“التي جي في” | الفرنسيون يبيعون القِرد للمغاربة ويضحكون على من اشتراه
بغض النظر عما إذا كان سريعا أم لا.. لم يكن القطار فأل خير على المغاربة في أي يوم من الأيام، ويمكن الاستشهاد على صحة هذا الاعتقاد بالعودة إلى كتب التاريخ، والنموذج البارز في هذا السياق هو حالة السلطان المولى عبد العزيز الذي اقتنى قطارا من أوربا، قبل أن يكتشف بأن المغرب لا يتوفر على سكة حديدية(..)، فاقتصر استعماله لهذه الآلة على اللعب، حسب ما حكاه المصور الفرنسي “غابرييل فير”، الذي وصف الظروف التي نَقَل فيها حوالي 60 بَغْلاً عربتين للقطار من ميناء العرائش إلى فاس، حيث كان يقيم السلطان، الذي اكتفى ببناء كيلومترين من السكة الحديدية من أجل التنزه، فوق أرض كانت محل نزاع مع الساكنة(..).
وغير بعيد عن الفترة التي خضع فيها المغرب لحكم السلطان المولى عبد العزيز، وما حكاه المصور الفرنسي صاحب كتاب “في صحبة السلطان”، فقد سبق للسلطان مولاي الحسن الأول أن استفتى الفقهاء سنة 1888 حول موضوع القطار، لكنهم حرموه، تحريما شبه جماعي باعتباره وسيلة من وسائل الاختراق الأوربي(..).
هكذا إذن كان القطار دائما مصدرا لإلهام الأوربيين، بالنكت حول المغرب والمغاربة، ولعله من سخرية القدر أن يأتي، كاتب فرنسي اسمه “مارك فريسوز” (MARC FRESSOZ ) ليسخر من المغاربة مجددا، سنة 2011، بمناسبة اقتناء القطار فائق السرعة (التي جي في)، حيث يخصص محورا كاملا للمغرب، من خلال حديثه عن “هدية المغرب”، وفيه يشرح أسرار هذه الصفقة المثيرة للجدل(..).
“في هذه الدولة (المقصود هو المغرب) ذات الكثافة السكانية التي تصل إلى 30 مليون نسمة، حيث مازالت الحمير تجر العربات في مركز المدينة، سيقدم قطار “التي جي في” خدماته من خلال عربات مكونة من طابقين، على متن سكة تقطع المسافة بين طنجة والدار البيضاء، على امتداد 340 كلم(..) “التي جي في” يمر تحت أشجار النخل في بلد الجمال، منظر لم يسبق أن رآه أي أحد، ولكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، بل إن الخطوط سيتم تمديدها نحو الجنوب.. أمر لا يصدق، عندما نعرف أن أكثر من نسبة 15 في المئة من سكان المملكة، يعيشون تحت عتبة الفقر”.
الفقرة أعلاه مقتطف من كتاب “الإفلاس بسرعة فائقة”، لصاحبه “مارك فريسوز”، صدر سنة 2011 عن مجموعة “Cherche Midi”، وفيه يكشف الكاتب الذي سخر من المغرب والمغاربة، أسرار العلاقة بين شركة “ألستوم” الفرنسية، التي باعت “التي جي في” للمغرب، وبين الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، الذي شوهد وهو يدشن انطلاق أشغال “التي جي في” سنة 2011 مبتهجا في طنجة، في أوج انطلاقة “الربيع العربي”(..).
الرباط: سعيد الريحاني
———————-
قطار “التي جي في” مثل طائرة رافال.. غير قابل للتسويق في الخارج
لا أحد يعرف سبب أفول نجم تلك المجموعات التي كانت تطالب بالتراجع عن إنشاء مشروع القطار السريع في المغرب، كما لا يعرف أحد سر هذا التكتم حول الكتاب الفرنسي الذي يتحدث عن “30 سنة من التي جي في” في فرنسا لصاحبه “MARC FRESSOZ” رغم أن المعطيات التي تضمنها هذا المؤلف الصادر سنة 2011، تبدو صادمة وكانت تتطلب على الأقل تحركا من الأطراف المعنية بهذه الصفقة.
يقول مارك: “بمجرد صعوده في الانتخابات الرئاسية لسنة 2007، وضع الرئيس نيكولا ساركوزي نفسه في خدمة – الأبطال الوطنيين-، ويقصد بهم الشركات الفرنسية العملاقة مثل “ألستوم، وأريفا..”، والتي تحظى بالدعم على الساحة الدولية من أجل تشجيع قدرتها التنافسية، ويوضح بأن مجموعة “ألستوم”، التي باعت القطار السريع للمغرب، كانت مهددة بالإفلاس منذ سنة 2000، ولكن ساركوزي قام بعدة مجهودات لإنقاذها منذ تعيينه من طرف جاك شيراك رئيسا للحكومة.
الكاتب نفسه، يؤكد أن “ألستوم” كانت بمثابة مجموعة مدللة لدى ساركوزي، رغم النقاشات الحادة التي رافقت عملها، مثل ما حدث داخل اللجنة الأوربية، بين العمدة السابق لدائرة “نويي”، و”ماريو موتي” وزير الاقتصاد والمالية الإيطالي الذي كان يطالب بتفكيك هذه الشركة.
من خلال كلام مارك، يتضح أن المجموعة التي فازت بصفقتي “الترامواي” في الدار البيضاء والرباط وصفقة “التي جي في”، وصَفَّقَ لها المغاربة، كانت في الحقيقة شركة على حافة الإفلاس، “فزيادة على دعم الأبناك، قامت الدولة الفرنسية بشراء نسبة 21 في المئة من رأسمال “ألستوم”، مما يعني ضخ 720 مليون أورو في صناديقها، بالمقابل قام “باتريك كرون” المدير العام للشركة في تلك الفترة والمقرب من ساركوزي، بالتخلص من العبء الذي كان يسببه الاشتغال في بعض المجالات مثل توزيع الطاقة والموانئ، واحتفظ ببناء المحطات الكهربائية والسككية لـ”التي جي في”، وبذلك تم إنقاذ المجموعة من سيناريو كان يرمي إلى إدماجها في شركة “سيمانس” الألمانية، وعلى إثر ذلك هبط رقم المعاملات إلى أقل من 17 مليار أورو سنة 2007، بعد أن كان يساوي، 24 مليارا ونصف..”.
“وبعد مرور هذه الدوامة، عادت الدولة لتبيع حصتها في “ألستوم” محققة قيمة مضافة تتجاوز 1 مليار و200 مليون أورو، وجرى البيع لصالح شركة “بويغ” التي كان يديرها “مارتان بويغ” سنة 2007، هذا الأخير اشترى نسبة 25 في المئة من رأس المال، وكان يرمي من وراء ذلك إلى عملية تنويع في اهتمامات الشركة من خلال الاستثمار في مجال مقاومة الغازات المسببة للاحتباس الحراري، حسب الكتاب، خصوصا في سياق التقارب بين “ألستوم” و”أريفا”، مما سيمكنه من ولوج مجال الطاقة النووية.. أما في قطاع النقل فإن “ألستوم” تملك أوراقا حقيقية، وقد توقعت أن تقوم مجموعة من الدول بالتحول من قطاع السيارات إلى قطاع السرعة الفائقة، ومن بين تلك الدول: العربية السعودية، والبرازيل، والولايات المتحدة، والهند، وروسيا.. بل إن دول أقل غنى تحلم يقينا بـ”التي جي في” مثل المغرب”، (مقتطف من كتاب مارك فروسوز).
——————–
قاطرة “التي جي في” تساوي 25 مليون أورو
يؤكد مارك أن ساركوزي عمل كل ما في وسعه لبيع التكنولوجيا المتقدمة التي يملكها أصدقاؤه في “ألستوم”، ولكن “التي جي في”، رغم أنه قطار سريع وأنيق، إلا أن هذا القطاع السككي يعاني من عيب خطير مثله مثل الطائرة العسكرية، المقاتلة رافال، المصنعة من طرف “داسو”، والتي لم يسبق أن تم بيعها خارج فرنسا، حيث أن الشركة الوطنية للسكك الحديدية بفرنسا هي الزبون الوحيد لـ”ألتسوم”(..).
ولعل ما يفسر عدم الإقبال على اقتناء قاطرات “التي جي في” هو تكلفة إنتاجها المرتفعة، فقاطرة واحدة تساوي 25 مليون أورو، ينضاف إليها مبلغ بناء السكك التي يستعملها “لتي جي في”، 16 مليون أورو للكيلومتر، زيادة على تكاليف الصيانة، أنظروا إلى فداحة الأرقام المعلن عنها، والتي لم يتم تكذيبها.
—————-
فرنسا تسحب البساط من تحت أقدام إسبانيا
يؤكد صاحب الكتاب، أن التحول نحو القطارات الفائقة السرعة، بمثابة ثقافة لا يمكن الوصول إليها بين عشية وضحاها، ولعله بذلك يسخر من المغاربة الذين لم يتعودوا بعد التنقل بواسطة القطار العادي فما بالك بـ”التي جي في”، “تلك الفخامة المحجوزة للأغنياء”. كما يشرح نفس الكاتب كيف أن فرنسا تمكنت من سحب البساط من تحت أقدام إسبانيا التي كانت تطمح لدفع المغرب نحو القطارات الفائقة السرعة، علما أنها كانت تناقش إمكانية إقامة قطار تحت الماء عبر نفق من جبل طارق إلى طنجة.
يقول مارك، إن ساركوزي ومن أجل تحقيق أهدافه، خصص أولى زياراته لدولة المغرب، وقضى ثلاثة أيام في ضيافة الملك محمد السادس، ويشرح كيف أن فشل عقد صفقة طائرة رافال الفرنسية، لعب دورا في الدفع بشكل تلقائي لتنفيذ صفقة لصالح القطار السريع الفرنسي، حيث أن المغرب وقع عقودا لاقتناء 24 طائرة حربية أمريكية (f 16)، رافضا كل عروض شراء طائرة رافال الفرنسية، التي قدمت له بمناسبة إعلان الرغبة في تجديد الأسطول العسكري(..).
يسخر “مارك” من المغرب عندما يقول بأن “التي جي في” سيصل إلى المغرب الذي تجر فيه الحمير العربات وسط المدن.. ويقول بأن نسبة 15 في المئة من السكان يعيشون تحت عتبة الفقر، ويضيف بأنه بغض النظر عما إذا كان السكان سيستجيبون لملء عربات “التي جي في”، فإن المغرب يراهن على السياح، ويحددهم صاحب الكتاب المذكور في السياح الفرنسيين، المتقاعدين، والطبقات الميسورة في المملكة.. إنه يستهزئ (الكاتب)، ولكنه مع ذلك يقول إن فرنسا حققت الأهم، فهذه الصفقة نصر مقدس للقطار الذي لم ينجح في الخارج.
ففي سنة 2007 كان ساركوزي يعرف جيدا حسب مارك، قوة المنافسة الإسبانية، ويعرف أيضا قوة الأمريكان الذين ضاعفوا قوة فرنسا في مجال الطائرات الحربية، كما لم تكن هناك فرصة لترك المجال أمام الألمان الذين كانوا يتطلعون بدورهم لهذه الصفقة.
—————–
هل حصل فعلا تزوير التوقعات؟
يشرح صاحب الكتاب، كيف أن فرنسا استعملت كل الوسائل كي لا تفلت صفقة “التي جي في” من بين يديها، لاسيما وأنها كانت ستعزز البعد الجيوستراتيجي لهذه الدولة تجاه دول جنوب المتوسط، أليست فرنسا هي صاحبة فكرة “اتحاد المتوسط”، ذلك المشروع الذي أطلقه مستشار الرئيس ساركوزي هنري.. علما أن الدولة الفرنسية استعملت أسلوب، دفاتر الشيكات، من أجل فك الشفرات، حسب قول صاحب الكتاب الذي لم يشرح المقصود بهذا الأسلوب(…).
و يبقى أخطر ما يكشفه “مارك” هو قوله بأن الأطراف المعنية بمشروع “التي جي في”، رفعت من مستوى التوقعات، لكي يكون الجميع سعيدا، حيث قيل إن القطار فائق السرعة سيحمل في سنته الأولى أكثر من 6 ملايين مسافر، وهو الرقم الذي أعلنه المكتب الوطني للسكك الحديدية.
“يمكننا دائما أن نحلم” يقول مارك، الذي يشرح أسباب انسحاب البنك الأوربي من دعم مشروع غير ذي مردودية، بسبب الفيتو الألماني، قبل أن تدخل وكالة التنمية الفرنسية والتي يسيرها منذ سنة 2010 شخص ذو ميولات “ساركوزية”، وتم التوقيع على شيك بمبلغ 220 مليون أورو(..).
—————-
الكتاب الذي فضح إفلاس شركة “ألتسوم” لصاحبه مارك فرسوز
بغض النظر عن ذلك السياق الذي تم فيه الحديث عن كون المغرب “عشيقة فرنسا”، وبعض النظر عن الأزمة التي تبعت ذلك، فإن الكتاب الذي أصدره “مارك فريسوز” يستحق أكثر من وقفة للتأمل، بل يتطلب دخول الأطراف المعنية بالمشروع على الخط لتصحيح أو تكذيب المعطيات الخطيرة الواردة فيه، وربما لن يقبل أحد ذلك الاستفزاز عندما قال في كتابه “بعد ثلاث سنوات من التملق على حساب أعصاب الفرنسيين”، كان هناك ارتياح كبير في دجنبر سنة 2010، عندما تم توقيع عقد “التي جي في” بين المدير العام لشركة “ألستوم”، وكريم غلاب..”.
يذكر أن حكومة العدالة والتنمية قد سكتت نهائيا عن مناقشة مشروع “التي جي في”، بل إنها أصبحت تبرر التأخر في إنجازه بدعوى أن هناك مشاكل مرتبطة بنزع الملكية، علما أن المشروع تم تدشينه بطريقة احتفالية كبيرة في شتنبر 2011، في مدينة طنجة، وتم التأكيد على تكلفته التي تبلغ حسب ما هو معلن عنه 20 مليار درهم مغربي، أي ما يعادل 1.8 مليار يورو.
ويسمح الاتفاق الموقع عام 2007 لشركات فرنسية بينها شركة “ألستوم أس أيه للطاقة وهندسة النقل” بتصميم، وبناء، وتشغيل، وصيانة خط السكك الحديدية للقطارات فائقة السرعة المعروفة في فرنسا باسم “تي جي في”، وحضر التدشين الأمير مقرن بن عبد العزيز، رئيس الاستخبارات العامة السعودية، والأمير عبد العزيز بن عبد الله بن عبد العزيز، نائب وزير الخارجية السعودي، وعدد من المسؤولين والسفراء.. ورغم ارتفاع الأصوات التي كانت تطالب بإيقافه ممثلة في بعض الجمعيات مثل: “مبادرة بي دي أس”، و”كابديما آفاق الديمقراطية”، و”جمعية محاربة الرشوة”، و”ترانسبارنسي المغرب”، و”منتدى بدائل المغرب”، و”أطاك المغرب”، و”الشبكة العالمية لإلغاء ديون العالم الثالث”.. إلا أن “التي جي في” الفرنسي مر فوق الجميع، بشكل يطرح أكثر من علامة استفهام مثله مثل هذا الكتاب المليء بالمعطيات الخطيرة(..).