الرأي | بين الشباب والمشيب (2)
الرجال عادة هم الذين يهربون من النساء المسنات أكثر من هرب النساء من الرجال المسنين، بل إن كثيرا من النساء تفضل الواحدة منهن عند الزواج الرجل الناضج الذي لاح الشيب في عارضيه على شاب في مقتبل العمر، ولم نسمع أو نرى شابا يفضل امرأة قاربت الأربعين وهو أقل من الثلاثين إلا إن كان طامعا في مرتبها الكبير أو مالها الكثير، أو تكون هي زوجته الثانية أو الثالثة، وفي عصرنا هذا، كثر زواج الطامعين في راتب الزوجة أو مالها الذي ورثته، وما أكثر الوارثات، فلم يبدأوا زواجهم بنية حسنة، ولم يكن هدفهم تكوين أسرة سعيدة والتعاون على توطيد الاستقرار والتنعم بالمودة والرحمة، فالشراكة الزوجية التي لا تبنى على النية الصالحة والإخلاص والأمانة، مآلها الشقاق والطلاق وتعريض النسل للخطر، وقد أكد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ذلك بالقول: ((أنا ثالث الشريكين فإذا خان أحدهما خرجت من بينهما))، والزواج بنية الاستيلاء على مرتب المرأة إذا كان ذلك هو الدافع الوحيد، وهو في هذا العصر – مع الأسف – موجود عند كثيرين، وبعضهم يقايض زوجته العواطف بقدر ما تدفع له، ولا يرق ويلين إلا قبل صرف الراتب بقليل كما نسمع في المحاكم من أفواه كثير من النساء، فالمرأة تفضل الرجل الغني طبعا، ليس طمعا في المال، بل بدافع أنوثتها، لأن قدرة الرجل على اكتساب المال تدل على أن له قدرات يمكن أن تؤمن بها مستقبلها ومستقبل أبنائها، وهذا من حقها، وهناك شابات يعشقن الشيب في الرجل ربما لأنه يذكر الواحدة منهن بأبيها أو برجل حكيم أثر في حياتها أو كاتب أو أستاذ أو شاعر معجبة به..
وكم من الطالبات عشقن في أزواجهن أساتذتهن كما شاهدنا في فيلم “العذراء والشعر الأبيض” للكاتب والروائي إحسان عبد القدوس، وهو من بطولة شريهان ومحمود عبد العزيز، وكذا سارة برنار، ملكة المسرح الشابة التي أحبت فيكتور هوجو واعترفت في مذكراتها بأنها لم تخنه طوال علاقتهما رغم فارق السن بينهما الذي تعدى نصف قرن، فالشيب وبياضه وخصلاته على محيا الرجل والمرأة له دلالاته ومعانيه الجمالية والنفسية، فالمتنبي أعطى أول معنى له لما قال في سيف الدولة:
وَمَا كُنتَ ممّن أدرَكَ المُلْكَ بالمُنى وَلَكِنْ بأيّامٍ أشَبْنَ النّوَاصِيَا
فإذا كان الأطباء يصفونه بأنه نقص في مادة الميلانين، فإن الأدباء والشعراء لا يرونه كذلك في الإحساس، فالقضية أكبر من لون وتفاعل في جسم الإنسان، وإنما ألفة وتأسف وآهات وحب وخيبة وسهر وكتابة وكآبة وابتسامة، وغير ذلك من التفاعلات التي تجيء بالشيب في وقت مبكر، وحتى إذا أتى فإن المتنبي يألفه ويستعصي عليه مفارقته حين قال:
خلقت الوفا لو رجعت إلى الصبى لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
لكنني لم أجد في الشعر المعاصر أسفا على الشيب أكثر من أسف كامل الشناوي، في قصيدته التي تغنى بها فريد الأطرش وقال أنها أقرب إلى وجدانه وحالته النفسية:
عُدت يا يوم مولدي عُدت يا أيها الشقي
الصبا ضاع من يدي وغزا الشيب مفرقي
وكذلك لم أجد حسرة على الشباب وعلى الحالة النفسية التي تدرك الشاعر من المشيب كما عبر به محمد المهدي الجواهري في قصيدة تكريم رفيقه وصديقه الشاعر الأخطل الصغير، بشارة الخوري:
هلاّ عطفت لي الصبا نشوان يرفل بالذنوب
نزق الشباب عبدته وبرئت من حلم المشيب
ترى من يقايض الستين والسبعين بالعشرين عن ثمن رهيب مهما كان الثمن غاليا؟
إنها الحسرة على الشباب والتذمر من المشيب، ولكن أي شباب يتحسر عليه مثل هؤلاء الشعراء والشباب غير قادر على أن يأتي ببيت واحد من هذه الأشعار، التي لو وزنت بالأعمار لكانت هي الشباب نفسه.
فقضية الشباب والمشيب تبقى في الفكر وليس في المظهر أو لون الشعر أو غير ذلك من المظاهر الخداعة، أم هو تخفيف على النفس لمن غزى الشيب مفرقه مثلي في العشرينات من عمره ولم يتذمر منه ؟