الحقيقة الضائعة | بنك باريس والسلطان.. نموذج الاستعمار الاقتصادي للمغرب
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 96"
تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال تحت الإعلان
ديون 1904 ندفعها سنة 1984
لم يكن التنازل البريطاني عن صداقة السلطان المولى عبد العزيز ودعمه وفتح باب الأمل أمامه، إلا واحدة من الضربات المتوالية التي خطط لها المستعمرون، الذين أصبحت خريطة المغرب المبتور من صحرائه أمامهم كطاولة الشطرنج، وليس في الوصف أي مبالغة.. فلا بد للوصول إلى نتيجة “الشيخ مات” التي يعبر عنها في لعبة الشطرنج بكلمة “ايشيك إيمات”، مراحل عدة يستحضر فيها اللاعب كل عناصر التفكير والدهاء وتقلبات الظروف..
لقد نفذ المال، وما تبقى منه هرب به وزير الحرب إلى لندن في نهاية دجنبر 1903، وأصبح المولى عبد العزيز كالطير المقصوص الجناح، سارع إلى طلب مقابلته السفير الفرنسي هاشا باشا، حاملا الحل لكل المشاكل.
وقدم السفير للسلطان – “البحاير على ظهور الجمال” كما يقول المثل – قرض اثنين وستين مليون فرنك بفائدة بسيطة هي خمسة في المائة.. لا شيء، والبركة في الفرنسيس، وعندما عرض على السلطان إمضاء اتفاقية القرض، تقدم المقرضون للتعريف بأنفسهم، إنهم ليسوا الحكومة الفرنسية، ولكن مجموعة من الأبناك ممثلة في بنك باريس والأراضي المنخفضة، (لابانك دوباري إي دي بايي با)، جاؤوا بقرضهم للمغرب – الله يجازيهم – ولن يضطر السلطان لرد القرض، بل إنهم سيستردون قرضهم بطريقة بسيطة لا تجعل الدولة المغربية تشعر إطلاقا بفقدانها للأموال التي ستردها، فالاتفاق ينص على أن تتولى مجموعة الأبناك المقرضة استرجاع الأموال بنفسها عن طريق مندوبيهم، الذين سيفتحون مكاتب في موانئ المغرب لمراقبة المداخيل، وعند العشية يأخذ أصحاب البنك 60 في المائة من المداخيل ويأخذ ممثل المخزن 40 في المائة.
وأصحاب القرض يعرفون أن المخزن سيقبل كل شروطهم حتى ولو كانت بفائدة خمسين في المائة، وتم الاتفاق والإمضاء يوم 12 يونيو 1904، ودخل “بنك باريس والأراضي المنخفضة” إلى المغرب، ولم يكن هذا إلا الاستعمار الاقتصادي الفرنسي متحجبا بلثام شفاف جذاب تحت عيون ساحرة جذابة غمازة اسمه “بنك باريس والأراضي المنخفضة”، وهو دخول كلف هذا البنك 62 مليون فرنك استردها ولا زال يستردها، خصوصا إذا عرفنا أن هذا البنك كان هو الأنبوبة التي امتصت دم المغرب منذ سنة 1904 ولا زالت تمتصه حتى سنة 1980.. رغم المغربة ورغم الاستقلال، إذ أن هذا البنك لا زال بصيغة أو بأخرى شريكا في كل المشاريع المؤممة مالكا لكل الممتلكات التي لا تستطيع أي قوة تجارية وطنية شراءها، فهمنا قيمة الفائدة التي حصل عليها هذا البنك والتي قيل في الاتفاق أنها خمسة في المائة.
لنلق نظرة على نشاط هذا البنك في المغرب بعد ربع قرن من الاستقلال، وبالتالي لنقرأ ما نشرته مجلة “جون أفريك” في عددها 1001 الصادر بتاريخ 12 مارس 1980، أي خمسة وسبعين عاما بعد وصول “بنك باريس والأراضي المنخفضة” للمغرب واستثماره لـ 62 مليون فرنك. يقول المقال: ((لقد تنازلت البنك القوية، “بنك باريس والأراضي المنخفضة” المساهمة التي كانت لها في الشركة الحكومية المغربية الكبرى “أومنيوم نور أفريكان” لفائدة السيد دافيد عمار(…)، ولقد تمت الصفقة في الأسبوع المنصرم، فلماذا – تقول “جون أفريك” – تخلت هذه البنك عن مساهمتها في شركة “أومنيوم” التي كانت تسهم فيها بواسطة مصالح البنك الباريسي في شركة “سكوا”، هذه الشركة المغربية التي تملك فيها “بنك باريس” 29 في المائة من الأسهم و”سكوا” تمثل 19 في المائة من مصالح “بنك باريس” في المغرب، وهذه التسعة عشر في المائة تمثل قيمة 25 مليون فرنك فرنسي قديم(…)، فهل هو تخاذل من طرف “بنك باريس” – تتساءل “جون أفريك” – أو ماذا؟ إن البنك الباريسية تؤكد العكس، ولكنها لا تريد أن تحتفظ في مصالحها بمساهمات لا تكون لها فيها الأغلبية(…).
وتضيف المجلة: إلا أن بنك باريس تحافظ على مساهمتها في عدة مجالات بالمغرب، بواسطة أحد فروعها، “الشركة المغربية للإيداع والقرض”، وليس فقط هنا، وإنما في مجالات أخرى عمرانية وسياحية، مثلا في نوادي حوض البحر الأبيض المتوسط وشركة “سيم”، الشركة العمرانية للبحار، وشركة “ساط” الشركة الإفريقية للسياحة، وهي مجالات تقول بنك باريس أنها ستعمل على بلورتها وتكبيرها، بالإضافة إلى مشاركتها في التجهيز بالقرض “ماروك ليزينغ”، وفي صناعة السكر والفوسفاط.. كل هذه الشركات تعوض بنك باريس بالدرجة الكبرى عن تنازلها عن مشاركتها في “أومنيوم”.
وتؤكد بنك باريس – تقول “جون أفريك” – أنها منذ تنازلت عن “أومنيوم”، فإنها جازفت بمساهمات في المغرب ارتفعت من 15 إلى 25 مليون دولار نتيجة تصاعد عملياتها في المجالات الأخرى، بينما تخطط بنك باريس لأن تؤسس بالمغرب بنكا للمعاملات، وهي كلها بوادر تؤكد ثقتها في المغرب.
وتضيف المجلة: ويتساءل المغاربة عن كيفية أخذ بنك باريس للقيمة المالية الناتجة عن بيعها لأسهمها في شركة “أومنيوم”. إن القانون المغربي يحكم على البائع الأجنبي في هذه الحالات بأن يحتفظ بأمواله في صندوق مغربي للاستثمار، بينما الجلي هو أن بنك باريس لا يمكن أن تقبل تجميد أموالها على هذه الطريقة وإلا لما كانت لتبيع مصالحها، بينما الحل الوحيد هو أن تحصل من مكتب الصرف على ترخيص خاص)) انتهى كلام مجلة “جون أفريك” الصادرة سنة 1980.
لعل هذا المقال الذي انتقل بنا من سنة 1904 إلى سنة 1980 يغني عن كل تعليق، ويجعلنا نعود سريعا إلى اتفاقية 12 يونيو 1904، التي أقرضت بها “بنك باريس” 62 مليون فرنك للمولى عبد العزيز، واستقر مندوبها بمقتضى هذا الاتفاق في موانئ المغرب لاسترجاع ما أقرضوه من مداخيل الجمارك، ولا شك أن المقام طال بهم فبنوا مئات العمارات وأسسوا مئات الشركات، ولم تكف خمسة وعشرون عاما من الاستقلال – كما يظهر من خلال المقال – لأن تمكنهم من جمع أمتعتهم بعد، بل إن فائدة خمسة في المائة أصبحت فائدة بدون تحديد..
ولكن تسلسل الأحداث كما ظهر فيما بعد تقديم هذا القرض، لم يكشف عن أي حل للأزمة المغربية، بل إن الاستنتاج الوحيد كان هو دخول “بنك باريس” لتعمل على إخراج السلطان، إذ أنه بكل تجرد وواقعية، لا مكان لسيادتين في البلاد: سيادة السلطان وسيادة الجهاز الاقتصادي الأجنبي.
ألم نر كيف أن فرنسا في “مؤتمر الجزيرة” وضعت على المائدة لائحة الديون الأجنبية على المغرب وكانت قيمتها 72 مليون فرنك، كان على رأس قائمتها طبعا دين “بنك باريس” الذي يمثل 62 مليون فرنك، وبذلك، أصبح جليا أن القرض الفرنسي للمغرب سنة 1904 كان هو الوثاق الذي أحيط بمعصمي المولى عبد العزيز بعد أن تم تجريده من كل صلة بالخارج، بإبعاد مستشاريه الإنجليز، وعندما تم للمخططين الفرنسيين الوصول إلى هذه الغاية، لم يبق لديهم مانع من أن يقفوا متفرجين على الطريقة التي سيتصرف بها الرجل.
ولم يكن الفرنسيون ينظرون بالكثير من الجدية إلى دعوة المولى عبد الحفيظ إلى الجهاد، فإن المخطط الخاص بهذا الأخير كان جاهزا قيد التنفيذ، ولكنهم كانوا ينتظرون فقط مقررات “مؤتمر الجزيرة” التي سيصادق عليها المولى عبد العزيز مثلما صادق على قرض “بنك باريس”، ولن يتمكن لا في الحالة التي كان عليها ولا فيما بعد من رفع أصوات الاحتجاج أو المعارضة للغزو العسكري الذي كان كل شيء جاهزا للشروع فيه.
وفي انتظار ذلك، جلس الفرنسيون ينتظرون نتائج الحرب بين الأخوين.