تحليلات أسبوعية

ملف الأسبوع | كيف تخترق الجزائر الزوايا المغربية لعزلها عن الحرب؟

من الجنرال غيوم إلى آخر تقرير سري فرنسي

 إعداد: عبد الحميد العوني

   بالإضافة إلى ملء الفراغ السياسي في كل من المغرب والجزائر عبر التصوف، نجد المتصوفة في البلدين جزء من الحرب الباردة، وإحدى واجهات تقديرات المواجهة في الخطة “ب” التي يقودها القايد صالح في مواجهة “دجيد” المغربية.

   ودفع بوتفليقة بالمتصوفة إلى الأمام، لاستهلاك حركة محفوظ نحناح (الإخوانية) في بعض الوزارات ومواجهة الحركة القبايلية، ولم يعد لإمارة المؤمنين المغربية سوى المتصوفة لتجاوز ظاهرتي الإسلام الحركي (لحكومة بن كيران)، والعرقية السياسية التي يقودها (إلياس العماري)، المتمثلتين في كل من حزبي العدالة والتنمية، والأصالة والمعاصرة.

   وفي خطاطة العمليات، التي صادق عليها بوتفليقة دون نعتها بأنها حرب يوم 27 مارس 2016، عزلت الجزائر “مداغ ووجدة” عن الهجمة المتوقعة، ويعرف الجميع، أن الرئيس والقايد صالح “قادريان”، وتنتمي البودشيشية إلى الزاوية القادرية، فما هي أسرار هذه الفئة في سيناريوهات المواجهة المفتوحة بين الجزائر والمغرب؟

 بوتفليقة بدأ رئاسته من غرب الجزائر التي ينتمي إليها، فعزز رمزية تلمسان مقابل “مداغ”، وقال إن بالمدينة المنسوبة لأبي مدين المنور (المتوفي في 1955) شيخ البودشيشيين لتمكين الدرقاوية من العودة إلى أصولها في مناهضة “العرش العلوي”، فيما اتجه الحسن الثاني طيلة عهده إلى التيجانية لتعزيز دوره في غرب إفريقيا، وربط الرباط بدكار مرورا بالصحراء، وشنت الجزائر عليه حربها من داخل التيجانية لمحاولة ربح تموقع متقدم في القارة السمراء، وإحياء ما دعته المخابرات الجزائرية (الدرقاوية السياسية) لتأمين غرب البلاد

   في كلمة مختصرة، تنعت المخابرات الجزائرية الحسن الثاني بـ “التيجاني”، والملك محمد السادس بـ “البودشيشي”، إيمانا منها بمحاولة كسب التحالفات الروحية في غرب إفريقيا لحسم أوراق اللعبة، فالحسن الثاني اتجه جنوبا نحو السنغال تعزيزا لمحور الرباط ـ داكار، الذي ساهم في دعم دورالمملكة بعد استرجاع الصحراء، وساهمت “التيجانية” في رهانات الحسن الثاني الجغرافية والجيوسياسية في المنطقة، يقول الأكاديمي “باكاري سامبي”، إن التيجانية قوة ناعمة في استراتيجيات التأثير المغربي، بما فيها تحديد من يرأس السنغال، منذ الاستقلال، وإلى انتخابات عبد الله واد، تاريخ نهاية تأثير (البركة) في الانتخابات السنغالية، وكانت الرباط فاعلا مركزيا في تحديد من يحكم داكار، ويشمل هذا التأثير، جنوب موريتانيا وشمالها منذ قتل الولي مصطفى السيد بطائرة فرنسية قادها طيار تيجاني.

   يقول الحاج “سامبا ديالو”، في نفس الندوة التي حاضر فيها سامبي وأطرتها مؤسسة (إفري)، إن “التيجانية” ساهمت في التداول على السلطة، أي في كل تفاصيل العملية الحزبية في السنغال، وقاد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الحالي معهد الدراسات الإفريقية في عهد الحسن الثاني، وسهر على تمتين علاقات بلاده مع “التيجانية” قبل أن يتحول في عهد محمد السادس إلى تعزيز علاقات العرش مع الدرقاوية (البودشيشية).

   وسهر الرئيس بوتفليقة شخصيا، على عرقلة تواصل التيجانيين بالمغرب والمنطقة من خلال دعم “تيجانيين جمهوريين” مؤمنين بالتداول على السلطة وفي الجيش، انتهازا لفرصة انتقال العرش في المملكة، كي لا تتواصل (العلاقات المتميزة) بين التيجانيين وبين خليفة الحسن الثاني.

   وفي جانب ثان، حركت الجزائر علاقات غامضة مع الدرقاويين استفادة من إرث عارض فيه شيخ البودشيشيين (أبو مدين المنور) العرش العلوي، وسادت هذه القناعة عموم الدرقاويين، تقول مراسلة الجنرال غيوم إلى وزير الخارجية بيدو (مديرية إفريقيا ـ لوفون) تحت الرقم 1589(وبتاريخ الأول من يوليوز 1953)، أي في عز انتفاضة المغاربة لعودة محمد الخامس، وتحت بند سري جدا، إنه توصل من زاوية “درقاوة” لأمجوت وطنجة بمراسلتين، الأولى في 23 ماي 1953، والثانية في يونيو 1953، وتتضمنان الولاء لفرنسا، وموقف هؤلاء المتصوفة ضد السلطان وسياسته بألفاظ قوية وخالصة. ويعلق الجنرال غيوم على هذا الموقف، بأن له “دلالة ومصلحة خاصة”، وأن الشريف سيدي بوبكر الدرقاوي لم يحضر مؤتمر (زوايا إفريقيا الشمالية) بفاس في أبريل 1953، ومن جانبه، أظهر قائد “درقاوة” في طنجة، الحاج المكي الزيلاشي نفس الموقف من خلال تنديده بما ورد في صحيفة “صوت الشعب” الموالية للوطنيين. وعمل محمد بن الحسن الوزاني من خلال الزاوية الوزانية، على حصار (الزوايا الداعمة للاستعمار)، ولم يتمكن من نقل تأثير الشوريين عبر الدعوى القومية إلى الجزائر، لأن الوطنيين لم يرغبوا في جر المنطقة إلى مواجهة (بأبعاد قومية أو روحية).

   وهو ما يستثمره بوتفليقة، وقد لجأ أخيرا إلى إدارة موقع متقدم لبلاده في المنطقة من خلال (الأدوار الجيوسياسية والأمنية) للزوايا، وأطلقت الجزائر تحت رعاية رئيسها، ملتقى دوليا للتيجانية، لكن مسجد الحسن الثاني في داكار، ومركز الدراسات التاريخية التيجانية التابع لجامعة الرباط، قلل من هذا التأثير الذي شكل (أدوارا أخرى) أكبر من الأمن الروحي، ليمتد في نظر الصحافة المغربية إلى قوة ضاغطة في ملف الصحراء التي تحرك كل الحروب الخفية بين المغرب والجزائر. وعلى الصعيد السري، كلف بوتفليقة مخابرات بلاده بإحياء الدرقاوية وحل الصفقة التي حدثت بين العرش والزاوية البودشيشية.

 تعظيم معارضة (أبو مدين المنور) لأشراف المغرب واعتماد الأصل التلمساني للزاوية البودشيشية، لنقض صفقة العرش وهذه الزاوية الدرقاوية،  حيث رفض كثيرون وراثة الإبن للأب اتباعا لنهج أبي مدين المنور، وناصرت الزاوية الوراثة لإيمانها بوراثة الحكم في المغرب، وحاليا يهيء الشيخ حمزة ابنه جمال للولاية، وإن رفضها بعض الدرقاويين، كما رفض عبد السلام ياسين  ولاية الأب لابنه حمزة

   قرر الملك الحسن الثاني الابتعاد عن شؤون “درقاوة”، بعد خروج عبد السلام ياسين عن البودشيشية ورفضه للوراثة في نقل السر من الأب لابنه (أو الوراثة في الولاية)، كما رفض الوراثة في الحكم ، وفي كل تمظهرات الحياة الإسلامية المؤسسة على العمل وعدم التمييز وولاية الكفء، ويصف أكاديميون منهم منصف يوسف حركة العدل والإحسان بالزاوية(2). 

   وخشي الملك الراحل من إحياء عبد السلام ياسين لإرث “درقاوة” ضد عرشه كما فعلوا مع عرش والده، فسلم لعبد السلام ياسين جمعية خيرية باسم العدل والإحسان بقيت طي الجدل القانوني، لكنها حسمت عدم اتصالها بالدرقاوية “السياسية”، وتقرب الملك من حمزة البودشيشي ودعمه دون إثارة خصومه إلى أن تمكن له الأمر. وإن سار الحسن الثاني على “تيجانية” مولاي حفيظ لإعادة بلورة المشهد من حيث انتهى، فإنه أبعد الزاوية “الوزانية” بضرب قاعدتها الحزبية (الشورى والاستقلال) واتجاهها القومي العربي، من خلال الحركة الأمازيغية، وإطلاق حزب الحركة الشعبية لإدارة البوادي والأرياف خوفا على عرشه من الزوايا، وتواصل الملك الراحل جيوسياسيا مع التيجانيين دون دعمهم في الداخل، قصد الحفاظ على مصالح بلاده في غرب إفريقيا، وحيث تأخر السلطان مولاي حفيظ  التيجاني الطريقة (من خلال التيجاني أحمد سكيرج) تقدم الحسن الثاني وإن فقد موريتانيا، ولم يختلف الحسن الثاني عن أجداده، فمولاي علي الشريف، أخذ بشارة الحكم من مولاي الطاهر الحسني، ومولاي رشيد من مولاي عبد الله الواطي، وغطت الصوفية على ما يجمع عبيد البخاري ومولاي إسماعيل، والشأن نفسه مع مولاي سليمان، ويقر (اللوفر) بتحالف الأشراف والمتصوفة في صناعة التاريخ والسياسة والثقافة المغربية(3).

   ومن سياسات بوتفليقة الجديدة فصل هذه العلاقة التاريخية بين المتصوفة والأشراف، منذ أول أيام حكمه، ومن وجدة إلى داكار، وهو الهلال الذي يجمع درقاوة إلى التيجانيين، واعتبره تقرير رئاسي في 2003 الحزام الحيوي للمغرب، وهو التقرير الذي عمل عليه الرئيس منذ 12 أكتوبر 2003، وأدار 20 عملية (سرية) وبنائية تفصل بين الأشراف والمتصوفة، وتدعم المعارضين كي يستقر في مكانها (التأثير الجزائري في غرب البلاد وغرب إفريقيا). ورفض الجزائريون في خطتهم تعميق التواصل مع (العدل والإحسان)، وفضلوا تعزيز مكانة تلمسان في مقابل مداغ، والعودة بالبودشيشية إلى اسمها الجامع (أبو مدين المنور)، ويتصل الجميع به في مناهضة العرش، لأن عبد السلام ياسين انحرف كما انحرف خصمه شيخ الزاوية، ولهذا التوجه تأثير دفين في نفوس درقاوة، الرافضين لتشتيتهم وانحراف ولايتهم بتوريثها في نسل واحد.

   ولدى البودشيشيين الجدد أو صوفية العصر الجديد بتعبير “تيل كيل”(4)، رفض واسع لهذه الترتيبات، ففوزي الصقلي، الذي لا يخفي بودشيشيته والواصل في “روحانيات المغرب” بين كناوة والإرث العبري والإرث الأندلسي لفاس، وباقي العالم، ومؤلف كتاب المسيح في التقليد الصوفي (عن منشورات ألبان ميشيل عام 2013)، يقول لجريدة لوموند(5)، إن من الخطر اختزال الإسلام في الطرق الصوفية، ويجب أن نشارك في العلم والحضارة، واصفا الإسلاميين بالماديين المتطرفين، ومعلنا حربه على الوهابية التي ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي، مؤكدا أن الصوفية نشأت مع الوحي، وفارق 10 قرون بين الإيديولوجيتين كافية لحسم الصراع. وبدعوة فوزي الصقلي إلى تجاوز صوفية الرباطات والزوايا، يبدأ رفض وراثة جمال لمشيخة حمزة في الزاوية البودشيشية ساريا في أوساط غربية وأيضا إقليمية.

   ولا يمكن للشيخ حمزة، أن يملأ فراغ ما بعد الإسلاميين (حكومة بن كيران)، أو أن يناهض مصالح الجزائر في شرق البلاد لتأمين انتقال المشيخة إلى ابنه، وعلى ذلك يسكت عن التوجهات الجديدة الداعية إلى “الدرقاوية الأصلية” المناهضة للعرش المغربي، وأي دعم رسمي لصفقة انتقال المشيخة من الأب للإبن سيؤثر جذريا على حسابات حيوية للمملكة منها: عدم استيعاب “الصوفيين الجدد”، وهم جزء رئيس من لعبة التوازنات، فالحسن الثاني دفع ثمنا لا يستهان به في دعمه لوراثة البودشيشيين، ومات وعبد السلام ياسين ينكر عليه إمارته للمؤمنين، وقد يتعرض هذا العهد لدرس شبيه قد يتصل بإرث (درقاوة) المعارض. ويخدم هذا التوجه (الجزائريين) في خطتهم بعد أن اعتنق الرئيس وقائد الجيش هذه الطريقة (الدرقاوية)، وحرموا على الجيش قصف مداغ ووجدة في أي سيناريو محتمل للمواجهة.

 حرب “الجذور” التي يمارسها بوتفليقة لعزل متصوفة المغرب عن أي مواجهة بين بلاده والمملكة

   لم تدعم الزاوية البودشيشية الحسن الثاني في حرب الرمال عام 1963 ولو بكلمة، تبعا لما سار عليه شيوخ (درقاوة)، بل ساعدت الدرقاوية في ميلاد (العلوية) للشيخ أحمد العلوي في مستغانم والمتوفي كما هو معلوم عام 1934، استثمرت السلطات الفرنسية موقفه وفصلت دعم العلويين في الجزائر عن دعم الأسرة العلوية في المملكة، وأخذ الجميع في بناء وجه صوفي وأخلاقي وغير سياسي للعلويين، واختار الوطنيون المغاربة لفصل ما هو جزائري عن المغرب، فانفصل العرش عن الزوايا، وظهرت مع لباس الأميرة للاعائشة حداثة تتجاوز  الشيوخ، وتحالف الإصلاحيون مع محمد الخامس لبناء ملكية دستورية، لكن تقديرات جديدة بدت مع الحسن الثاني، فتمايزت الولاءات مرة أخرى، وفي نهاية عهده ضرب بوتفليقة على وتر (خيوط اللعبة الصوفية) للمملكة بطريقة باشر معها الجميع خلاصة تقترب من إعلان البودشيشية زاوية رسمية.

 بعد خسارة العلويين للزاوية العلوية بفعل خطة مدروسة نجحت فيها فرنسا انتهت بعزل العرش عن الزاوية، أصبح رهان عزل الجيش المغربي عن الزاوية جزء من خطط جزائرية يتقدمها الدرقاويان ـ بوتفليقة وقائد الجيش قايد صالح ـ

    خسرت الزاوية العلوية دورها منذ إطلاق الشرفاء في المغرب الكبير حرب الأمير عبد القادر الجزائري (المتوفي عام 1883) وهو علوي، ونفته السلطات الفرنسية إلى الزاوية الأكبرية في سوريا التي تجمع هؤلاء الشرفاء الجامعين للنسب ولمقام السلوك، ونفت أميرا شريفا مولاي محمد بن الحسن إلى كورسيكا، ليعود “ملكا دستوريا” حسب اتفاقية إكس ليبان، وقد فضل الجنرال غيوم في حال عدم رغبة باريس في عودة محمد الخامس إلى الحكم ذهابه إلى سوريا، ورفضت السعودية وبريطانيا أن تستقبل على أراضيهما العائلة الحاكمة للمغرب لأنهما أرادا عودتها إلى الحكم.

   ومن ذكاء محمد الخامس أن ميز عرشه وثورته على المحتل، عن ثورة الأمير عبد القادر، وأيضا عرشه بدفاع اليهود عنه، ولم يرغب في تكرار ما فعله مولاي حفيظ بالانتماء إلى زاوية معينة، فكان ملك الجميع، قبل أن يقترح أحد مهندسي السياسة المغربية من أصل جزائري عبد الكريم الخطيب إطلاق صفة أمير المؤمنين لاتصال حكمه بعمر ابن الخطاب، وقد جمع إلى نسله العلوي إمارة الراشدين. 

تحييد المتصوفة في أي مواجهة مغربية ـ جزائرية ضمن خطة العمل العسكرية للقايد صالح

   يعتقد الجزائريون، أن الدرقاوية منذ أبي بكر بن محمد الدرقاوي رئيس الزاوية الدرقاوية لإفريقيا الشمالية جزء من معارضة المخزن ومعارضة توسعه نحو الصحراء الشرقية، وتحاول الجارة الشرقية تحييد الدرقاوية البودشيشية في أي مواجهة قادمة بعد موقفها الواضح في حرب الرمال. وأعاد الاستعمار الدرقاوية إلى أصولها الشرقية لمحاصرة ما دعاه (الامبراطورية الشريفة) من البغدادي الجنيد السالك (المتوفي في911 للميلاد)، والذي يبعد الشرف وآل البيت عن “السلوك الصوفي”، ولا يربط بين الحكم والانتماء للأشراف ويقدم الحسن البصري (642 ـ 728) من الأصول المدينية، كما يقدم الإمام مالك أعمال أهل المدينة (من الأنصار) دون الدخول في صراع المهاجرين من بيوت قريش على السلطة. ولم تستطع الدرقاوية في المغرب إنتاج قطب غياث يجمع مختلف أطرافها، وتخوف منها العرش الشريف لاتصالها بتبني العثمانيين لها، وهي تعود إلى القرن الثاني عشر في بغداد، قبل أن تنتقل بمقولات جلال الدين الرومي إلى  كونيا في القرن الثالث عشر، وناصرت الدرقاوية السنوسية في شمال إفريقيا، وانتصرت لها في الحكم عوضا عن العلويين في المغرب منذ ذي النون المصري.

   ومن المعروف، أن صوفية المغرب غلبت المصاحبة على المحاسبة، فصاحبت السلطان، ولم تصل إلى الفرقة، فبقيت إلى جانب أهل الحكم، وميز (أبومدين) في تلمسان مدرسته عن الملوك في المغرب الأقصى، فبنى اتجاها جزائريا تحاول المؤسسة الجزائرية تطويره وتوسيعه في أوساط المتصوفة المغاربة، بما يفيد مصادرة وراثة جمال للشيخ حمزة، وإن أرادت الزاوية البودشيشية سلاسة في الانتقال ركنت إلى عزل نفسها وتحييدها عن الصراع الجزائري ـ المغربي. ويعود شبح القادرية إلى ما أدانت به للعثمانيين وتركت العلويين في المغرب، حيث ناصرت السنوسيين وعارضت محمد الخامس في كل الترتيبات التي جرت في المنطقة لإفشال الهجوم المغربي على الجزائر تحت عنوان السلام، وعدم دعم المغاربة في أي حرب حول الصحراء. والتزم الملك محمد السادس في خطابه بالسلام في اللقاء الدولي بسيدي شيكر،  وعرف المجتمعون جوهر الدين بتطهير النفس الإنسانية من الأنانية(6)، وهو ما يبعد جزئيا شبح الحرب بين الجزائر والمغرب ، ويزكي عدم المشاركة في حال اندلاعها من خلال بعض الخطاب الرسمي الخاص بالتصوف في المملكة.

   وما يجري في الكواليس، يبتعد كليا عن سياسات دول، بل يمهد لاختراقات (مخابراتية) حولت عناصر الجيش الجزائري إلى معارضين إيديولوجيين للمغرب بعد السماح لهم بالتصوف وبناء (روح تلمسان) في الجيش، كما تقول الوثائق الجزائرية التي تسربت من طرف الجنرال توفيق إلى الفرنسيين (آخرها في 12 يناير 2016). وفي مقابل ما يجري في الجزائر من تصوف الجيش، فكل زاوية في المغرب لها وظيفة دينية ودور سياسي(7) تؤديه، لكنه لا يصب بالضرورة في صالح المملكة و تحديدا مصالحها اتجاه جيرانها، بل تدعم الزوايا موقع السلطة ولا تقوي روحها المعنوية على الحرب، وآداء المتصوفة في حرب الصحراء (1975 ـ 1991)  شبه منعدم، أو غير مكشوف إلى الآن.

   وحاليا، يواجه المغاربيون انقساما صوفيا جذريا، ليس لأن الصوفية مقابل موضوعي للإسلام السياسي منذ القرن التاسع عشر(8)، أي قبل سقوط سلطنة المغرب عام 1912 ـ كما تقول دراسة مصطفى أمرونز ـ وإلى الآن، بل لأننا  أمام انقسام داخل كل زاوية في المغرب والجزائر، وتضيع في هذا الإطار، الصوفية المتجددة لسيدي حمزة القادري البودشيشي، كما يطلق عليها الباحث كريم بن إدريس(9)، وخصوصا في امتحان “الوراثة”.  وفي صعود التصوف إلى مقعد بن عجيبة وإسراءه العجانبي(10) وهبوطه اليوم إلى وراثة الزاوية، كما يورث المال بين الابن وأبيه يبين للجميع، وبعين مجردة، درجة الانحطاط الذي وقعت فيه التربية الروحية، فكيف إن رأينا “تصويف” الجيش الجزائري، وتعبير سلفيين مغاربة يتقدمهم الشيخ الشاذلي عن “الحرب المقدسة” ضد الجزائر لأنها تسمح بـ (تشييع) شعبها، وقد انخرط هذا الشيخ إلى  جانب مجموعة من السلفيين في حزب الكوميسير (عرشان).

 تصويف الجيش الجزائري تتقدمه الطريقة الدرقاوية لقائده في مواجهة سلفيين مغاربة يتقدمهم الشيخ الشاذلي من حزب الكوميسير عرشان المؤمن بالحرب المقدسة ضد الجزائر، وضع يحول المواجهة الجزائرية ـ المغربية إلى مواجهة عسكرية مقدسة

   ما يحدث حاليا في التهيئة النفسية للجيش الجزائري، أن قدرته الإيمانية مرتبطة بقناعة وحب (آل البيت)، الذي يسود أوساطه وبشكل غير مرتبط بإمارة المؤمنين (العلوية) بالمغرب، ومجرد انشطار كل الزوايا في البلدين إلى شرعيتين يدفع المواجهة بين المغرب والجزائر، إلى حرب مقدسة أكدها الاجتماع الذي حضره سلال وقايد صالح، إلى جانب قادة البوليساريو لتأمين (مناورات بئر لحلو) في المناطق العازلة، يزيدها إيمان قايد صالح وقوله أن “الحرب المفتوحة” بين البلدين (ممكنة ومهيء لها). وعززت الجزائر من (الشحنة النفسية) لهذه الحرب، ليس برفع الظلم الواقع على (الصحراويين)، بل بمحاولة أجهزتها الطعن في شرعية النظام المغربي  لمواجهته، فلم يعد ممكنا القول، إن الحرب بين الجزائر والمغرب (محدودة). من جهة ثانية، كشفت وسائل إعلام مغربية عن تعزيزات عسكرية باتجاه الراشيدية وورززات ومراكش، وتدخل هي أيضا في إطار (خطة بعيدة المدى).

   وحسمت الرسائل الأخيرة بين الجيشين والدولتين ـ الجزائرية والمغربية ـ عدم المساس بالحدود الموروثة بين البلدين وعدم السماح للجيش المغربي بدخول (المناطق العازلة) في الصحراء لأنها أيضا من”الحدود الموروثة”. وهذه الصفقة التي فرضها الأمر الواقع، كشفت من جهة أخرى لقاءات مع (شرفاء) الصحراء من طرف عقيد في الجيش الجزائري، وفي تندوف، رأى الجميع مكتبا للزاوية الأحمدية أو الإدريسية، والتقارب بين الزاوية (المريدية) لأحمد بامبا في السنغال والجزائريين. ولا تقف وجوه (الحرب المقدسة) بين المغرب والجزائر أو باتجاه السنغال، بل تشمل مالي نحو ليبيا مع السنوسيين القادريين الأدارسة الذين جابهوا العلويين، واستنهاض هذا الإرث الإقليمي بصورة غير دقيقة، يؤكد أن كل (الحرب النفسية) بين الجزائر والمغرب بدأت، ووصلت حدودا مدروسة في تحويل المواجهة المفتوحة الجزائرية ـ المغربية، إلى مواجهة (مقدسة)، وفعلا انفصل الوزانيون  الجزائريون عن المغاربة في قرار من البلدين منذ فجر الاستقلال، لوقف تأثير حزب الشورى على القوميين الناصريين يتقدمهم بن بلة واتخذت المملكة نفس القرار لغاية أخرى، والنتيجة مماثلة.

   وتمايزت الدرقاوية الشرقاوية، والبودشيشية عن الدرقاوية الجزائرية لأبي مدين وتبنى أندري أزولاي كناوة، وتواصلت الحمادشة بدون إطار فكري وتواصل منع العلويين الأشراف من زوايتهم مع وجود زاوية لهم في الجزائر، رغم إطلاق المغاربة عليها العلوية (بتسكين اللام)، وهذه الشروط تؤكد على انقسام روحي حاد لدى الشعبين، يجعل من كل مواجهة جزائرية ـ مغربية مواجهة تتجاوز الخطوط الحمراء. ولن تختلف قسوة الحرب الجزائرية ـ المغربية في حال اندلاعها عن حروب الشرق الأوسط ـ الأهلية والطائفية والجيوسياسية بين ملكيات الخليج وغيرهم.

   وفي زيارة وليد المعلم للجزائر واستقباله من طرف الرئيس بوتفليقة إعلان عن تحول الصراع الجزائري المغربي، إلى صراع محاور امتدادا لما يجري في المنطقة، واستعداد الجزائر لتعميد (جبهة البوليساريو) بنفس الرؤية إلى جانب حزب الله على أساس دعم المقاومة، وإلحاق (جبهة البوليساريو) بالمقاومة في المحور المعلن بين دمشق ـ الجزائر العاصمة، والذي تأكد أخيرا هو إضافة أخرى لتسويق الحرب في الصحراء على أسس جيوسياسية جديدة، لا تخرج فيها قضية الصحراء عن التسويات الإقليمية، لأن الأمر متعلق (بالمقاومة) لأن بان كيمون قال (بالاحتلال).

   ولا يقف سقف التطورات عند هذا الحد، عندما نعرف أن (صوفيي جلالة الملك) بتعبير “جون أفريك”(11) تقابلهم زاوية علوية تدعم البوليساريو، وفي هذا الانقسام، يكرس كل من بوتفليقة والملك المغربي “البعد الديني” في معركتهما، فرغم ليبرالية الملك عزز قبضته على الحقل الديني(12)، وقد حول المشهد في 2011 الزاوية البودشيشية إلى حزب  لدعم الدستور وإن ذابت في التظاهرات ضد بان كيمون.

 الزاوية العلوية في الجزائر تدعم البوليساريو في وجه صوفيي الملك حسب “جون أفريك”، وفي لقاء بوتفليقة والوزير المعلم، قال الرئيس الجزائري، إن بلاده مع محور المقاومة من الصحراء إلى القدس، وقال إن المخطط واحد في تقسيم سوريا والجزائر، في إشارة إلى دعم المغرب لتقرير مصير (القبايل) وهي بتعبيره “حالة واحدة، محور واحد واستراتيجية واحدة”

    حرم بان كيمون المغرب بوصف الوضع في الصحراء (بالاحتلال)، من نعت مواجهة الجيش المغربي لجبهة البوليساريو بمواجهة المملكة للإرهاب، ونقل بوتفليقة المواجهة إلى محور (المقاومة) من الصحراء إلى القدس، وقال في لقاء بوليد المعلم، وزير خارجية سوريا، إن الحالة واحدة والمحور واحد، والاستراتيجية واحدة أيضا. وقال إن تقسيم سوريا، مخطط يرفضه الجزائريون، كما يرفضون تقسيم بلادهم من طرف الجيران في إشارة إلى دعم المغرب لتقرير مصير القبايل، وأي حرب إلى جانب المقاومة تفرض حربا وقائية، بما يشير إلى تسطير رد الفعل الجزائري من الناحية العسكرية. وتكشف التطورات أن الحرب الجزائرية ـ المغربية “مقدسة”، ولن تكون محدودوة، وستكون في العمق لمنع المناورات الخارجية لتقسيم الدول.

   واختار المغرب توقيع نفس الرسالة، لأن نقل المواجهة مع الجزائر إلى القبايل، أي إلى العمق الجزائري، يساوي في مناورات “بئر لحلو” ما يقوله بوتفليقة حول “نقل المواجهة إلى العمق المغربي أيضا”. وتخدم هذه التهديدات المتبادلة، إفشال نظام جهوي جديد ذي مصداقية انطلق أخيرا في المملكة، ويكرس تواصلا ممكنا باتجاه الحكم الذاتي في الصحراء، وأي نظام من هذا النوع سيكون تحت إدارة الأمم المتحدة وينتهي باستشارة ساكنة الإقليم. وإجهاض الحل الفيدرالي في المنطقة، هدف رئيسي لمنظومة العمل الجزائرية، كما يريد بوتفليقة من جهة ثانية، الالتحاق بالمحور الروسي ومنطق موسكو في المتوسط، من سوريا إلى الصحراء للقفز على ما توصلت إليه موسكو والرباط في الفترة الأخيرة.

   ويخدم التقارب السوري ـ الجزائري، ومن خلاله الروسي بناء تقديرات “بديلة” في مواجهة التحالف السعودي أو الإسلامي ـ السني ـ لأن الرياض أغرقت سوق النفط، وتضررت الجزائر بشكل كبير من هذه الخطوة، وفي عجزها عن تمويل حرب الصحراء، قرر السعوديون الاستثمار في الإقليم، فقرر بوتفليقة الاصطفاف ضد الخليجيين، واستمرار علاقات الرئيس الجزائري والقيادة في العاصمة أبو ظبي خشية “تدهور شديد” في علاقات الطرفين، وإن حرمت الجزائر السعوديين من امتدادهم الاستثماري في الصحراء من خلال ما تدعوه “مقاومة” جبهة البوليساريو، فإن الخطر سيكون في حال تعاون “حزب الله” و”البوليساريو ” على الصعيد العسكري والقتالي.

 التعاون بين جبهة البوليساريو وحزب الله تحت عنوان “المقاومة” ضد (القوات المحتلة)، هو الانزلاق الكبير في خارطة التوازنات الجيوسياسية الجديدة

   في لقاء المعلم وبوتفيقة، محاولة من الجزائر لربط جبهة البوليساريو بمحور المقاومة ضد “الاحتلال”، وهو ما جعل الجزائر تستثمر بشكل غير مسبوق في تصريحات بان كيمون، وتؤطر أي مواجهة في خارطة التوازنات الجيوسياسية الجديدة، وهو الانزلاق الكبير الذي يجعل الجزائر والبوليساريو في جبهة واحدة ضد من يريد “تقسيم الجزائر” خدمة لإسرائيل والمغرب. ومحاولة الجزائر إعطاء أبعاد مقدسة للمواجهة العسكرية مع المغرب، من الناحية الوطنية ضد تقسيم الجزائر (القبايل) وإلى جانب المقاومة (جبهة البوليساريو)، وضد نظام إمارة المؤمنين من خلفيات صوفية وروحية مختلفة لا تمثل جزء من الخطة، بل بناء لمحور وإسناد قدرة وأفق للحركة، وعلى ذلك تكون الجزائر والمغرب قد اقتربتا من الحافة.

   ولن يكون وقف إطلاق النار سهلا أو مباشرا، لأن المواجهة “المحدودة” لم تعد قدرا إقليميا، والحرب المقدسة لها وجه استراتيجي آخر، تحاول الدولتان استثماره على الصعيد التقني والعسكري في تعزيز القدرات الحدودية والعمل على الوقاية الحرارية لمراقبتها. من جانب آخر، فإن قول الصحراويين الموالين للمغرب، وعلى رأسهم عائلة ولد الرشيد، أن تندوف “مغربية”، تحول كبير في الصراع الذي سيكون فيه صحراويو البوليساريو في مقابل صحراويي المغرب على غير العادة، ولا يمكن وصول قايد صالح إلى قلوب (الأمازيغ) في الجيش الجزائري بعد أن خاطبت المملكة القبايليين بحقهم في تقرير المصير.

   وإعطاء بعد عرقي للمواجهة الجزائرية ـ المغربية القادمة وانقسام الصحراويين بشكل عمودي، يعطي للمملكة أوراقا جديدة، فكلما ربح النظام الجزائري أوراقا في حربه النفسية ضد المغرب، ربحت الرباط أوراقا أخرى، والبعد العرقي والديني، واستثمار باقي الأبعاد الأخرى، يؤكد أن الحرب الجزائرية المغربية ستكون مفتوحة وبدون سقوف، لأنها ببساطة حرب “مقدسة” للبلدين، يهيئان لها كل قواتهما، وكل ما يمكن أن يشكل المفاجأة، وهذه الدراما إن اندلعت، سيكون لها ما بعدها في إعادة رسم خارطة نهائية للدولة الجزائرية والمغربية، بعد فشل خارطة القرن العشرين في ضمان الاستقرار الإقليمي المطلوب في القرن الواحد والعشرين.

هوامش

(1)_ Bakre sambe, tijaniyya sub sahareenne et strategies d’influence marocaine: le soufisme a l’heure du soft power,colloque international: soufisme et politique au maroc et au senegal,termes et Eujeux, institue Français de recherche al’etranger (IFRE),NOV 2012.
(2)_ mouncif youssef in collogue international: soufisme et politique et maroc et au senegal, IFRE, NOV 2012.
(3)_ www.louvre.fr cherifisme et soufisme dans l’histoire du maroc (consulté 30/3/2016).
(4)_ soufisme «new age» tel quel, 19/10/2015; 1466952.
(5)_ le souffisme peut étre un rempart a l’islam readical, jean tilouine, le monde. fr/Afrique/4/3/2015.
(6)_ (l’essence de la religion consiste a purifier l’ame humanitaire de l’egoisme) sidi chiker paper.
(7)_ les zaouias au maroc, fonction religiense et role politique,  mohammedi kadiri, thése de doctorat en droit, pergignan 2002.
(8)_ les confreries religieuses au maroc et l’islamisme du 19 et 20 ciecle, mustapha amrons, nanterre  B.U. Paris, 10, 1985.
(9)_ sidi hamza al quadiri al boudchichi ou le renouveau du soufisme, karim ben idriss, ed,al bouraq / ache (3995).
(10)_Jean louis michon, le soufi marocain ahmed ben ajiba et son miraj glossaire de la mystique musulmane, vrin, paris, 1990.
11_ maroc: les soufis de sa majesté, jeune afrique. 11/7/2011.
12_ chaick et le calife, sociologie religieuse de lislam politique au maroc, youssef belal, edition ENS lyon, 2011.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى