تحليل إخباري| بعد دعوات مقاطعة التعليم الخصوصي وعدم شراء أضاحي العيد الكبير.. المغرب إلى أين يسير؟
16 يونيو، 2018
0 5 دقائق
إعداد: رشيد بغا
أصعب من الظلمة.. عدم وضوح الرؤية الذي تتخبط فيه المقاطعة والمقاطعون لسلع ثلاث شركات بالمغرب بعد مرور خمسة أسابيع على انطلاقها، ولأخطر من ذلك كله، غياب التأطير الحزبي والنقابي والجمعوي… إلخ، للغاضبين من المواطنين والذين تكتلوا في قوة عمياء تدفع بالوطن إلى المجهول.
مقاطعة لا أحد يسوقها ولا أحد يعرف المآزق التي تتقدم نحوها، ولا المصير الغامض الذي قد تؤول إليه كحركة ناعمة ظاهريا، بدأت بصرخة افتراضية على “الفايسبوك” لتتحول بعد ذلك إلى واقع بلغت فيه خسائر الشركات المستهدفة، الملايير من الدراهم، ولأن “الرأسمال جبان بطبعه”، فإن الهلع هز بورصة الدار البيضاء وانخفضت قيمة أسهم الشركات المعنية بنسب مائوية مهمة ومتفاوتة، كما وضع المستثمرون أياديهم على قلوبهم خوفا على مستقبل استثماراتهم في المغرب، مما دفع بالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للدخول على خط الأزمة بدعوة الحكومة المغربية، إلى اتخاذ ما يلزم من الإجراءات والتدابير المستعجلة لخروج المغرب الاقتصادي من عنق الزجاجة، وذلك بوضع حلول تقنع المقاطعين بإنهاء حراكهم الاحتجاجي السلمي، وكذا بتلجيم الجشع الرأسمالي بالمغرب في نفس الوقت(..).
دعوة الإليزيه سالفة الذكر وللأسف الشديد، أجاب عنها بشكل كاريكاتوري وزراء من حكومة العثماني، بتصريحات تفوق الخيال في السريالية السياسية، حيث اختاروا بعناية، كل أشكال النعوت القدحية، والممعنة في الحط من كرامة المغاربة دون استثناء، إلى أن أصبح الكل منخرطا في جبهة واحدة وبترابط عُصابي وانفعال مرضي ضد كل المؤسسات الاقتصادية في المغرب، ليصاب المشهد المغربي بشرخ كبير بين المواطنين والحكومة، حتى أصبحوا بمثابة ضفتين لا تلتقيان، ولن تلتقيا أبدا على المدى القصير على الأقل، اللهم إذا سقطت حكومة العثماني، وما ذلك على الملك بعزيز من أجل حماية المصالح العليا للوطن، وبصلاحيات دستورية تضمنها الدستور الوطني الجديد(..).
ستدخل مقاطعة المغاربة لمنتوجات ثلاث شركات كبرى وطنية، بداية الأسبوع الجاري، شهرها الثاني، بنجاح غير مسبوق لم يخطر على بال أي أحد من قبل، ومنذ انطلاقتها العفوية في أواخر شهر أبريل الماضي، حيث انتشرت الحركة “الاحتجاجية الحضارية” كبقعة زيت تندلق على ثوب، وازدادت اتساعا بازدياد المطالبين بمقاطعة بضائع أخرى، وتحديد أهداف جديدة تضربها المقاطعة وفق أجندة، أصبح كل واحد يحدد عليها موعدا ودعوات للعصيان، وكما اتفق، لتتجاوز بذلك سقف ممانعة منتجات شركات “أفريقيا” لتوزيع الغاز والوقود، التابعة للملياردير عزيز أخنوش وزير الفلاحة والصيد البحري، و”سيدي علي”، الشركة المصنعة والموزعة للمياه المعدنية التابعة لمريم بن صالح شقرون رئيسة جمعية المقاولات المغربية السابقة، وشركة “سنطرال دانون” لمنتجات الحليب، لتصل مع بداية الشهر الكريم، إلى مقاطعة السمك برفع “هاشتاغ” “خليه يعوم” مباشرة بعد ارتفاع أسعار السردين إلى 30 درهما للكيلوغرام الواحد في شمال المملكة، بل وأكثر من كل ذلك، وكما رصدت “الأسبوع” على المواقع الاجتماعية، هو بلوغ هذه الحملة إلى الدعوة لمقاطعة التعليم الخصوصي بـ “هاشتاغ” “ارفع يدك وادعم التعليم” وصولا إلى دعوة أخرى – أكثر غرابة واستباقية- تتمثل في مقاطعة اقتناء الأكباش في عيد الأضحى القادم، قبل وصوله بشهور، خوفا من ارتفاع أسعار الأضاحي، رافعين لذلك، “هاشتاغ” “خليه يتصوف” دون أن ننسى موازين، المهرجان العالمي بـ “هاشتاغ” “خليه يغني وحدو”.
كل هذا الزخم الاحتجاجي المتواتر، والسياق التصاعدي الفوضوي للمقاطعة، يعني أنها لم تعد محدودة بالزمان والمكان، أو مستهدفة في قصفها “السلمي والحضاري” كما تقول، لبضاعة أو سلعة تنتجها شركات معينة، غير أن الأمور تطورت إلى مواجهة عشوائية، لا تحمل توقيع أي كان(..)، بل هي مفتوحة على معارك جديدة وعلى كل الاحتمالات، الصعبة منها والخطيرة، بين المغاربة في الوطن والعالم من جهة، والحكومة وأصحاب الشركات أو الطبقة النيوليبرالية “الجشعة” بالمغرب من جهة أخرى.
مواجهة بأياد من حديد وقفازات من حرير، ليس لها قائد وليس لها تنظيم سياسي أو هيئة نقابية تقودها، كما لا يعلم إلا الله وحده، الحدود التي ستلامسها والمآلات السياسية التي ستقف عندها بعد أن أصبحت خارجة عن سيطرة الحكومة، وبلغت إلى نقطة اللاعودة في نفق مغربي أصبح مظلما اقتصاديا واجتماعيا على الأقل، وفي ظرفية سياسية حساسة تختزل نفسها في ضعف الحكومة، وعدم انسجام مكوناتها الحزبية، مع ازدياد المطالبة بإعادة الانتخابات وتشكيل حكومة أخرى بديلة للحالية، وهو أضعف الايمان(..).
المقاطعة، والانخراط الشعبي الكبير فيها، شكل حالة من الصدمة والدهشة، وبلغ الارتباك أشده في الحكومة ورئيسها سعد الدين العثماني، إلى جانب أصحاب الشركات ورجال المال والأعمال، فكانت ردود فعلهم فجة ومتسرعة، وجاءت تصريحاتهم متعجرفة جدا، صبت الزيت على النار، بل وساهمت بفعالية قصوى في تأجيج المقاطعة ونجاحها المنقطع النظير، خاصة حين بلغت تصريحات المسؤولين بالمغرب، درجة احتقار المقاطعين وتبخيس المواطنة والمواطنين الذين وجدوا في هذا الشكل الاحتجاجي، أسلوبهم النضالي المثالي والحضاري ضد الغلاء، حيث خرج – على سبيل المثال وليس الحصر- محمد بوسعيد وزير المالية والاقتصاد، للدفاع عنها في تصريحات مثيرة داخل البرلمان، إذ وصف مقاطعي تلك المنتجات الاستهلاكية بـ “المداويخ”.
ومن جهته، لم يتردد وزير التشغيل محمد يتيم، في اعتبار نفسه “وزيرا وليس بمواطن”.. كي يجيب أو يعطي موقفا من المقاطعة، أما مدير التسويق لشركة توزيع الحليب، فذهب إلى أبعد من ذلك حموضة، واعتبر الانخراط في المقاطعة “خيانة للوطن”، مما جر عليه، وعلى شركته، وابلا من الانتقادات اضطرت معها شركة الحليب إلى نشر اعتذار للمغاربة عن فلتة لسانه(..).
ومن الأمثلة أيضا على التصريحات التي دفعت إلى تكاثف المقاطعين وبناء متارس لصمودهم، هناك عبد الإله بن كيران، رئيس الحكومة السابق، الذي أدلى بتصريح لا يليق به ولا يخلو من ازدراء ودي تجاه الحركة الاحتجاجية، حين قال بالحرف: “إن دعوات المقاطعة مشبوهة، ويتضح أنها غير بريئة أبدا، ومن وراءها غير بريء نهائيا..”.
تصريحات بن كيران، وكالمعتاد، قربت النار من برميل البارود، بسبب المعارضة والرفض الشعبي الكبير الذي يصل إلى درجة الكراهية لسياسته الحكومية في عهد ولايته، وما رافقها من عداء غير مسبوق في تاريخ المغرب السياسي للقدرة الشرائية للأغلبية المسحوقة بالمغرب، مع تحميل المواطنين له كل البلوى التي لحقت بهم إبان حكمه و”مسؤولية ما يعيشه المغرب من غلاء فاحش.. وهو الوزير الذي تجرأ على تسليم رقبة المواطن الضعيف للشركات الكبرى، حين قام بتحرير الأسعار”.
ومن باب إنعاش الذاكرة، لا يفوتنا ذكر واحدة من ردود الفعل التي زادت الطين بلة، وقوت من تلاحم القوى المقاطعة، بين صفوف الإسلاميين المعارضين لحزب العدالة والتنمية في جماعة “العدل والإحسان” خاصة، وإلى جانبها برغم الاختلاف المذهبي، كل من يسمون أنفسهم بالحداثيين والتقدميين واليساريين من الديمقراطيين إلى الراديكاليين، ردة فعل غير محسوبة، جاءت هذه المرة على شكل تدوينة “فايسبوكية” لكتائب الجيش الإلكتروني التابع لحزب “المصباح”، لما اعتبرت “المقاطعة مكروهة في الحالة المغربية”، وشبهتها بما لا يقبل التشبيه، أي “أول مقاطعة في الإسلام، لما اجتمعت قريش وبنو كنانة على حرب المسلمين من خلال مقاطعة بني هاشم في شعاب مكة اقتصاديا واجتماعيا، حيث منعت الناس من أن يبتاعوا أو يشتروا منهم، كما منعتهم من الزواج منهم أو الاختلاط بهم، واستمرت تلك المقاطعة ما يقارب الثلاث سنوات، لكنها لم تثن عزيمة النبي عليه الصلاة والسلام، حيث استمر بالدعوة إلى دين الله تعالى، وتبليغ الرسالة لقبائل العرب في مواسم الحج”.
التصريحات سالفة الذكر وغيرها، حولت المقاطعة إلى مارد يخرج من قمقمه وتصعب السيطرة عليه من طرف الحكومة ووزرائها، كما كشف إطلاق الكلام على عواهنه من طرف المسؤولين للرأي العام الوطني، درجة التخبط السياسي وعدم الانسجام داخل الحكومة، وحدى بخبراء مغاربة وازنين، إلى القول بأنها “أصبحت تشكل خطرا حقيقيا على استقرار البلاد، وأصبحت حلولها تسير في تأزيم الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وأصبح من الضروري، إقالة هذه الحكومة بشكل عاجل، قبل تفاقم مخلفات قراراتها التي لن يكون من السهل تفاديها أو معالجتها على المدى القريب”.
هذا في الوقت الذي كان عليها أن تقر بأن مقاربة بن كيران السياسية، هي السبب الأول والأخير، مباشرا أو غير مباشر، كما أن المقاطعة، هي نتيجة لسياسة التحرير غير الناجحة، إذ أن تحرير قطاع ما، يعتبر خطوة مهمة، ولكن وضع آليات لمراقبة هذا التحرير، خطوة أفضل، لقد تم تحرير قطاع المحروقات وأعتقد أن هذا أمر جيد، لأن صندوق المقاصة، لا يمكنه مواصلة تحمل هذا العبء على الدوام، لكن من أقدموا على هذه الخطوة، كانوا يدركون جيدا أنه بتحرير هذا القطاع، فإنهم يسلمونه إلى منافسة محدودة، والمنافسة المحدودة تفترض على الأقل، نوعا من التوافق بين الفاعلين، ومن التواقف إلى الاحتكار أو تحديد هامش ربح خارج المعايير، ليس هناك سوى خطوة صغيرة.
في هذه الحالة، كان يجب إحداث آلية لمراقبة تطور القطاع، ولكنهم لم يقوموا بهذا، وبما أنه لا نتوفر على أي آلية مرجعية لمعرفة ما إذا كان ما يقوم به المستفيدون من هذا التحرير، ملائما للقواعد العامة للمنافسة، فإننا “لا نعرف حقا إلى أين نسير”، على حد تعبير حسن الشامي، الوزير الأسبق والرئيس السابق للكونفدرالية العامة لمقاولات المغرب، في حوار خص به مجلة “تيل كيل”.