المنبر الحر | استقالة السياسيين من الأحزاب.. القرار الصعب

بقلم: بنعيسى يوسفي
لعل أكبر ضربة موجعة أو قاصمة لأي حزب معين، هي حينما يبدأ فيه نزيف الاستقالات ويأبى التوقف، وتزداد الأمور سوء حينما يتعلق الأمر بقياديين بارزين أو بأعضاء نشيطين ومهمين، وعلى أكتافهم ينهض الحزب ويضمن استمراره، وفي الواقع، يبدو في الممارسة السياسية أن أصعب قرار يمكن أن يتخذه مناضل في حزب معين هو “قرار الاستقالة”، وهو الذي يكون قد تقاسم معه الإيجابي والسلبي، وتدرج في أجهزته، واكتسب معه تجربة سياسية قد يتمناها أي أحد تستهويه السياسة، والعمل الحزبي على وجه التحديد، وقد يفضي به المسار في النهاية إلى الظفر بحقيبة وزارية أو بمنصب سياسي أو إداري متميز، وما يصاحب ذلك من تشريف وتكليف في آن واحد، وما يترتب عنه من الحظوة والترقي في السلم الاجتماعي وما إلى ذلك، وبين عشية وضحاها، تجده يضع استقالته على طاولة أمين عام الحزب الذي ينتمي إليه، والتي قد تكون ممهورة بجملة من المبررات الذاتية والموضوعية التي تجعله يقدم على هكذا تصرف، أو تكون جافة غير مفصحة عن السبب أو الداعي، فما الذي يدفع الفرد المتحزب أو قيادي سياسي يكون قد قضى ردحا من عمره بين دواليب حزبه، وخَبِر دهاليزه، وأسس لنفسه فيه مكانة معينة، إلى التخلص منه وبشكل يبدو وكأنه عادي وطبيعي ولا يحتاج إلى كثير لغط ؟
الدواعي والأسباب التي قد تدفع الفرد إلى تقديم استقالته من حزب معين، كثيرة ومتعددة يصعب حصرها في هذا الحيز الضيق، فهناك في المقام الأول من يتعبه العمل الحزبي، والمناضلون في الأحزاب الديمقراطية الحقيقية يعرفون تمام المعرفة المجهودات المضنية التي يبذلونها في سبيل تسيير دواليب الحزب والحفاظ على سيره العادي، أما إذا كان الأمر مرتبطا باستحقاق انتخابي، فتلكم قصة أخرى، وبالتالي، هنالك من يأخذ منه الحزب الذي ينتمي إليه كل الوقت ولم يعد ينذر لنفسه ولذويه إلا النزر القليل منه، ومن هنا يبدأ التفكير في المغادرة في صمت، ثم هناك من يستقيل لأنه لم يعد يجد نفسه في الحزب الذي ينتمي إليه بسبب خروج هذا الحزب عن المنهجية التي قد يكون يُدبر بها مثلا، أو سيطرة الأسرة والعائلة والعشيرة في مفاصل الحزب، أو أن الحزب لم يعد ينسجم مع طموحاته وقناعاته، ويصبح صوته نشازا في الحزب، أو يكون كثير الانتقاد لحزبه ويصبح بذلك عنصرا مجادلا لا يمكن إقناعه بسهولة، ويمسي في نظر رفاقه أو زملائه ذلك الصوت غير المرغوب فيه، وحينما يشعر بأن الحزب يريد لفظه خارج أسواره، يستبق الحدث، ويقرر ترك الجمل بما حمل ويغادر بهدوء، وهناك من يستقيل من حزبه لأنه لم يعد يحتمل بيروقراطية أمينه أو كاتبه العام في تسيير شؤون الحزب وتغييب ممنهج للمقاربة التشاركية فيه، مما يعني أن القرارات تتخذ بشكل انفرادي في تكريس صارخ لهيمنة الصوت الواحد والقائد الواحد أو الزعيم الواحد، وهناك من يستقيل من حزبه لأنه تمّ وعده بأنه سيتقلد منصبا حكوميا أو وزاريا لكن سرعان ما نكث الحزب العهد فانقلب المناضل المسكين خاسئا وهو حسير، فيقرر مبارحة الحزب إلى غير رجعة وهكذا دواليك..
يتضح إذن، أن إقدام أي مسؤول على تقديم استقالته من حزبه هو في غالب الأحيان رد فعل على سلوكات كان يلحظها تمارس داخل حزبه قد تكون متناقضة مع المبادئ التي يقوم عليها الحزب، أو خروجه عن السياق العام وعن هويته التي تميزه عن باقي الأحزاب، أو نتيجة انهياره عقب استحقاق معين، ولعل أكبر دليل على ذلك، الزلزال الذي عرفه حزب العدالة والتنمية بعد الانتخابات الأخيرة، والذي قذف به إلى الرتبة الأخيرة من حيث عدد الأصوات بعدما تسيد الانتخابات لولايتين متتاليتين، مما دفع العديد من قواعد ومسؤولي الحزب إلى تقديم استقالاتهم والابتعاد عن الحزب وإن كانوا جميعا يتقاسمون الأسباب التي أدت به إلى الهاوية، وإن كان من الأجدر أن يدفعوا استقالاتهم حينما كانوا يدبرون الشأن العام، حينذاك سنكون أول المصفقين لهم، لأننا سنكون أمام سلوك ديمقراطي وحضاري يمكن أن يتمأسس مع مرور الوقت ويصبح عاديا، فأي مسؤول لم يحالفه الحظ في ممارسة المهمة المنوطة به وأخفق فيها، فأحسن حل لإنقاذ ماء وجهه هو الاستقالة، أما والمسؤول متشبث بمنصبه والفشل يحاصره من كل جانب، والانتقادات تطوقه أينما حل وارتحل، ويتمادى في تعنته حتى تنتهي ولايته، دون تقديم أي إضافة في القطاع الذي يدبره، ويأبى أن يستقيل، فتلك قمة العبث، والاستهتار بالوطن أولا وبمصلحة المواطن ثانيا، وللأسف هذا هو الحاصل في جل الدول المتخلفة، وما يدعو إلى الاستغراب في بعض الأحيان، هو حينما يقدم بعض المسؤولين في بعض الأحزاب استقالاتهم بسبب كلام صادر عن أمينهم العام حول موضوع ما أو قضية ما أو حتى حول كارثه ما، مثلما حدث مؤخرا مع أمين عام “البيجيدي”، حينما قال أن “الزلزال الذي ضرب المغرب مؤخرا هو عقاب من الله”، فما كان من قيادي بارز في الحزب (عبد القادر اعمارة) أن قدم استقالته احتجاجا على هذا الكلام الصادر من أمينه العام، معتبرا أن كلام بن كيران تغريد خارج السرب، وليس وقته، وكان من الأجدر أن يبتعد عن مثل هذه الخطابات، خاصة في الوقت الراهن والحزب يعيش مشاكل بالجملة، وبالكاد يكافح لاسترجاع ثقة المواطن فيه، وإن كنت أتفق مع هذا القيادي في معارضته لكلام أمينه العام الغير محسوب، لكن أن يؤدي به ذلك إلى الاستقالة فالمسألة فيها نظر، ربما كانت هناك مناسبات عديدة يمكن أن يقدم هذا القيادي استقالته فيها، ويكون بذلك بطلا حقيقيا، خاصة حينما تولى منصبين وزاريين في حكومتين متتاليتين يقودهما حزبه، لكنه لم يفعل.
إن “الاستقالة” من الأحزاب أو من أي هيئة سياسية، تعتبر في الواقع سلوكا سياسيا وحضاريا، وتكون ذات قيمة وشأن حينما تصدر عن قناعة فردية وليس تحت الضغوط، وتكون أيضا ذات قيمة حينما تكون جوابا على فشل تجربة معينة وفتح المجال لتجربة جديدة، فالاستقالة هي إنذار على أن هناك شيئا ما ليس على ما يرام، مما يعني التدخل بسرعة لتصحيح الوضع وتطويق المشكل.