المنبر الحر | التباعد المتزايد بين الشغيلة والنقابات.. أصل المشكلة
بقلم: بنعيسى يوسفي
لا أحد من الشغيلة التعليمية، أو حتى من الشغيلة عامة في جميع القطاعات الحيوية الأخرى، تسُرّه الوضعية التي وصلت إليها العلاقة بينها وبين هذه النقابات بشتى تلاوينها، المفروض أنها تمثله وتتكلم بلسانه، والأسباب حقيقة كثيرة ومتعددة، أهمها: أولا: عدم الاستقلالية، فجل النقابات التي تمثل الشغيلة عامة، علاوة على أنها تقتات من المال العام الذي تقدمه إليهم الدولة على طبق من ذهب، ولا أحد يحاسبهم على كيفية صرف كل تلك الأموال، فهي أيضا تابعة لأحزاب سياسية معينة، وفي المغرب وحده تسمع النقابة الفولانية هي درع الحزب الفولاني، ولست أدري ما هي الضرورة والدافع إلى ذلك؟ ولماذا يبدو ضروريا أن يكون لكل حزب نقابة؟ وحتى إن لم تكن بعضها تابعة لها بشكل مباشر، فهي الأخرى تتعايش فيها تيارات سياسية من مختلف المشارب، وهذا الترابط العضوي بين الحزب والنقابة يجعل هذه الأخيرة في أحيان كثيرة تتماهى مع توجهات الحزب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خاصة إذا كان الحزب مشاركا في الحكومة، وهنا يصعب، بل يستحيل على هذه النقابة أن تتخذ موقفا يتعارض مع أجندة الحزب الوصي عليها، وإذا خالفت التوجه، أو لنقل حتى التعليمات، تتعرض لوابل من التقريع أو التوبيخ من الحزب أو النافذين فيه، وهي فرصة يجدها هذا الحزب، وباقي مكونات الحكومة التي قد يكون يترأسها، فرصة لا يجب تضييعها لتنزيل العديد من القرارات والمقتضيات التي قد تكون غير اجتماعية، والأمثلة كثيرة من هذا القبيل يضيق الحيز لسردها، وهذه في الحقيقة أكبر معضلة يعيشها العمل النقابي في المغرب، وهي ازدواجية السياسي والنقابي في معادلة غير سليمة البتة.. فكيف يمكن للنقابي أن يمارس فعله النقابي بكل مسؤولية وحرية وما يقتضيه ذلك من معارضة وندية وهو تحت وصاية السياسي في الوقت الذي يجب أن يسود العكس؟ وفي هذه الحالة، ترى العديد من النقابات تتغاضى عن جملة من الممارسات والقرارات التي تمررها الحكومة، وإن كانت تستدعي المواجهة والتصدي لها، فهذه النقابات تلتزم الصمت بطريقة مريبة تبعث على الشك، وحتى إذا تشجعت، تبدي مواقف وردود خجولة لا يمكن أن تغير من الواقع شيئا، وليس هذا فحسب، بل قد تجد أمين حزب معين، ويترأس الحكومة، يخرج في احتفالات عيد العمال، فاتح ماي مع النقابة التابعة لحزبه، ويعتلي المنصة ويلقي خطابه في مشهد من الصعب فهمه، وتتعالى الهتافات والتصفيقات تأييدا للزعيم وتضامنا معه، فبماذا يمكن أن نفسر مثل هذه السلوكيات؟
إنها بكل بساطة ضرب لمصداقية العمل النقابي النبيل في مقتل، والنتيجة نفور الشغيلة منها وتراجع منسوب الثقة فيها، ثانيا: غياب الديمقراطية الداخلية في انتخاب الأمناء العامين والأجهزة النقابية، وخلود بعض الزعماء في مناصبهم رغم أنهم وصلوا سن التقاعد، ليبقى التداول على المسؤولية النقابية مقتصرا على فئة بعينها بطرق ملتوية بعيدة كل البعد عن الأساليب الديمقراطية الحقيقية المتعارف عليها، بينما توصد أبواب تسلق مناصب القيادة في وجه الآخرين، وثالثا: عدم جدية ونجاعة وفعالية تعاطي هذه النقابات، سواء المركزيات منها أو القطاعية، مع متطلبات الشغيلة، وعدم الدفاع عنها بالشكل المطلوب، وتبدو مهادنة وغير شرسة في ذلك كما يجب أن يكون العمل النقابي الجاد والمسؤول، وقد اتضح ذلك جليا مؤخرا في الطريقة التي سلكتها النقابات التعليمية في إخراج النظام الأساسي لقطاع التعليم، الذي لولا فطنة وحس البديهة التي تفتقت عند الشغيلة ولو بشكل متأخر، مما نتج عنها تجميد العمل به على الأقل حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود، لولا ذلك لما كانت الكارثة اليوم جاثمة على صدر الشغيلة، والعواقب جد وخيمة، ناهيك عن تلك “المسرحية” التي شاركت فيها بعض المركزيات باقتدار في تمرير قانون التقاعد وتمديده، وقس على ذلك من المهازل التي سقطت فيها هذه النقابات فور كل حوار اجتماعي أو قطاعي.
كل هذه الأسباب وغيرها، وبعدما انفضحت الأمور وصار الرهان على هذه النقابات كمن يراهن على حصان خاسر، كان الحل هو تكوين تنسيقيات للمطالبة بالحقوق والإنصاف، ولولا بعض العوائق القانونية لصارت هي المفاوضة مع الحكومة وغيرها، ولصارت معه هذه الهيئات النقابية في خبر كان، لأنها هي التي تقود اليوم المعركة في الميدان، وكل ما قد يتحقق اليوم لصالح الشغيلة يجب أن ينسب إلى هذه التنسيقيات رغم أنها لم تكن طرفا في الحوار، لكن دورها في الضغط على المسؤولين واضح للعيان، وبالتالي، فهي تستحق من الجميع الشكر والتقدير.
إن كل ما حدث مؤخرا من احتجاجات وإضرابات متتالية للشغيلة التعليمية، كشف بالملموس أن النقابات التي كانت هي المعوَّل عليها لانتزاع الحقوق المشروعة لهذه الشغيلة ومن بينها إسقاط النظام الأساسي، لم تتوفق في الامتحان ورسبت رسوبا فظيعا في ذلك، وعليه لا تنتظر هذه النقابات مستقبلا أن الشغيلة ستصوت عليها أو ستنحاز إليها، فالتباعد بناء على الأحداث الأخيرة بينهما قد ازداد والفجوة آخذة في الاتساع.