الحقيقة الضائعة

الحقيقة الضائعة | الجهاد المغربي كرد فعل وطني على الاحتلال

المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 51"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.

وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.

كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.

تتمة المقال بعد الإعلان
بقلم: مصطفى العلوي

    كان ذلك السرد للأحداث موجزا، وكانت الفحوص في الجسم المغربي خلال السنوات الأولى من القرن الحالي سطحية، وكان ذلك التحليل للمناورات الاستعمارية في المغرب بمناطقه الصحراوية والأطلسية والشاطئية، مختصرا.

ولقد كان من الطبيعي أن لا تدرك طموحات المستعمرين هذه الدرجة من التطاول لو لم تكن لهم ضمانات أكيدة من الجبهة الداخلية على أن “كل ما من شأنه” ليس إلا من قبيل الأوهام، لكن ستبدي الأيام والأحداث أن هذا التصور إنما كان من باب الكذب والتدجيل، والحقيقة للتاريخ، أن أي واحد من الأطراف المعنية لم يتنازل عن حبة خردل من واجباته.. لا الشعب المغربي، ولا الحكومة الفرنسية، ولا الحكومة الإسبانية، ولا أي طرف من الأطراف المعنية.. لقد كانت المباراة حامية بين اللاعبين والمتلاعبين، وأسفرت في الشوط الأول عن فوز اللاعبين، وهي نتيجة منطقية، لأن الدوائر تدور دوما على المتلاعبين، وكان اللاعبون هم المستعمرون، والمتلاعبون هم عملاؤهم من مغاربة ومتمغربين، والمتفرجون – إن صح الوصف – هم الشعب المغربي.

وكان الشوط الأول على مدى خمس وأربعين سنة، أما الشوط الثاني، فقد كان لفائدة المتفرجين، ولم يكن إطلاقا لفائدة المتلاعبين، ولن تستوعب المجلدات تفاصيل تلاعب المتلاعبين مثلما لن تستطيع سبر الغور الغامض الرهيب لردود فعل اللاعبين.

تتمة المقال بعد الإعلان

ويحتار المعلق الأمين بين التعمق في وصف تحركات اللاعبين سنة 1900، وخلفيات ردود فعل المتفرجين، أما المتلاعبون المهزومون، فإن التاريخ لم يحفظ لهم لا في عصرنا ولا في عصور سبقتنا، ولا في أي عصر من العصور الخوالي، أي وجود أو تواجد، إن المتلاعبين ينصهرون في البخار التافه كالسيجارة، لا يذكرها أي مدخن لأنه لا يكاد يحدد موقعها بين آلاف السجائر التي أحرقها، ولأن المتلاعبين كالسجائر، صنعت لتحرق دون أن تخلف أي أثر يذكر.

وسواء ابتدأ العرض بوصف أنشطة اللاعبين – وقد تم التوسع في جزئياتها – أو اهتم في أول الأمر بردود فعل المتفرجين، وقد كانوا لحد الآن على الهامش، فإن النتيجة كانت واحدة.. فقد فرض المتفرجون وجهة نظرهم على الأحداث وعلى التاريخ، وحصل المغرب على استقلاله وهب لتوحيد ترابه.

لقد شهد التاريخ أن الشعب المغربي قدم أروع الأمثلة في الصبر والثبات في كل الظروف والأحوال منذ اندلاع شعلة المناورات الاستعمارية في أواخر أيام الحسن الأول، وعلى مدى السنوات الطوال التي أعقبته، لكنه لم يلبث أن يترك مقعد المتفرج ليتدخل لفرض النتيجة التي تتوافق وآماله وطموحاته.

وهو تحول كانت مفاجأته – ولا شك – خافية عن علم المتناورين، والدهاة، والمخططين الأجانب.. لقد شاهدنا كيف كانوا يتصرفون في تخطيطهم لاحتلال المغرب وتقسيمه، واستغلاله وكأنهم يقررون مصير قطعة من الحلوى جامدة قابعة في صحن بين أيديهم .

لكن تطور الأحداث، بعد شروع المستعمرين في تنفيذ مخططاتهم، جعل عامل رد الفعل الوطني المغربي يدخل في الحساب فيفرض عليها الاختلال، وتتبعثر الخيوط بين الأصابع الخفية والظاهرة، وتنجلي القضية المغربية في أبهى مظاهر الجلاء والوضوح مثالية المبادئ، متناسقة العناصر، قوية الأساليب.

لقد برزت القضية المغربية من خلال الرد الوطني النبيل منطلقة من أربعة قواعد:

– أولا: إن المغرب المسلم جزء واحد لا يتجزأ متماسك الأطراف موحد الأهداف ليس من شأن المناورات والمؤامرات، مهما بلغ عتوها، أن تلهيه عن حقيقة اختياراته، ولا للخلافات الداخلية والأزمات الاقتصادية أن تدفعه للاستسلام، وأن حدوده الطبيعية المتوارثة عبر الحضارات المرابطية والموحدية والسعدية والعلوية، لن تكون محط مساومة ولا تنازل، وإنه كلما مس مكروه جماعة من المغاربة في وادي الذهب، فإن قبائل المغرب كلها تهب لنصرته، وكلما هدد خطر جماعة أخرى في توات، هبت القبائل المغربية كلها لنصرة إخوانهم بها كما يهب التواتيون والدليميون وجنود ماء العينين لنصرة القبائل المغربية في الريف والأطلس لدرء الخطر الداهم، وستظهر تفاصيل هذا التحالف والتضامن فيما سيأتي من أحداث.

– ثانيا: إن الشعب المغربي في حدود دولته القوية، وعلى أساس احترام الدول الأجنبية لاستقلاله، كان في عهد الملك العظيم الحسن الأول واثقا كل الثقة في هذا الرجل الشهم العظيم، الذي كان الشعب ينظر إليه بإعجاب كبير وهو يخوض معاركه الدبلوماسية السياسية والاقتصادية والإصلاحية، ولقد أظهرت الأحداث التي سردت عن عهده في الجزء الأول من هذا الكتاب، الدور الأساسي الذي كانت تلعبه رسائله، والطاعة التي كان يمتثل بها رعاياه لتعليماته.

وتكاد الأحداث والحوادث التي توالت في عهده، سواء على الجبهة الداخلية، أو على الحدود الجنوبية مع السنغال، أو في المناطق المجاورة للجزائر المحتلة، لم تكن تلك الأحداث تتعدى إطار الحوادث المحدودة الأثر، ولن تكون – لو كانت هناك صحف – لا تستحق أن تدرج إلا في الصفحات الداخلية، إذن، فقد كان الأمر متروكا لهذا الملك، ولا ثورة ولا تمرد ولا هجوم.. فقد كان الشعب مطمئنا على انتمائه لدولة مصونة بكل ما في الكلمة من معنى، وأنه لا مبرر إطلاقا للقيام بأي ما من شأنه التشويش على ملك جعل عرشه فوق فرسه.

– ثالثا: وعندما مات الحسن الأول في ظروف غامضة، قدر الشعب مدى خطورتها، وتم تنصيب أصغر أبنائه مولاي عبد العزيز، ليتسلم مقاليد الأمور، رغم أن الحسن الأول خلف أبناء آخرين أكثر حنكة وتجربة وممارسة، ولم يبق خافيا على الرأي العام الوطني أن مناورة مكشوفة تدبر في السر والعلن لاحتلال المغرب، بينما الفراغ على مستوى السلطة العليا كان جليا، إذ أخذت الرياح تسير بما تشتهيه سفن الطامعين، بينما ربان السفينة المغربية عاجز عن القيام بدوره القيادي، والسير بهذه السفينة في خضم التيارات العاصفة، بل إن خلف الحسن الأول لم يكن إلا صوريا بينما كانت كل بوادر الريبة تحيط بالمجموعة المحيطة به.

وأصيب الرأي العام الوطني بخيبة أمل، ولم يبق قابلا للاكتفاء بممارسة الفرجة والتصفيق على ما كان يسجله قائده الحسن الأول من إصابات.

– رابعا: وعلى أساس العناصر الثلاث السابقة، وأمام الإقدام الاستعماري على تنفيذ مخططاته في احتلال المغرب واستغلال ظروف العجز الكلي على مستوى القيادة، وبعد أن أصبح الجهاز الحكومي والإداري خاضعا لنفوذ ضباط ومستشارين أجانب، بينما بدأت القوات الأجنبية تحتل بعض المناطق، وتنزل جيوشها في بعض الشواطئ وترفع أعلامها على بعض الأبراج، وأصبح من حكم البديهي أن القيادة العسكرية الفرنسية في وهران تخطط لاحتلال مناطق توات وكورارة وتيدكلت، بعد ما احتلت تمبكتو في الجنوب، فإنه لم يبق للشعب المغربي إلا اختيار واحد، وهو الجهاد ضد الاحتلال الأجنبي، وضد العملاء والخونة والمتواطئين في العاصمة وفي المدن الكبرى مع الاستعمار.

فكان الجهاد هو رابع العناصر الأساسية لرد فعل الوطن المغربي تجاه تدهور الأوضاع وأخطار الاحتلال.

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى