهور(..)، فمن ((صفات الجماهير، التعصب والاستبداد والنزعة للمحافظة، لذلك، فإن الجماهير عادة ما تكون أشد تعصبا للأفكار والعقائد وأشد تطرفا ضدها كذلك، فإذا ما أضيف لذلك التعصب شعور الجمهور بقوته، فإن استبداده برأيه يكون بحجم تعصبه، ومن الصعوبة أن يقبل الاعتراض عليه أو مناقشته، ولعلنا نلحظ ذلك خاصة في الاجتماعات العامة للجماهير.. ومن عاطفة هذا الاستبداد يظهر احترامها للقوة وعدم ميلها للطيبة التي تعتبرها شكلا من أشكال الضعف..)) (جوستاف لوبون/ غازي كشميم، قراءة في كتاب “سيكولوجية الجماهير” للمؤرخ الفرنسي وعالم الاجتماع).

ففي ظل عجز الأحزاب السياسية، تواصل الجماهير تأطير نفسها بمحركات غير معروفة، من أجل نتيجة غير معلنة في الوقت الحالي(..)، رغم أن بعض السياسيين المغاربة مازالوا يحلمون بتسييس الرياضة، كما حصل مؤخرا عندما ظهر عزيز أخنوش في مدرجات ملعب مراكش لمساندة فريق حسنية أكادير، بهدف انتخابي مفضوح(..) تماما كما حصل مع فريق شباب الريف الحسيمي أيام إلياس العماري، حيث كان التحالف السياسي وراء وصول فوزي لقجع لرئاسة جامعة كرة القدم (..).

يمكن القول أن من حق أي سياسي أن يستغل الرياضة للوصول إلى أهدافه؟ لكن، هل يعرف هؤلاء السياسيون خصائص “الحشود”، والتي تشكل أحد ركائز التشجيع الرياضي؟ ما الذي يضمن عدم نشوب صراعات سياسية بين الجماهير؟ فـ((من خصائص الحشود، استعدادهم السريع للتصديق المطلق لكل ما يسمعونه! بسرعة كبيرة ولأبعد الحدود، حيث يتم قبول وتصديق معظم البيانات والإشاعات الواردة إلى الحشد! لدرجة السذاجة! والحساسية المبالغ فيها، وقصر النظر والتبصر منقطع النظير! وعدم قدرتهم على الاستجابة للمؤثرات العقلية)) (جوستاف لوبون. كتاب “سيكولوجية الحشد”).

ورحم الله أيام الحسن الثاني، حيث لم تكن المدرجات مجالا للمزايدة السياسية، رغم أن المحللين سموا فترته بفترة مخزنة الرياضة، فـ((لم يكن المخزن ليجد حرجا في فرض تصوراته خدمة لغرض سياسي، إلى درجة إشراك العديد من العسكريين في تسيير العديد من الجامعات الرياضية.. المخزن كان حاضرا حتى لو تطلب الأمر تمييع المشهد الرياضي برمته، فموسم 1984 عرف على سبيل المثال، احتلال شباب الساقية الحمراء للصف الأول في شطر الجنوب ببطولة القسم الثاني.. واعتبرت السلطة هذا الإنجاز قابلا لتأكيد شرعية المغرب على صحرائه ولتحقيق التوازن)) (المصدر: منصف اليازغي، كتاب مخزنة الرياضة).

أيهم أحسن: مخزنة الرياضة، أم تسييس المدرجات، أم ترك مهمة تأطير الجمهور للفراغ؟ اليوم انتظم الشكل الاحتجاجي في شكل أغنيات احتجاجية، تلتقي كلها في دق ناقوس الخطر.. لكن عدم التقاط الرسائل قد تكون له نتائج وخيمة، فمن لم تحركه أغنية “عاش الشعب”، لن يحركه إلا شكل احتجاجي أقوى، ووقتها، يكون الأوان قد فات(..).

تعليق واحد

  1. مقال ممتاز والأسلوب جميل. وهو يعبر عن انتقاد بناء وموضوعي. كما يعبر عم وطنية قوية للكاتب. أنا صحفي وبكل صراحة بعد قراءة هذا الموضوع وجدت فيه كل ما كنت أود قوله وأكثر.
    شكرا جزيلا لجريدة وموقع الأسبوع، مدرستي الأولى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى