المنبر الحر | معضلة التوجهات القضائية في القانون (1)

بقلم: محفوظ أبي يعلا
محامي بهيئة تطوان
إن من الأمور المشهورة في المجال القضائي والقانوني، أن القضاة يحكمون طبقا للقانون، فهذا المبدأ، أو القاعدة، يعرفها القاصي والداني، ومعناها، أن القاضي لا يمكنه أن يحكم بالرأي، أو بقناعاته الشخصية، أو بالهوى، وإنما ينبغي عليه أن يرجع للقواعد القانونية ويطبقها على النوازل والوقائع، بل وحتى على المساطر القضائية بشكل سليم.
ونجد أصل هذا المبدأ في الدستور باعتباره أسمى القوانين، إذ ينص الفصل 110 من الدستور على أنه: “لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون، ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون”، وتطبيق القانون يخضع له حتى قضاة النيابة العامة، إذ ينص الفصل 110 أيضا على أنه: “يجب على قضاة النيابة العامة تطبيق القانون”.
علاوة على ذلك، نجد أن قانون المسطرة المدنية ينص في الفصل 3 على أن القاضي يبت دائما طبقا للقوانين المطبقة على النازلة ولو لم يطلب الأطراف ذلك بصفة صريحة.
والدارس للقانون، يدرك أن كلمة “يجب” التي نجدها في النص الدستوري، تعني أن المشرع يتحدث عن قواعد آمرة لا يجوز مخالفتها بأي شكل من الأشكال، على عكس القواعد المكملة، وعليه، يمكن القول إن تطبيق القانون هو عماد العمل القضائي، وأن التطبيق السليم له هو ما يمكن أن نسميه “عدالة”، على أساس أن العدالة، بعيدا عن أي تصور مثالي، ليست سوى التطبيق السليم للقانون.
انطلاقا مما سبق ذكره، يأتي سؤال هذا المقال عن تطبيق القانون ومعضلة التوجهات القضائية: هل التوجه القضائي أسمى من القانون؟ وهل فعلا نحن أمام معضلة اسمها التوجه القضائي؟
إن حديثنا عن معضلة التوجه القضائي، بما تعنيه كلمة “معضلة” لغة، أي الطريق الضيق المخارج، أو الأمر المشتد والمستغلق، حديث فيه إشارة إلى كون الكثير من التوجهات القضائية لا تُيسر (من التيسير) على المتقاضين دعواهم، لاسيما وأن مصاريف التقاضي مرتفعة، ومن شأن الحكم بعدم قبول الدعوى، بناء على توجه ما – قد لا يكون بالضرورة سليما – أن يؤدي إلى يأس المتقاضين من اللجوء إلى المحاكم، كما يوقع المحامين في الإحراج حين يقدمون الاستشارات أو المساعدة القانونية، إذ أنه لا يمكنهم أن يؤكدوا لموكليهم أو للمتقاضين مآل مسطرة ما، خاصة لو كانت هذه المسطرة، أو لو كان موضوع الاستشارة، فيه أكثر من توجه، وهكذا، فإن المتقاضي أو الموكل يفقد الثقة في المحامي، وفي القضاء أيضا، ويستحضر الرأي القديم أنه لا يوجد شيء مؤكد في المحكمة وفي أعالي البحار!
والحقيقة، أن الهدف من إقرار القاعدة القانونية هو الحد من التوجهات القضائية، فالتوجه يعني أنه رأي سارت عليه محكمة في منطقة معينة، أو قاض في محكمة ما، في حين أن القاعدة القانونية ينبغي أن تكون عامة ومجردة، وبالتالي، فإنها تجعل من القانون أمرا واضحا، وبيّنا، من الواجب أن يطبق في كل مكان وعلى جميع الأشخاص، ثم إن القواعد القانونية التي تتصف بالعمومية والتجرد، تؤدي إلى تحقيق العدالة وقواعد الإنصاف، فأمام أي نازلة من النوازل، من المفروض أن يؤدي التعليل المؤسس على القاعدة القانونية، إلى استنتاجات منطقية وعقلانية تنطبق على مختلف النوازل المشابهة، بيد أننا نجد أنه رغم تشابه النوازل، فإن التوجهات تختلف من محكمة إلى أخرى، ومن قاض إلى آخر.
ومن المعلوم أن دور القضاة يختلف حسب الأنظمة القضائية، فإذا كان دور القضاة في النظام القانوني الأمريكي – مثلا – يشمل حتى التشريع وتأسيس قواعد قانونية جديدة، فإن القضاة في الأنظمة القانونية اللاتينية ليسوا سوى منفذين للإرادة السياسية للدولة وللمشرع، وبالتالي، كيف يمكن تفسير العمل بالتوجهات القضائية إذا كان إعمال التوجه يصطدم بالنظام القضائي المغربي المتأثر بالنظام اللاتيني؟