رأي | لماذا تصلح منظمة الأمم المتحدة في ظل استمرار العدوان على فلسطين ؟

“تبدو الأمم المتحدة في حالة إجهاد تام وتواجه أزمة متعددة الأبعاد تهددها بالانهيار”.. بهذه الكلمات وصف صاحب كتاب “الأمم المتحدة في نصف قرن”، حال المنظمة الأممية وهو يحاول تشخيص الوضع الذي آلت إليه، ليخلص إلى إفلاسها الوظيفي والمؤسساتي، الأمر الذي دفعه إلى التشديد على ضرورة إخضاعها لإصلاح جذري.

باحث في القانون العام والعلوم السياسية
إذا كان هناك من حقيقة يجب استخلاصها بخصوص راهن ومستقبل الوضع الدولي المتأزم، والذي يتصدر مشهده حاليا العدوان الإسرائيلي على فلسطين، فهي أن فشل منظمة الأمم المتحدة في إيقاف هذا الظلم المستمر على قطاع غزة، هو بمثابة إعلان وفاة صريح لهذه المنظمة.. فهل يستقيم عقلا ونقلا وعرفا، أن تُعرقل الدول النافذة والمتحكمة في القرار الأممي اعتماد قرار لوقف هذا العدوان؟ وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد عارضت مشروع القرار الذي تقدمت به روسيا حول الموضوع، مستخدمة حق النقض بعلة عدم تنديد المشروع بحماس، وعدم اعترافه بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فإن هذا الموقف الذي ركن إليه المنتظم الدولي لهو خير دليل على أفول التجسيد الإنساني لمفهوم الدولة لدى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.
ترتيبا على ما سبق، تتضح الأزمة المؤسساتية والوظيفية التي تعيشها منظمة الأمم المتحدة، ويتأكد بما لا يدع مجالا للشك، أن هذه المنظمة كانت ولا تزال أسيرة الأنانية التي تمارسها الدول المتحكمة في القرار الدولي، إذ يتم تسخير هذه المؤسسة لخدمة مصالح الدول الخمس الدائمة العضوية وأجندتها الخارجية، بعيدا عن مصلحة باقي الشعوب، في تعارض صارخ مع مقتضيات البند الأول من المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، والذي ينص على أن: ((مقاصد الأمم المتحدة هي حفظ السلم والأمن الدولي، وتحقيقا لهذه الغاية، تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرع بالوسائل السلمية، وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحل المنازعات الدولية التي قد تؤدي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها…)).
وأمام عجز المنتظم الدولي عن إصدار قرارات واضحة تفرض التهدئة، ووقف إنساني لإطلاق النار بشكل فوري ودائم، وتُجرم كل أعمال العنف والاعتداءات الموجهة ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك العنف الإعلامي، وتؤمن توفير وتوزيع المساعدات الإنسانية بدون عوائق، فإن السؤال الذي يتعين أن يطرح الآن هو: كيف لدول تدعي رعاية الأمن والسلام وحقوق الإنسان في هذا العالم، أن تتمسك بأهدافها السياسية الضيقة وتُعارض في سبيل ذلك فرض الهدنة، ووقف إطلاق النار، وإنهاء العنف في قطاع غزة، وتقديم المساعدات الإنسانية للسكان؟ وما الجدوى من وجود منظمة الأمم المتحدة كجهاز دولي مسؤول عن حماية الأمن والسلم الدوليين إذا كانت لا تستطيع فرض العدالة والمساواة بين كافة دول المعمور؟
للجواب عن هذه التساؤلات، يمكن القول أن إخفاق منظمة الأمم المتحدة في حفظ السلم والأمن الدوليين، وانتهاء صلاحيتها، وعدم جدوى استمرارها في الحياة الدولية، أصبح حقيقة لا يمكن إنكارها، مما يطرح الحاجة إلى إنشاء تنظيم دولي جديد أكثر فعالية، له من الآليات والشروط ما يمكنه من حفظ العلاقات الودية بين الشعوب على أساس احترام المساواة في الحقوق، وتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية.
ويمكن حصر أبرز المداخل الممكنة لتدارك وإصلاح مواطن الضعف التي تعتري منظمة الأمم المتحدة في ثوبها الحالي، على النحو الآتي:
1) الحاجة إلى إصلاح هيكلي لمنظمة الأمم المتحدة:
لقد أصبح التشكيل الراهن لمجلس الأمن لا يتلاءم مع التحولات التي عرفتها موازين القوى في عصرنا الحالي، فلا يعقل أن تكون مقاعد المجلس محددة في خمسة عشر مقعدا، في حين يبلغ عدد الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة ما يقارب 193 دولة، فهذا المعطى يعد مؤشرا واضحا لا غبار عليه عن عدم التوازن الذي يطبع مجلس الأمن، حيث تتحكم الدول الكبرى في القرار الأممي وتوجهه وفق ما يتفق مع مصالحها، مستخدمة “حق” (امتياز) النقض، لذلك، فقد آن الأوان للتخلص من التشكيلة الحالية للمجلس، واعتماد تركيبة أكثر عدالة ومساواة قادرة على حفظ حقوق كل الدول.
ويمكن في هذا الصدد زيادة عدد الأعضاء الدائمين عبر إنصاف باقي دول العالم، وفي مقدمتها الدول الإفريقية بمنحها مقعدين دائمين قصد بلوغ تمثيل عادل، مع تمكينها من جميع الصلاحيات، والاختصاصات القانونية المقررة للدول الخمس الحالية الدائمة العضوية، حتى يكون المجلس أكثر تمثيلا وشفافية، وخاليا من الانفرادية التي تنتهجها الدول الكبرى في اتخاذ القرارات، أو ما يسميه المفكر نعوم تشومسكي “مآزق الهيمنة”، هذا مع ضرورة التضييق والتخفيف من استعمال “حق الفيتو”، وذلك بتقييده ووضع شروط موضوعية وإجرائية صارمة قادرة على تقنين استعماله بشكل عقلاني حماية للسلم والأمن الدوليين.
كما تجدر الإشارة هنا إلى أن بعض الأجهزة التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة، قد أصبحت متجاوزة، مما يدعو إلى إلغائها، نظرا لانتهاء الأدوار التي كانت منوطة بها، ولكونها أصبحت خارج السياق الدولي، ونذكر من ذلك “مجلس الوصاية”، الذي انتهت الغاية التي أنشئ من أجلها، لعدم وجود أراضي خاضعة لنظام الوصاية حاليا، أما على مستوى “الجمعية العامة”، فيتعين تمكينها من آليات مؤسساتية، وضمانات قانونية تُمكنها من النهوض بالأدوار الهامة المنوطة بها، لاسيما حفظ الأمن والسلم على مستوى العالم، والرقابة على مجلس الأمن الدولي.
2) الحاجة إلى تعديل ميثاق الأمم المتحدة:
لقد مضى على صياغة مقتضيات ميثاق الأمم المتحدة زمن طويل، ظهرت خلاله مجموعة من الاختلالات التي تعترض بلوغ غاياته، ورغم ذلك لم يتم إخضاع نصه لأي تعديلات جوهرية من أجل مواكبة هذه التطورات المتسارعة التي تعيشها العلاقات الدولية، الأمر الذي يعقد عمل منظمة الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها، لذلك، فإن إعادة صياغة ميثاق الأمم المتحدة أصبحت مسألة ملحة وضرورية لإزالة التعارض، وعدم الاتساق البين في أحكامه حسبما أكدته الممارسة، ونذهب في هذا الصدد إلى ما ذهب إليه البعض، حينما اعتبر بأنه من أجل ضمان سلطة القانون يجب أن تكون شرعيته غير متنازع بشأنها، وأن يكون قادرا على منع وحل النزاعات التي تنشأ في داخل المجال الذي يحكمه.
وعليه، نعتقد أن الوقت قد حان للتخلي عن الكثير من مقتضيات الميثاق التي أصبحت متجاوزة، وسن أخرى تضمن المساواة والتوازن في صلاحيات وعضوية مجلس الأمن الدولي حتى يستجيب لمتطلبات النظام الدولي الجديد الذي أصبحت ملامحه تتشكل في الأفق، خصوصا وأن الفصل الثامن عشر من ذات الميثاق ينص في المادتين رقم 108 و109 على مقتضى التعديل الدوري، دون أن ننسى ضرورة إحاطة مجموعة من المبادئ التي ينص عليها الميثاق بالوضوح التام والتأطير القانوني المسؤول حتى لا تستخدم في غير محلها، كحالة العدوان الإسرائيلي الحالي على دولة فلسطين، ونذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، ومبدأ الدفاع الشرعي عن النفس.
كانت هذه إذن، بعض الملاحظات رصدناها على عجل حول الإفلاس الوظيفي لمنظمة الأمم المتحدة، وكيف أن هذه الهيئة لا تملك القدرة على النهوض بالوظائف والأدوار الجوهرية المنوطة بها، في ظل ما يشهده النظام العالمي من تقلبات هيكلية في موازين القوى، مما جعل العالم رهينة لمنطق القوة، والمصالح الضيقة لبعض الدول التي تبيح لنفسها الدوس على حرمة الشعوب، وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني، في تحدّ صارخ للمنتظم الدولي الذي يبقى للأسف عاجزا عن التصدي لهذا الظلم.