الحقيقة الضائعة | مروض التيران.. التحالف التاريخي بين إسبانيا وفرنسا ضد المغرب
المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية "الحلقة 50"

تفاجأنا في “الأسبوع” بكم هائل من رسائل القراء، وخصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تطالبنا بالاستمرار في نشر كتابات مؤسس جريدتنا، المرحوم مصطفى العلوي.
وتلبية لطلب هؤلاء القراء الأوفياء المتعطشين لصفحة “الحقيقة الضائعة” التي غابت عنهم هذا الشهر، تعود هذه الصفحة بقلم الراحل مصطفى العلوي لتقديم جزء مما تركه من مؤلفات ذات قيمة تاريخية.
كتاب “المناورات الأجنبية ضد السيادة المغربية” الذي صدر في خمسة أجزاء، نستهلها بنشر الجزء الأول الذي يهتم بالمراحل التي كان عليها المغرب قبل الاحتلال، أيام السلطان الحسن الأول، ثم مراحل الاحتلال، ومراحل مقاومة الاحتلال، ثم الاستقلال في الأجزاء التالية، حيث سيجد القارئ عناصر تنشر لأول مرة.
تتمة المقال بعد الإعلان

إن الاتجاهين المتخالفين في أسلوب احتلال المغرب، والواردين في خطاب جان جوريس (اتجاه الضباط المتواجدين في الجزائر) واتجاه الوزير ديلكاسي (احتلال المغرب عن طريق التغلب على السلطان)، يؤكدان دهاء المقيم العام مايي، الذي أرضى بمخططه الاتجاهين ووحد بين الصالح من اختياراتهما، ونصح في جملة واحدة بالحل الذي يرضي الوزير ديلكاسي، والضباط العسكريين.
ذلك أنه كان على فرنسا أن تكسب رهانا لا تسمح تركيباته بالمزايدات الكثيرة، كما لا تسمح أبدا بارتكاب الأخطاء.
وكان روني مايي بالنسبة لفرنسا أشبه ما يكون بالمتطوع الذي ترسله فيالق الجيش للدخول في منطقة الأعداء واستكشاف الأخبار، وتحديد المواقف، ومهما كان عتو الجيش، فإنه – على أية حال – يعتمد على ما يأتيه من ذلك المتطوع من أخبار، وهذا ما يفسر سير فرنسا في الطريق الذي اختطه مايي وهو مقيمها العام في تونس، وقد كان ينظر من تونس إلى المحيط الأطلسي نظرة لا يلام عليها كل الطامعين الذين نواخذ عليهم اليوم طمعهم.. لقد كان مايي قبل عدد من الساسة اليوم، ينظر إلى هذه الكنوز الغنية التي تزخر بها هذه المناطق الشاسعة بين قابس وبوجدور، وكنوز ومعادن وثروات وطاقات ومستكنهات، شعب واحد، ولغة واحدة، ومصادر متكاملة، بحر وثلج، سمك وجمال، وديان وجبال، والكل منصهر في بوثقة واحدة اسمها المغرب، بوثقة أشعت أنوارها منذ القرون الطوال، وأعشت خبراء الاستعماريين قبل أن يتسرب نورها إلى عقولنا وأفئدتنا، وبعد أن فقدت عقولنا رشدها وقولبنا ارتباطها في تيار النسيان والتناسي، وانقطاع التيار الإسلامي الذي جرف رمال الصحراء، ووحد بين الناطقين بلغة الضاد من الينبوع إلى بوكراع.
ولم يكن الفرنسيون ولا الإنجليز ولا الألمان – كما استعرضنا – وحدهم في حلبة السباق إلى غزو المغرب، وهل هناك حلبة بدون مروض الثيران؟
مناورات إسبانية على مستوى “دون كيشوط”
إنه لا حلبة بدون ثيران، ولا فرجة بدون مروض الثيران، ولا احتفال بدون قتل الثور، ولا قتل للثور بدون مناورات، ولا مناورات بدون مناورين، ولا مناورين بدون متفرجين، ولا متفرجين بدون موت الثور، ولا موت الثور بدون حلبة، والحلبة والثور من اختصاص الإسبان..
وكما أن الانتصار في حلبات اغتيال الثيران تنتهي بالفوز، وكما أن الفوز يتمثل في اقتطاع ذنب الثور، فإن المناورات السياسية الإسبانية كانت دائما وأبدا تنتهي باقتطاع الذنب، وليست الصحراء الغربية إلا ذنب الثور/ المغرب، لذلك كانت من نصيب إسبانيا.
ولقد كانت المناورات السياسية الإسبانية في المغرب قديمة قدم لعبة “طوريرو”، أو لعبة الثور.
فقد كان المغرب /الثور – وها نحن مثلما كنا مع الفرنسيين نزاول فلسفة ابن المقفع – جافلا ثائرا في وجه أعدائه، سواء كانوا يعتبرونه أرنبا أو ثورا، حلبة أو بستانا، وإنما كانت أطماعهم واحدة ومراميهم متوحدة، إنجليز كانوا أو فرنسيين، ألمانيين أو إسبان، إنما الأسباب متعددة والموت واحدة.
لقد كانت هناك عدة نقط مشتركة تجمع بين عناصر الاستعمار الإسباني والفرنسي، فبينما كان الفرنسيون متواجدين على حدود المغرب مع الجزائر، كان الإسبانيون في موقعين أهم، وهما: مليلية وسبتة، كما كان التدخل الإسباني المباشر في الصحراء الغربية، بمجرد إمضاء اتفاقية برلين، يشكل عاملا أساسيا في خلق التوازن بالنسبة لمخططات فرنسا لاحتلال الصحراء الشرقية، واستفادت إسبانيا رغم ضعف موقفها الدولي، وانهيارها الاقتصادي، وأسمالها المتساقطة بعد طردها من أمريكا الجنوبية، من عنصرين غريبي التكوين بعيدي المدى.
أولهما: عجز السلطان عبد العزيز عن الصعود إلى مستوى الصراع السياسي العالمي، وإحجامه عن كل محاولة للتفاهم مع إسبانيا في عزلتها، وعدم معاملتها على أساس أنها دولة جارة يربطها بالمغرب تاريخ مشترك عريق، ولا شك أن هذا التهاون والاستهانة بالإسبان كان مرجعهما مخلفات حرب تطوان من جهة، والروح الاستعلائية التي كانت تهيمن على الرأي العام المغربي تجاه الإسبان، هذا الشعب الذي كان مستعمرة للمغرب غير خليق باهتمامنا، وحتى على مستوى الدولة، كانت الشائعة الشعبية تضع الإسبان في المرتبة الأخيرة والدرجة المهانة.. لقد كان ساسة ذلك الوقت عندما يحللون التعامل مع الفرنسيين أو الإنجليز أو الإسبان، يقولون: ((إن الفرنسيين يتكلمون جيدا ولا يدفعون شيئا، والإنجليز يدفعون جيدا ولا يتكلمون إطلاقا، أما الإسبانيين، فإنهم لا يتكلمون ولا يدفعون)).
وثاني العنصرين: هو أن فرنسا بدهائها وذكائها، كانت ترى في إسبانيا الشريك الضعيف المتواضع الطلبات في الاقتسام المحتمل للمغرب، وهي شريك أقل خطرا من إنجلترا أو ألمانيا.
وهي وضعية تطابق الاسم على المسمى، خصوصا إذ عرفنا أن “دون كيشوط” بطل أسطورة إسبانية، كثير من الهيلولة، وانعدام للإمكانيات، ومن نكد الدنيا على المغرب أيضا، أن يرى وهو في انتكاسة قيادته، دولة ضعيفة مثل إسبانيا تتفق مع فرنسا على سبل اقتسامه، حيث كانت المناورات بين فرنسا وإسبانيا جارية على أساس استعمار المغرب بواحدة من الطرق الثلاث: الفتح بالقوة، أو الحماية، أو إقامة نفوذ داخلي.
ولا أحد يعلم سر النفوذ الذي كان يمارسه الدوق دالمود وفا، وزير الخارجية الإسباني، على الوزير الفرنسي ديلكاسي، صاحب مشروع غزو المغرب عن طريق الاستيلاء على السلطان.. حتى أن ديلكاسي استطاع تقديم تنازلات كبيرة لفائدة إسبانيا في مخطط يقضي بتقسيم المغرب المستقل.
وعلى غرار المشروع الألماني، مشروع موهر، المذكور سابقا، والمستهدف لتقسيم المغرب هو أيضا، لكن على أساس “نحن الإثنان”، إسبانيا في الشمال، ويمتد نفوذها من مصب سبو على المحيط حتى إلى ملوية، بما في ذلك من مدن فاس وتازة والقصر والعرائش والريف، وإسبانيا أيضا في الجنوب من قمم الأطلس أكادير وطرفاية مرورا بإيفني وكل أحواض واد درعة وواد نون وماسة وواد سوس، والباقي طبعا لفرنسا.
وبذلك تكون إسبانيا أول دولة تعترف – بمقتضى هذا الاتفاق – بالنفوذ الفرنسي على مناطق توات والساورة وكورارة، وباقي أقاليم المملكة.
ولكن أمنية فرنسا لم تتحقق بسهولة، إذ سرعان ما سقطت حكومة الأحرار الإسبانية، التي كانت ستحصل على هذه الغنيمة في دجنبر 1902، وجاءت حكومة المحافظين برئاسة سيفيلا، الذين لا يثقون في أن فرنسا من القوة والهيبة بحيث تجعل إسبانيا في مأمن من غضبة الإنجليز.
ثم إن النعرة الاستعمارية الفرنسية، وجدت سقوط الحكومة الإسبانية فرصة للتنديد بتنازلات ديلكاسي، وكثفت هذه النعرة خبايا المدلولات الحقيقية للتنازلات الفرنسية عن أرض سيتم استعمارها مستقبلا.. فهل فهم واحد من القراء مدلولات هذا التقسيم ؟
لا شك أن القارئ بعيد عن تقدير خطورة هذا التقسيم ما دامت هذه المناورات كانت دائرة في ظروف عالمية تفصلنا عنها ثمانون سنة، فلنرجع إذن، إلى ثعلب السياسة الفرنسية، روني مايي، حين فسر مدلول غلطة الوزير ديلكاسي بقوله: ((إن إعطاء فاس لإسبانيا، معناه أن طريق المحيط الأطلسي ومنافذ سهول المغرب الغنية، ستكون مغلقة، حيث أن فاس تتحكم في ممر تازة الوحيد بالنسبة لنا للدخول للمغرب، إن هذا الاتفاق يعني تسليم مفاتيح البيت لإسبانيا)).
وهكذا نجد روني مايي، المقيم العام الفرنسي بتونس، يشبه المغرب بالبيت، بيت أبيه أو جده.
ويتبلور الجانب الثعلبي للمقيم العام الفرنسي بتونس، حين يبرر معارضته للاتفاق مع الإسبان، ويعارض في تسليمهم مفاتيح البيت بأن يقول: كيف ستكون حكومة المغرب مجزأة بين عاصمتين، فاس ومراكش؟ وهل سيكون بإمكان السلطان تغيير الحامي عند انتقاله من عاصمة لأخرى؟ ثم يتساءل ثعلب السياسة الفرنسية مفصحا عن حقيقة ما يخالج نفسه ويقول: لكن.. أولا، هل سيكون هناك سلطان؟
وبعد أن كسبت فرنسا موافقة إسبانيا على لعبة ترويض الثور المغربي المنهك، وأبعدت فرنسا منافسها الأول بريطانيا، بإعطائها مصر مقابل تنازلها عن المغرب، وتمكنت سهام المناورات والمؤامرات والخيانات من توسيع الجروح، وانهمرت الدماء جارفة من الجسم النبيل العظيم، أصبح بإمكان البطل أن يوجه الضربة القاضية إلى الهيكل الجبار.. الذي كانت كل العوامل قد مهدته للانهيار.