الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | المناورة الأولى ضد مولاي حفيظ وهزيمة جنرال فرنسي في سوق الإثنين

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 106"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

تتمة المقال تحت الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    أين هي القوات الهائلة التي جمعها المولى عبد الحفيظ؟ أين هو هذا الحماس الذي كان يلهب الأفئدة ويؤلب العزائم؟ ولماذا لم ينتصر المولى عبد الحفيظ على الجنرال داماد في سطات يوم 15 يناير 1908 ؟

إنها تساؤلات لم تتضح عناصر جوابها إلا فيما بعد..

إن ذلك الشريف البجعدي بن داوود، الذي هب لإقناع الثوار الشاويين بإيقاف القتال، قد نظم مؤامرة كبرى ضد مولاي عبد الحفيظ في السراغنة، كسر بها معنوية السلطان الجديد، وكادت أن تودي به وبجيشه وبأفكاره لولا أن سارع أخ المتآمر، الشريف محمد العربي الشرقاوي، لتقديم الدعم للمولى عبد الحفيظ ولإحباط مؤامرة أخيه وغسل العار من جبين العائلة الشرقاوية.

تتمة المقال تحت الإعلان

لكنها – على أية حال – مؤامرة أخرت ركب المولى عبد الحفيظ عن الوصول في الوقت المناسب، أي قبل وصول الجنرال داماد.

مولاي حفيظ هذا الذي دعم جيشه في مراكش بفيالق من جيوش الشيخ ماء العينين، عضد بها جيوش المتطوعين التي كانت مكونة من 3000 جندي، من سكتانة، والمنبهة، والرحامنة، وبني مسكين، والسراغنة، كما أرسل ثمانية آلاف عسكري عند قبائل أنفلوس لحماية ثغر الصويرة.

وكان المولى عبد الحفيظ قد درس هو أيضا أوضاعه وخرائطه، فنصب قيادته العليا في موقع استراتيجي هو مشرع الشعير، حيث يمكنه التحرك من على ضفاف واد أم الربيع في اتجاه سطات والشاوية.

تتمة المقال تحت الإعلان

وعندما هزمه الجنرال داماد يوم 15 يناير بسطات، عاد المولى عبد الحفيظ إلى مشرع الشعير، ليعقد اجتماعا مع ضباطه وعلى رأسهم ولد مولاي رشيد، الذي جاء ليقدم له بيانات عن الوضعية في الدار البيضاء وضواحيها.

وكان ولد مولاي رشيد قد نصب قبل مغادرته للشاوية، قائدا أعلى للجيش نيابة عنه، وهو القايد عمر السكتاني.

وكان القايد السكتاني على مستوى الأحداث يمكنه أن يترك لولد مولاي رشيد الوقت الكافي لدراسة الموقف مع مولاي حفيظ.

تتمة المقال تحت الإعلان

وفعلا، اتفق الرجلان على مخطط من شأنه رفع الحصار عن المناطق التي احتلها الجيش الفرنسي.

وبمجرد وصول النجدات والمخطط عند القائد السكتاني، هاجمت جيوش المقاومة الجيش الفرنسي في برشيد يوم 2 فبراير 1908، وكان الجنرال داماد قد ترك برشيد في حكم الكولونيل بوتكرود، الذي لم يستطع الصمود في وجه الجيوش المغربية وأفلت بأعجوبة بعد أن خلف على أرض المعركة ثمانية قتلى فرنسيين بينهم ضابط وخمسون جريحا.

وهب الجنرال داماد على رأس خمسة آلاف من الجنود، ووصل إلى برشيد يوم 6 فبراير، حيث دخل المدينة بعنفه المعهود..

تتمة المقال تحت الإعلان

ورغم استرجاع الجنرال داماد لمدينة برشيد، فإنه اكتشف من خلال دراسته للمعركة، جوانب الإصرار عند الجيوش المغربية، وأيقن أنها معركة طويلة، وربما كانت بالنسبة للفرنسيين خاسرة.

وقرر الجنرال داماد هو أيضا اللجوء إلى المناورة، فكثيرا ما نجح الفرنسيون في مناوراتهم بالمغرب.

وعندما كان المولى عبد الحفيظ يتفقد أحوال مدينة سطات وأنقاضها المحترقة، تقدم منه صحفي فرنسي يسمى كريستيان هويل، مراسل صحيفة “لوماتان” الفرنسية، وبعد أن تقرب من المولى عبد الحفيظ وسرى بين الرجلين بعض التفاهم، طرح الصحفي على المولى عبد الحفيظ فكرة لقاء مع الجنرال داماد، من أجل البحث عن حل ومفاوضات لإحلال السلام.

تتمة المقال تحت الإعلان

واستطاع الصحفي الفرنسي – المطلع على كل الجزئيات والظروف والمتاعب التي يعاني منها مولاي حفيظ – أن يضع أصبعه على نقط الضعف عند سلطان الجهاد، ولم ير المولى عبد الحفيظ مانعا من الاستجابة لمبادرة الصحفي الفرنسي، الذي توجه – حسب زعمه – لعرض الاقتراح على الجنرال داماد، الذي قبل هو الآخر الفكرة – طبعا – ولكنه في انتظار تنظيم اللقاء، احتل مدينة سطات.

ولقد بقي سرا غامضا ذلك السبب الذي دعا المولى عبد الحفيظ إلى كتابة رسالة مليئة بالتفاؤل إلى رعاياه.

فهل هو اتصاله بالصحفي الفرنسي، أم أنها ثقته في الاستعداد الأقصى الذي وصلت إليه جيوش الجهاد ؟

تتمة المقال تحت الإعلان

المهم، أنه وزع منشورا على القبائل مؤرخا بثامن عشر فبراير 1908، يعلن فيه عزمه على دخول فاس عبر بجعد ومولاي بوعزة ومكناس، ويضيف: ((إن الوضع خطير، وإن الأخطار التي تعرض لها المغرب إنما كانت نتيجة تصرفات المولى عبد العزيز سامحه الله، ولكن عن قريب ستنبلج الغيوم وستزول أثار الاحتلال، وثقوا في المستقبل واعلموا أن الله معنا وأنه لن يخيب ظننا لا في الحاضر ولا في المستقبل)).

وحتى يقطع الطريق على التأويلات السيئة والتفسيرات المغلوطة، أعلن في هذه الرسالة عن تعيين الزعيم المجاهد الفقيه محمد البوعزاوي، مستشارا في شؤون الجيش ((نظرا لثبات مبادئه وقوة إرادته ووفائه لدينه ووطنه، وسيكون محط ثقتنا، ونائبا عنا وكأنه نحن)).

ولكن رسالة المولى عبد الحفيظ لم تجد لدى الجنرال داماد الأذن الصاغية، وإنما أراد مرة أخرى أن يلعب ورقة الخلاف بين مولاي عبد الحفيظ ومولاي عبد العزيز، فقرر إرسال جيوش لقطع الطريق أمام جيوش المولى عبد الحفيظ وهو متجه إلى فاس، وكان جيش المولى عبد الحفيظ قد أخذ حظا وافرا من التنظيم والتأطير.

فغربا عند المزامزة، كانت جيوشه قوية تحت إمرة مولاي المامون مع قبائل المزامزة وأولاد سعيد، وشرقا في الشاوية كانت جيوش عرمرمة بقيادة عمور السكتاني، مكونة من قبائل المذاكرة، مزاب، والزيايدة، والكل تحت إمرة السلطان مولاي حفيظ والزعيم البوعزاوي.

هروب الجنرال داماد

    أصبح الوضع بين الجنرال داماد وجيوش الجهاد يكتسي طابع المواجهة بعد أن كان الفرنسيون يعتقدون أنه لن يتعدى إطار الاحتلال، وأصدر الجنرال داماد يوم 13 فبراير 1908، أوامر لجيوشه بالاتجاه جنوبا لاحتلال بن أحمد، حيث اشتبكت مع جنود السكتاني في معركة رهيبة.

بينما اختار الجنرال داماد أحد كبار ضباطه، الليوتنان كولونيل طوبان، وكلفه بالاتجاه إلى الرباط.

ولنترك الكولونيل فوانو، مؤلف كتاب عن “أثار جيوشنا الظافرة في المغرب”، يصف نفسه بأحد مظاهر “الظفر”، التي عرفها الكولونيل طوبان في طريقه إلى الرباط. يقول المؤلف العسكري الفرنسي: ((لقد شكل الكولونيل طوبان مجموعة من خمسة فرق وثلاث كوكبات من رجال الخيالة، ومجموعة من خمسة مدفعية منقولة غادروا بوزنيقة يوم 16 فبراير 1908، وتوغلوا في منطقة “بير رباح”. وعندما اقتربوا من واد النفيفيخ ووجهت الجيوش الفرنسية بمناطق متشعبة ومنحدرات عميقة، حيث اعترضها مجموعة هامة من الخيالة، وجرت معركة مع الغروب فقدنا فيها قتيلا وجريحا، وفضل الكولونيل طوبان الاحتماء بالليل، بينما بقي المغاربة مسيطرين على الضفة الأخرى للنهر.

وصباح 17 فبراير، قرر الكولونيل طوبان عدم مواجهة الأعداء المغاربة وجها لوجه، وتقرر انتظار مرور النهار في عملية اختفاء، واتجهت الجيوش الفرنسية تحت ظلام الليل لتحاول تطويق العدو من الخلف، ولكن المهمة أصبحت صعبة نتيجة إصرار المغاربة الذين انقضوا على الجيوش الفرنسية التي احتمت تحت قصف مدافعها، وأصبحت فيالق جيوشنا من المشاة تهب لحماية رفاقها.

وعلى الساعة التاسعة صباحا، كانت الوضعية جد متأزمة.

لقد هاجم المغاربة من كل جهة، وخصوصا من الجنوب، وساعدهم الموقف ليوجهوا لنا ضربات عنيفة من دون أن نعرف مصدرها، مما يفسر تمكن المغاربة من الهجوم علينا في سبعة مواقع مستعملين المفاجأة، واضطر جنودنا للدفاع عن أنفسهم بالسلاح الأبيض، فقد نفذت الذخيرة واضطررنا لتهريب ثلاثين جريحا بعيدا عن الميدان، ومن حسن الحظ أن الكولونيل طوبان استطاع الإفلات والصعود إلى مرتفع، وصدر الأمر بالرجوع إلى فضالة عبر طريق مكشوفة وتحت حماية نار حامية. لقد كلفتنا هذه المعركة موت ضابطين وستة جنود وجرح ثلاثة ضباط وستة عشر جنديا)) انتهى وصف الكولونيل فوانو لمعركة 16 فبراير والمنشور في كتابه عن “أثار الجيوش الفرنسية الظافرة”.

لقد كان أبطال هذه المعركة هم رجال الزيايدة، الذين فرضوا على مخطط الجنرال داماد، بغزو الرباط، الرجوع إلى فضالة.

ورغم الوفاء الكبير لهذا الضابط المؤرخ، فإنه لم يتحدث في هذه المرحلة عن الفرقة الثانية التي بعثها الجنرال داماد في نفس اليوم، 16 فبراير، بقيادة الكولونيل برولارد، والتي تعرضت لكمين في السدرة بعد أن انطلقت من برشيد واضطرت لأن ترجع هي أيضا من حيث أتت، كما لم يتحدث المؤرخ العسكري عن معركة “وادي الملاح”، التي كان يقودها يوم 18 فبراير القايد السكتاني نفسه.

وهي معارك ثلاث جمع الجنرال داماد المسؤولين عنها وكلهم فارين، وقرر إرسال برقية إلى باريس يعلن فيها “لقد أفلت الأمر من أيدينا”، حسب رواية مارتان.

وفي انتظار وصول النجدات، توجه الجنرال داماد بنفسه على رأس مجموعة كبرى لتأديب المذاكرة، واشتبك معهم يوم 28 فبراير في معركة عند سوق الإثنين، وهي معركة لم ينسها الجنرال داماد، الذي سقط في كمين وربما جرح فيه، وكان ذلك من حسن حظه.. فقد مات أقرب الضباط إليه وعددهم ثلاثة عشر ضابطا ومن بينهم الليوتنان ميرل والليوتنان فالي، وجرح أربعون، واضطر الجنرال داماد بعظمته للهروب، حيث توجه متعثرا إلى بن سليمان، ودخل إلى سيدي حجاج قبل أن يعود عبر طريق ملتوية إلى فضالة، ليضمد جراحه ويراجع حساباته، ولم يستأنف تحركه إلا في يوم 8 مارس.

هذه الهزيمة نجد لها أثرا في الكتاب العسكري للكولونيل فوانو، وهو الكتاب الذي تحدث عن كل معارك الجنرال داماد، ولكن المؤلف مارتن، مؤلف كتاب “أربعة قرون من تاريخ المغرب”، توسع في الحديث عن هزيمة الجنرال داماد على أيدي قبائل المذاكرة.

 

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى