الحقيقة الضائعة | رسالة المقاومة المغربية إلى المقاومة الفلسطينية
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 52"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال بعد الإعلان

كان هذا الهيكل الرباعي الأركان هو الاستنتاج الحتمي للمخاض القصير الذي حصل بين موت الحسن الأول وبداية السلطان عبد العزيز لممارسة مهامه الرسمية، وهو هيكل كان تواجده مصيريا بالنسبة للقضية المغربية خلال السنوات الأولى من القرن الحالي.. تلك السنوات التي كانت حدا فاصلا بين عهد من المجد الأصيل للمغرب العظيم، وعهد من الانحطاط والانهيار والتردي.
مجد الحضارة العربية والرسالة المحمدية في هذا الجزء من الكيان الإسلامي العربي، الذي كان منطلقا للغزو الإسلامي لأوروبا وإقامة الدولة الإسلامية في الأندلس وجنوب فرنسا لمدة تزيد عن السبعة قرون.
وعهد الانحطاط الذي أراد منه الروم النصارى رد الصاع لهذا الغزو الإسلامي، واحتلال القلعة التي كانت منطلقا لاحتلالهم، وذلك بعد أن احتلوا أغلب مناطق العالم الإسلامي والعربي، لم يبق إلا المغرب، فكانوا منطقيين مع أنفسهم وهم يمارسون عملية التفكيك والتمييع التي توسعنا في شرحها.
وفي نفس الوقت، فإن الشعب المغربي وهو يفرض الإمساك بدقة الأمور، لا يجعل ولاءه للسلطان موضع مراجعة ولا تنكر، ولعل القوات الوطنية كانت تعتبر ضعف السلطان من باب البديهيات التي لن تكون ذات دور أساسي في مواجهة الموقف، ولعل ذلك الضعف في نظرهم لا يعدو أن يكون مجرد كبوة.
وللحقيقة والتاريخ، فإن السلطان عبد العزيز كان ككل الشبان مشدودا إلى تسلسل الأحداث، تائها بين ارتفاعها وانخفاضها، متطرفا في بعض الأحيان إلى أقصى حدود التطرف، وطنيا في بعض الظروف إلى مدى المثالي للوطنية، ومتنازلا في ظروف أخرى إلى التواني والاستهانة، وهو في بداية مهامه لم يكن مسؤولا عن مواقفه.. فقد كان تحت وصاية الوزير باحماد يضع طابعه على نصوص لا يمكن إطلاقا أن يتوفر على الكفاءة الكافية لاستيعابها، وعلى مدى سنوات تطوره ونموه، كانت إرادته تزداد تبلورا، وأفكاره تزداد نموا وتفتيحا، وهي ظروف كانت لها أثارها على شعب بكامله، ومصير أمة بأكملها، فلم يكن السلطان عبد العزيز إلا مظلوما عندما يطلب منه أن يكون في المستوى وفي كل الظروف، ولم يكن الشعب المغربي إلا على صواب حينما حمل السلاح وأعلن الجهاد.
فلم يكن الخصم هو المسؤول عن تسيير شؤون الأمة، وإنما كان هو العدو القابع على الحدود، وهي نظرة وإن كانت ثورية وتقدمية في ذلك الوقت، إلا أنها كانت إيجابية وواقعية أعطت ثمارها خلال سنوات قصيرة.
ولو قارننا بين القضية المغربية سنة 1900 والقضية الفلسطينية سنة 1980، وكلا القضيتين موضوع غزو أجنبي ضد القومية والعروبة والدين، لوجدنا من جهة، أن الشعب المغربي في المرحلة الأولى كان محقا في ترك مشاكله الداخلية جانبا والتوجه بكل جوارحه لضرب العدو الحقيقي، بينما نرى من جهة أخرى، القوات المحاربة للصهيونية العالمية في المنطقة العربية الآن تتجه بكل قواها لضرب العناصر المتساكنة معها، والتي تقاسمها، وستقاسمها المصير، تاركة اليد مطلوقة للعدو الصهيوني داخل الأرض المحتلة يتصرف حسب هواه، وهي خطة لم تعط لحد الآن النتائج المرجوة..
إنه مثلما بدأت المناورات الاستعمارية في المغرب قبل الحماية سنة 1912 بعشر سنوات وبدأت معها الحركة الثورية المغربية باسم الجهاد، فإن محاولات الغزو الصهيوني لفلسطين بدأت قبل التقسيم بحوالي عشر سنوات.
واتجه المغاربة لمحاربة العدو الأجنبي على مدى خمس وثلاثين عاما تاركين الجبهة الداخلية، فطردوا العدو أولا، وكان وقتها أقوى من إسرائيل، قبل أن يتفرغوا لمراجعة الموقف الداخلي، بينما اتجه الفلسطينيون منذ خمس وثلاثين عاما لمحاربة العناصر الداخلية وتركوا إسرائيل تزداد توسعا في أراضيهم وفي أراضي الدول التي تجاورهم، بينما آفاق الحل أبعد مما كانت عليه في بداية الاحتلال، ولست أقصد بهذه المقارنة إلا دعوة العرب جميعا إلى اتخاذ التاريخ المغربي كنموذج، والفلسفة الوطنية المغربية في وجه المناورات الاستعمارية كطريقة، أما العملاء الذين نتحدث عنهم اليوم، والانهزاميون والسماسرة وحلفاء الأجنبيين، فليسوا إلا مبتدئين، والعملاء الذين كانوا آنذاك يلعبون ورقة الاستعمار الفرنسي للمغرب، ومن من عملاء عصرنا الحاضر يمكنه أن يضاهي بوحمارة، الرجل الذي استطاع بمساعدة ضباط وخبراء فرنسيين وجزائريين وإسبان، أن يقض مضاجع ملكين مغربيين هما عبد العزيز وعبد الحفيظ، وأن يقسم معهما النفوذ في مناطق شاسعة، وما كان في الحقيقة إلا بمثابة غطاء أرضي للغزو الاستعماري الفرنسي والإسباني للمغرب، إننا نتحدث اليوم عن الغطاء الجوي لحماية التحركات البرية، وآنذاك كان الغطاء البري أسلم الطرق للسماح بالغزو.
إلا أن عظمة المقاومة المغربية للاستعمار الأجنبي في الصحراء الشرقية، والصحراء الغربية، وجبال الأطلس، وشواطئ الأطلسي منذ سنة 1900 إلى أن تم طرد الغازي الأجنبي، جعلت – بحكم قوتها وعظمتها – كل المحاولات الأجنبية سخيفة ماسخة، مما يجعل المؤلف المنطقي مع الأحداث، يضع الحديث عن المناورات الاستعمارية بواسطة العملاء في الداخل في الدرجة الأخيرة أمام عظمة وجلال الثورة المغربية ضد الاحتلال.. تلك الثورة البوثقة التي انصهرت فيها إرادة شعب نبيل أبي، استهان به بعض المسؤولين فتركهم للتاريخ بينما سار في طريقه الأزلية.. طريق الإصرار والجدية.
لذا لا أتمنى أن يؤاخذ علي القارئ تقديم أحداث عن أخرى في سردي لهذه الملحمة التاريخية، التي كانت ألويتها معقودة على فترات تتخللها وتحول دون تماسكها تحركات استعمارية ومناورات تصفوية، لا بد وأن أعود إلى الحديث عنها بعد إعطاء الثورة المغربية ضد الاستعمار ما تستحقه من سرد وتحليل.
ولعلني سأكون بذلك أول متحدث عن ثورة شعبية مغربية كبرى تبارى المؤلفون والخبراء السياسيون الأجانب في طمسها وإغراقها في خضم المناورات، فلا تجد الحديث عن السلطان عبد العزيز إلا مقرونا بالحديث عن الثائر بوحمارة وكأن الرأي العام الوطني المغربي كان منعدم الوجود، فإن لم يكن هذا الخروج عن الفخ الذي نصبه لنا الاستعمار – كلما تعلق الأمر بتاريخ وطننا – مفروضا بحكم أنه يمثل تحولا سياسيا لا يوافق كل الاتجاهات المصلحية والانتهازية، فإنه واجب وطني تجاه شهدائنا الذين لا يعدون ولا يحصون، والذين سقطوا في ميدان الشرف والاستشهاد من أجل وحدة التراب الوطني وصيانة التكامل الوطني من الهوكار إلى وادي السنغال، ومن الكولية إلى طنجة.
ولا بد للشمل أن يجتمع
هذه وجهة نظر التاريخ، وهذه حدود الوطن المغربي كما خلفها الأجداد للحسن الأول، وكما خلفها الحسن الأول سنة 1894 لمن يستخلفه ويوفي بعهده، وكل أمة بتاريخها، وكل مجد بأصالته، ولا لوم على من يذكر لأن الذكرى تنفع المؤمنين.
ولربما ستدور الأيام وتستقر المياه المتكدرة في زير المغرب العربي، وأتهم مرة أخرى بتكدير هذا الصفو، ولكن الحقيقة الأزلية مرتبطة الجذور بالتاريخ مشدودة إلى عروق الارتباط الدموي، وهي روابط أقوى من السلاسل وأمتن من الاتفاقيات، وكما يعود الطير إلى وكره، والولد إلى أبيه، فإنه لا بد أن يعود يوما ولو بعد أجيال ليجمع الشمل المشتت ويوحد الإخوة المتباعدين.
ومهما كانت التسمية التي سيتم تحت شعارها جمع الشمل، وحدة أو فيديراليه أو احتلال، أو مسح لأثار الحدود، فإن المهم هو أن الشمل لا بد أن يجتمع، ويعود الماء إلى مجراه.