المنبر الحر

المنبر الحر | معضلة التوجهات القضائية في القانون (2)

بقلم: محفوظ أبي يعلا

    قد يقول قائل إن التوجه القضائي هو اجتهاد قضائي، وأن القضاة بحكم الاستقلالية غير ملزمين بالخضوع لاجتهادات قضاة آخرين أو محكمة ما، غير أن هذا الرأي يمكن الرد عليه من خلال التمييز بين الاجتهاد القضائي والتوجه القضائي، فالاجتهاد من مصادر القانون، وهو في الغالب رأي يصدر عن محكمة عليا يصبح مرجعا لجميع المحاكم، في حين أن التوجه الذي نلاحظه هو أشبه ما يكون برأي أو قناعة قاض ما، أو عمل سارت عليه محكمة معينة، لا يعني أن قاضيا آخر سيعمل به.

والأكيد أن المشتغلين في المحاكم، وخاصة القضاة والمحامين، يدركون أن هناك الكثير من الارتباك في القوانين وفي الإجراءات المسطرية، وهو الأمر الذي يفسح المجال لإعمال التوجهات القضائية.

تتمة المقال تحت الإعلان

ونستطيع أن نضرب بعض الأمثلة لتوضيح مقصودنا أكثر: المثال الأول، هو موضوع الوكالة في التطليق، ففي الوقت الذي أخذت فيه بعض المحاكم بالوكالة في إيقاع التطليق، استنادا على الفقه المالكي الذي أحالت عليه مدونة الأسرة في المادة الأخيرة، فإن بعض المحاكم أو بعض القضاة يرفضون الوكالة، بمعنى أنه رغم أن المادة 400 من مدونة الأسرة، وهي قاعدة قانونية، فتحت المجال أمام الفقه المالكي، إلا أن عمل بعض المحاكم والقضاة وقف في وجه العمل بالوكالة التي يرى بها الفقهاء المالكيين، وهكذا أصبحنا أمام عمل قضائي في دائرة محكمة معينة، مختلف عن عمل قضائي في دائرة محكمة أخرى، وهذا ما يذكرنا بفقهائنا القدامى الذين اشتغلوا على الفقه، وألفوا فيه فتاوى تختلف من جهة إلى أخرى، فأصبح القول بعمل فقهاء فاس، أو بعمل فقهاء تطوان… إلخ، والمثال الآخر، هو في القول بجلستين للصلح في الطلاق الاتفاقي، ففي الوقت الذي يعمل بعض القضاة بجلسة واحدة يؤكدون فيها فشل الصلح وإحالة الملف على الجلسة العلنية لوضع المستنتجات عقب البحث، نجد بعض القضاة يرون أنه ينبغي أن تكون هناك جلستين لإصلاح ذات البين في حالة وجود أطفال، وذلك تطبيقا للمادة 82 من مدونة الأسرة.

أما المثال الذي يوضح الاجتهاد القضائي، فهو القول بعدم وجوب مستحقات الزوجة التي ترفع دعوى التطليق للشقاق، على الرغم من أن مدونة الأسرة، ودون الاجتهاد في التفسير والتأويل، توجب المستحقات باعتبارها من حقوق الزوجة، سواء كانت طالبة للتطليق أو كانت مطلوبة فيه.

والواقع، أن عدم استحقاق طالبة التطليق لبعض المستحقات أصبحت كل المحاكم تسير عليه بعد أن صدر عن محكمة النقض قرار في الأمر، فأصبح معظم القضاة يعللون رفضهم للمستحقات بالقرار عدد 433 الصادر بتاريخ 2010.09.21، والذي ينص على ما يمكن أن نعتبره قاعدة فقهية، وهي أن المطلقة لا تستحق المتعة، بل التعويض عند ثبوت مسؤولية الزوج عن الفراق.

تتمة المقال تحت الإعلان

وبهذا، ومن خلال الأمثلة السابقة، نكون قد سلطنا الضوء على التوجه القضائي وارتباطه بالقانون، بل واختلاطه بالاجتهاد وما يسببه ذلك من عدم وضوح القاعدة القانونية، وبناء عليه، فإن مراجعة مدونة الأسرة ستكون فرصة لتوضيح هذا الارتباك الحاصل في بعض القواعد القانونية المذكورة في الأمثلة سالفة الذكر، أي في العمل بالوكالة في التطليق، وكذا فرصة لوضع قاعدة قانونية واضحة تؤكد على عدم استحقاق طالبة التطليق للمتعة، فيصبح الاجتهاد القضائي قاعدة قانونية.

ختاما، نود أن نؤكد ملاحظتين:

– الأولى: إن طبيعة النظام القضائي المغربي المتأثر بالنظام القضائي اللاتيني، لا يفسح المجال أمام القضاة للتوسع في تفسير القانون، فدور القضاة محدود وواضح، وهو التطبيق السليم للقانون، لكن وجود ثغرات في النصوص القانونية يفسح المجال للتوسع، فيصبح التوجه القضائي ضرورة، وهنا نعود للمشكل الأساس، وهو غياب المقاربات التشاركية أثناء وضع القواعد القانونية، وعدم القدرة على الإلمام بجميع الإشكاليات، التي لا يدركها إلا الممارسون والمختصون في المجال القضائي.

تتمة المقال تحت الإعلان

– الثانية: إن التوجه القضائي قد يكون محمودا إذا كان الهدف منه التيسير على المتقاضين، وتحصيل الحقوق، وتجاوز الثغرات القانونية التي تعرقل المصالح وتتعب مرتفقي العدالة ومساعدي القضاء، غير أن هذه الثغرات أو التناقضات أو سكوت المشرع، لا ينبغي أن يكون أداة للتضييق وإرهاق مرتفقي العدالة من خلال التوجهات القضائية، فلا بأس من استحضار القول المأثور “يسروا ولا تعسروا” أثناء القول بتوجه ما، حتى لا نقع في معضلة اسمها التوجهات القضائية، التي لن يسعفنا هذا المقال لذكر أمثلتها الكثيرة، سواء في قوانين الموضوع، أو في قانوني المسطرة المدنية والجنائية، وغيرهما.

   

انتهى

تتمة المقال تحت الإعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى